[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
أنا من المؤمنين بأن الأفق النظري ينبغي أن يكون متقدمًا على الواقع العملي ونحن اليوم نعيش وقائع حاسمة وتاريخية، وجزء من هذه الوقائع هو إشكالية اغتيال الثورات، بدأت الثورات بالفعل وليس من شك أنه ستتلوها ثورات ومن المهم أن نؤسس لإنقاذ هذا المسار وإيصاله إلى الشاطئ الآمن.
في عام 1948م كانت هناك محاولة ثورية ضد الإمام في اليمن ولم تنجح الثورة وانقلب إمام اليمن على معارضيه شنقًا وتقتيلاً, وكان هناك أسباب منها: قصور ذاتي للثورة، ومنها ميزان القوى المختل, وكتب بعد ذلك الشاعر عبد الله البردوني شاعر اليمن تعليقًا شعريًّا يصف ذلك فقال:
والأباة الذين بالأمس ثاروا *** أيقظوا حولنا الذئاب وناموا
حين قاموا قمنا بثورة شعب *** قعدوا قبل أن يروا كيف قاموا
ربما أحسنوا البدايات لكن *** هل يحسون كيف سـاء الختام
مشكلة الثورات ليست في البدايات, وإنما كما قال الفقيه السياسي الفرنسي مؤلف كتاب "الديمقراطية في أمريكا" وهو كتاب من أمهات الفكر السياسي في العالم، قال: إن الثورة مثل الرواية الأدبية أصعب ما فيها خاتمتها، أصعب ما يفكر فيها كاتب الرواية هو كيف يصل إلى عقدة ونهاية جميلة للقصة، فالثورات نهايتها لا بداياتها, تلك النهايات التي أساء فيها ثوار اليمن رغم إحسانهم في البدايات.
تعارض الحق والقوة في المجتمعات:
لماذا الثورات أصلاً وما هي أسباب الثورات؟ هناك أسباب وشروط كثيرة للثورات، أعتقد أنها عدة شروط:
1- ضعف الثقة بين القيادة والشعب، هذا من الشروط السابقة على كل الثورات، وضعف الثقة بين القيادة والشعوب موجودة في مجتمعاتنا ولها جذور قديمة، أقول أنها بدأت منذ عام 38هـ ولم تبدأ اليوم، ابن كثير يروي في البداية والنهاية أن معاوية بن أبي سفيان جاء إلى المدينة فتلقته عائشة بنت عثمان رضي الله عنها تشكو وتندب وتبكي حزناً على أبيها الشهيد عثمان, وتحرضه على الاستمرار في تعقب قتلة والدها، فقال معاوية: "يا ابنة أخي إن الناس قد أعطونا سلطاننا فأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، وأظهرنا لهم -ما معناه- قبولاً تحته غضب فبعناهم هذا بهذا وباعونا هذا بهذا، فإن نكثناهم نكثوا بنا ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا".
فمشكلة الثقة بين الحاكم والمحكوم في المجتمعات التي تحكمها سلطة غير شرعية هي شرط من الشروط السابقة على أي ثورة.
2- تخلف القيادة عن الشعب سواء كان تخلفًا فكريًّا أو علميًّا أو اجتماعيًّا إذا أصبح المجتمع يرى أن هذه السلطة لا تمثله ولا ينبغي لها أن تمثله وليست على مستوى من يقوم بالتنفيذ, فهنالك أزمة قد تقود إلى ثورة.
3- المظالم المزمنة من أسباب الثورات، وجوهر الأمر هنا هو تعارض الحق والقوة في أي مجتمع، وهو الانشطار الذي يهدم المجتمعات ولا يمكن التئامه بدون ثورات، وجوهر الإسلام هذا التلاقي بين الحق والقوة, بينما يسميه محمد إقبال نفي الذات وإثبات الذات، ويقول: "سجود الجندي أعظم من سجود جنيد"، فسجود الجندي يسميه زهد المقتدر وزهد الملوك, كلها مصطلحات لنفس المعنى وهو التلاقي بين الحق والقوة.
القوة المقيدة بالحق، والحق المزود بالقوة هذا الذي تقوم عليه المجتمعات الصحيحة، إذا وجدت الحق في أي مجتمع بجانب والقوة في جانب آخر, فهنا انشطار لا يمكن التئامه بدون ثورات، لكن كل هذه شروط سابقة وليست المفجر الحقيقي للثورة.
توجد مجتمعات كثيرة فيها قمع وفيها تخلف وفيها ضعف ثقة بين القيادة والشعب وفيها مظالم لكن لا تقوم ثورات، هنالك مفجر تحتاجه هذه المجتمعات هو الإحياء المعنوي، فالاستبداد يميت الناس ماديًّا فإذا جاء من يحييهم معنويًّا فإن هذه الإماتة المادية وهذا الإحياء المعنوي يؤديان إلى تلاقي الانفجار الثوري، ولذلك قال الفيلسوف الألماني هيجل: إن الناس يتحركون حينما يؤثرون الحرية على الحياة، وهذه قاعدة تاريخية، حينما تجد في أي شعب إيثار للحياة عن الحرية فذلك الشعب سيؤثر العبودية، وإذا وجد في الشعب من يؤثر الحرية على الحياة فهو لن يعيش مستبعدًا أبدًا.
حينما تجد هؤلاء الشباب في القاهرة يلتقون بقوات القمع بصدورهم العارية ويسقطون ولا يغير ذلك من شيء يستميتون، هؤلاء جيل جديد ممن يؤثر الحرية على الحياة وبذلك يستحق الحرية.
الحاجة للإجماع حول المبادئ العريضة:
للثورات ديناميكيات، أولاً تحتاج الثورة إلى كتلة تاريخية أو كتلة اجتماعية ضخمة، لا يمكن أن تقوم الثورات على أكتاف حزب أو حركة أو طائفة، مأساة مجتمعاتنا أن الصراع السياسي كان صراع بين الحركة السرية وتسمى الحركة الإسلامية أو الشيوعية وغيرها وبين حركة سرية أخرى اسمها المخابرات العامة أو جهاز الأمن؛ فهو صراع بين حركتين سريتين، وهذه مشكلة لا تؤدي إلى ثورات، الثورات هي تدافع اجتماعي ضخم ولا بد أن يكون شجاعة في العمل العلني، الشجاعة الحقيقية هي في العمل العلني في المدافعة العلنية وهي التي تغير المجتمعات.
الثورة تحتاج إلى قيادة، والقيادة والحمد لله في زمن الإنترنت هي قيادة انسيابية وهذا ما يجعل من الصعب استهدافها واستئصالها وليست قيادة هرمية, وهذا من أسباب نجاح الثورة في تونس ونجاح الثورة في مصر وهي أنها قيادة انسيابية، المركز اعتاد على قيادة هرمية تطارده ويطاردها أصبح الآن يطارد أشباحًا تمسكه حيثما حل ولا يدركها مثلما قال سلمة بن الأكوع للمشركين: "والله لا أقربكم فتفوتونني ولا تقربونني فتدركوني"، فهذا النوع من القيادة الانسيابية تجعل المجتمع اليد العليا ضد السلطة الهرمية.
- الثورة تحتاج إلى خطاب: وخطابها لا بد أن يكون بسيطًا وأن يكون خطابًا إجماعيًّا تجمعها المبادئ وتفرقها البرامج، ومن أهم نجاح الثورات ألا تخوض في البرامج وتركز على المبادئ العريضة لأن الشيطان يكمن في التفاصيل ولا مجال للاختلاف في أوقات الثورات.
الاستئصال لا يقود لتحول ديمقراطي:
تاريخيًّا هناك ثورات يمكن أن نعتبر بها، فالثورة البريطانية كان دورها إصلاحيًّا داخل المؤسسات وهي تحتاج إلى أن تدرس، فبعض المجتمعات العربية قد يصلح لها هذا النموذج، لأنه إصلاح من داخل المؤسسة وفي النهاية تقوية المجتمع تجاه الدولة شيئًا فشيئًا حتى يأخذ المجتمع حريته كاملة، ففي الثورة البريطانية بقيت الدولة وهيكلها وحتى الأسرة حاكمة فيها كما كانت وحصل المجتمع على حريته.
وهنالك الثورة الفرنسية وهي ثورة عنيفة استئصالية ضد السلطة السياسية السلطة الدينية في ذات الوقت لأن من شعاراتها اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس، كانت الثورة ضد الكنيسة وضد المملكة في ذات الوقت، لكن لأنها استئصالية تعثرت كثيرًا، الثورة الفرنسية لم تكن ناجحة هي نجحت وفشلت، وجاء إمبراطور بعد ذلك وجاءت ثورة أخرى وأعتقد أن من أسباب التعثر للتحول الديمقراطي في العراق إضافة إلى العامل الخارجي هو أنه جاء بمنطق استئصالي, ولذلك ليس هناك تحول ديمقراطي حقيقي حتى الآن.
الثورة الأمريكية أعتقد أنها كانت أعظم الثورات الأوربية على الأقل؛ لأنها كانت ضد الاستعمار وضد الاستبداد في نفس الوقت, فهي أولى الثورات بأن ندرسها لأنها لم تعان من الاستبداد فقط وإنما من استبداد مدعوم باستعمار، الأمريكيون ثاروا على ملك بريطانيا كسلطة ملكية وعلى استعمار بريطانيا في ذات الوقت، فأرادوا التخلص من الاستبداد والاستعمار بضربة واحدة ونجحوا في ذلك لأنه قادها أناس في غاية التنور، كل الفكر التنويري الأوربي طبقه الأمريكيون ونجحوا في تطبيقه فيما فشل فيه الفرنسيين الذين أنتجوا هذا الفكر.
وقلت مرة لأحد أساتذتي في جامعة تكساس: أعتبر أن العبقرية الأمريكية هي عبقرية التطبيق، قال لي: كيف؟ قلت له: كل الأفكار الكبرى التي أنتجها الأوربيون في عصر التنوير فشلوا في تطبيقها ونجحتم في تطبيقها..وانظر الثورة الفرنسية مثلاً كانوا متنورين فنجحوا في دولة مركبة ضد الاستبداد والاستعمار في نفس الوقت، ولذلك لما نجحت الثورة الأمريكية تقدم أحد المقربين من جورج واشنطن وقال: لماذا لا نبايعك ملكاً على أمريكا؟ فقال جورج واشنطن: لا، إن الشعب الأمريكي الذي بذل الدم ليتخلص من جورج الثالث لا يمكن أن نأتيه بجورج الأول ونحطه مكاني فرفض ذلك.
الثورة الإيرانية فيها عبرة كثيرة طبعًا هي ثورة عظيمة وناجحة ولكن أعتقد أن مشكلتها أنها كانت ثورة ضد العالم وليست ضد النظام, وكان ذلك نقطة الضعف التي جرت لها كثيرًا من المتاعب.
خماسية اغتيال الثورات:
الصراع الذي يؤدي إلى اغتيال الثورات هو صراع على خمس جبهات: صراع إرادة، صراع وعي، وصراع صورة، صراع تسديد، وصراع وحدة.
أما صراع الإرادة فهو الجبهة الأولى بين الثورة والقوة المضادة للثورة، وفي الغالب تبدأ ردة الفعل على الثورة بالقمع؛ لأنها مسألة إرادة ولا تحتاج إلى تفكير أو تخطيط، وإنما تحتاج في هذه المرحلة إلى صلابة الإرادة، وقد حاول زين العابدين بن علي في تونس ويحاول حسني مبارك في مصر كسر الإرادة للمصريين وفشل في ذلك.
هنالك جبهة الوعي، فالثورة المضادة تتصارع مع الوعي؛ لأنها قائمة على تزييف وعي الناس بما يحدث ولا بد من انتصار الوعي.
الصورة هي الجبهة الثالثة؛ لأن الثورة لها سمعتها ولا بد أن تبقى ناصعة في أذهان الناس، فإذا لم تبق ناصعة في أذهان الناس فإنها لن تنجح، وتسعى القوة المضادة للثورة إلى تلطيخ سمعة الثورة بأي وسيلة دعائية أو أشخاصها أو مبادئها.
ثم تأتي جبهة التسديد, وسوء التسديد هو أسوأ ما يصيب الثورات، في تاريخنا الإسلامي هنالك حركة ثورية تسمى الخوارج، وكانوا أشجع الناس في التاريخ الإسلامي إذ لا يوجد أعبد ولا أشجع ولا أصدق من الخوارج، لكن مشكلتها كانت في سوء التسديد، وهذه حركة تحولت من الثورة ضد النظام إلى الثورة ضد المجتمع وتكرر هذا النموذج مع بعض الجماعات، تحاول قوة الثورة المضادة أن تسحب الثورة إلى سوء التسديد وإلى أن توجه ضربتها إلى الهدف الخطأ.
أخيراً الوحدة، فعندما تقوم كتلة اجتماعية هائلة فإن القوة المضادة للثورة تسعى إلى التمزيق والتفريق داخل الكتلة، تجد مثلاً الإعلام الرسمي المصري يقول: إن الناس كلهم غادروا ميدان التحرير ولم يبق سوى الإخوان المسلمون وهذا نوع من محاولة الدعاية للتفريق.
اغتيال الثورات يكون أحياناً بسرقة ثمرة الثورة، تبدأ معركة الإرادة فإذا ما انتهت تبدأ معركة التزييف والتلطيخ وسوء التسديد فإذا فشلت كل هذه تبدأ الجولة الأخيرة وهي قطاف الثمرة، تحاول القوى المضادة للثورة أن تحرم الذين نجحوا في الثورة من قطاف ثمرة ثوراتهم، وأحيانًا تتحول بقدرة قادر القوى التي كانت تحارب الثورة إلى قوى ثورية نفاقًا من أجل أن تحصل على الغنائم، ولذلك تجد الآن في تونس ومصر من كانوا في النظام يبدءون يتبرءون، أحد القادة المرموقين في الحزب الوطني الحاكم بمصر يقول: أنا تركت الحزب منذ 18 سنة فيبدأ التملص، ومن أسباب هذا محاولة أخذ نصيبهم من الحرب التي خاضوها في المعسكر الخطأ.
مقترحات استراتيجية لقادة الثورة الشبابية المصرية:
نظام حسني مبارك بدأ باستراتيجية احتواء الثورة حاول بالقمع وفشل فيه, ثم بدأ باستراتيجية الاحتواء، واستراتيجية الاحتواء والتخذيل بدأها من خلال رسائل مطمئنة مفادها أنه لن يكون هناك عنف ضدهم وحصرهم في حيز جغرافي واحد، ولذلك أرى أنه ورغم أهمية ميدان التحرير للثورة المصرية لكن تركزها في مكان واحد أصبح خطرًا عليها الآن، بدأ ببث الفوضى طبعًا هو أمام الخارج, لا يمكن أن يقمع الثورة ولكن حاول وبتنسيق مع حلفائه الغربيين أن يضربها ضربة غير واضحة حتى لا تحسب عليه ضربة أمنية مركبة ومخططة، ولذلك لما فشلت جاء رئيس الوزراء وكرر الاعتذار المعروف، فالفشل لا أبًا له لكن النجاح فآباؤه كثر.
الثورة كما هي في مصر كانت قائمة على أساس الاستنزاف في الأيام الماضية، أما الآن فلا بد عليها أن تنتقل لاستراتيجية الحسم، لأن استراتيجية الاستنزاف يمكن لها أن تستمر إذا كان هناك ضمان بعدم انجرارها للعنف وعدم رجوع القوى القمعية إلى الساحة، لكن التجارب أثبتت أن القوى القمعية يمكن لها أن ترجع، ولذلك لا بد من الانتقال إلى مرحلة الحسم؛ لأن مرحلة الاستنزاف قد لا يسمح بها الوقت طويلاً.
وبالطبع المعركة الكبرى لم تبدأ بعد في مصر، نظام حسني مبارك والحزب الوطني انتهى والجهاز الأمني انتهى، لكن المعركة الكبرى هي على ثمرات الثورة فتحضير شخصيات عسكرية لها صلات وثيقة أمنية ومالية وسياسية مع أمريكا وإسرائيل ومحاولة وضعهم محل حسني مبارك هذه هي المعركة القادمة في مصر، وأعتقد أنها ستكون المعركة الكبرى، معركة حسني مبارك حسمت وهي مسألة وقت، والمعركة الكبرى ستكون حول عمر سليمان ومن على شاكلته من الناس، وهنا ستكون معركة الوعي ومعركة الوحدة والنضج السياسي هي التحدي الكبير في المستقبل.
لن يستسلم الغرب بفقدان دولة بوزن مصر ولن يستسلم الإسرائيليون لذلك وإنما تؤخذ الدنيا غلابًا كما قال الشاعر، ونرجو التوفيق لمن يقفون وراء هذه الثورة المجيدة، ولا شك أن الثورة التونسية والثورة المصرية إلهام لكل الشعوب العربية، والمعركة ليست داخل تونس ومصر فقط وإنما القوى الغربية تسعى ألا يظهر نموذج ناجح في هذه المنطقة؛ لأن النماذج الناجحة تلهم والنماذج الفاشلة تؤدي إلى خيبة الأمل والإحباط، وهم يريدون إحباطًا ولا يريدون انبعاثًا معنويًّا في بلداننا.
ومن الواضح أخيراً أن هذه الثورات التي بدأت ستستمر في الدول العربية التي يحكمها عسكريون في العديد منها على الأقل، وإن من الحكمة أن تبدأ قيادات الدول العربية من الآن بمصالحة تاريخية بينها وبين شعوبها فقد آن الأوان أن تردم الهوة بين الحاكم والمحكوم وكل ما تشطر حياتنا وحضارتنا وثقافتنا, وأن نعود أمة مؤمنة بذاتها قادرة على بناء مستقبلها والإمساك بمصيرها.
المصدر: موقع إسلام أون لاين.