[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
فور عودة خدمة الإنترنت وجدت رسالة من صديق مذهول من حجم الأكاذيب التي تبثّها أجهزة الإعلام المصرية، ولكنه وقف حائرًا أمام مشهد فتاة ظهرت على إحدى الفضائيات المصرية وهي تدلي بكلام يصفه بأنه مفاجأة من العيار الثقيل ويطلب رأيي فيها, يقول في رسالته:
"إنها ناشطة من نشطاء الفيس بوك تعترف أنها تلقّت تدريبًا مكثّفا لمدة أربعة أيام في قطر والولايات المتحدة الأمريكية لقلب نظام الحكم وإسقاط النظام المصري، وأن منظمة صهيونية تسمى "فريدوم هاوس" هي التي تكفّلت بتمويل تدريبها وإيوائها، مع مجموعة أخرى من شباب مصريين ينتمون إلى قيادات 6 إبريل وشباب الإخوان المسلمين، وأن المدربين كانوا من إسرائيل، وكانت المنظمة تمنحها خمسين دولارًا, بينما كانت تمنح شباب 6 إبريل وشباب الإخوان خمسين ألف دولار"..
إلى آخر هذا الكلام الذي يدل على إفلاس تام للإعلام المصري وانحطاطه إلى الدرجة التي لم يعد قادرًا على حبك قصص متقنة الفبركة يمكن أن تنطلي على عقول المشاهدين ..
فمن الواضح أن القصة مزيفة بكل تفاصيلها المتناقضة، لقد أراد مؤلفها أن يجمع فيها أكبر عدد من الأهداف في حزمة واحدة يستحيل أن تجتمع إلا في خيال حشاش مدمن للمخدرات؛ حيث وضع إسرائيل وأمريكا مع قطر والإخوان المسلمين وشباب 6 إبريل في سلة اتهام واحدة..
والهدف المفضوح هو تشويه الثورة الشعبية التي أطلقها الشبان الأطهار على النظام القمعي, وقد صمدوا في ميدان التحرير وفي جميع المدن الأخرى بمصر أحد عشر يومًا في ثورة سلمية متواصلة..
واستطاعوا في يوم جمعة الغضب أن يجتذبوا إليهم ستة ملايين مصري انحازوا إلى الثورة وجاءوا يعلنون رفضهم لهذا النظام وإنهائه، والمطالبة بحياة حرة كريمة في ظل حكومة ديمقراطية ونظام برلماني حر ينتخب أعضاءه الشعب بلا تزوير؛ ليعبر تعبيرًا صحيحًا عن إرادة الشعب..
كان لُبّ الرسالة الإعلامية المفبركة هو الترويج لفكرة أن ثورة الشباب إنما هي مؤامرة على مصر، وليس ثورة حقيقية على نظام فاسد خرب مصر ونهب ثروتها وأفقر شعبها وأخضعها لسلطان القهر على مدى ثلاثين عامًا..
ثم تأتي الأكذوبة الكبرى إلى ذروتها بادعاء أن هذه المؤامرة من تخطيط وتدبير أمريكي صهيوني, وهنا يرتفع السؤال: كيف يُعقل أن تقوم إسرائيل وأمريكا بمؤامرة على أكبر حليف استراتيجي لهما في العالم العربي كلّه؟! ومن هو الحمار الذي يمكن أن يصدق هذا الهراء؟! وأي عبث هذا بعقول الناس؟!
ولأنه عبث وتهريج إعلامي رخيص سميته "مؤامرة لكلب نظام الحكم"، إنه كلب بالفعل كما يصفه القرآن: {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 176]. فهو لاهث أبدًا وراء أهوائه ومطامعه وشهوته للاستحواذ والقمع .. مدفوع بكراهية عميقة واحتقار لهذا الشعب..
وقد كشف عن آخر قناع له وهو يستجدي القوى الإمبريالية أن تقوم بحمايته ويستعديها على أبناء شعبه, ويلوح بآخر ورقة في يده: أنا.. أو الفوضى مع الفزّاعة الإخوانية, أليس هذا نسخة طبق الأصل من موقف جده الفرعون الأعلى الذي حذر الشعب المصري من النبي موسى منذ آلاف السنين فقال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]. لقد أنطق الله فرعون مصر الحديثة بعبارة تحتوي على نفس العنصرين: فزاعة الدين وفزاعة الفساد في الأرض، الإخوان والفوضي!
أي فوضى يخوّف الناس بها هذا الفرعون؟! إن الفوضى والفساد في الأرض متفشيان الآن مع وجوده على رأس السلطة, فالفوضى من صناعته وتدبيره.. ولم تشهد مصر في تاريخها الطويل مثل هذه الفوضى العارمة التي شملت كل بقعة في أرض مصر.
فإذا كان هناك مؤامرة، وأصابع أجنبية، فالمؤامرة موجهة ضد الشعب المصري ممثلاً في طلائعه الشبابية التي خرجت تعلن عن مطالبه في ميدان التحرير، والأصابع الأجنبية هي إسرائيل التي تعتبر النظام المصري المتهاوي أكبر ضمان لتنفيذ مخططاتها في تصفية القضية الفلسطينية وتهويد القدس والقضاء على معاقل المعارضة, وفوق هذا تحصل على 40% من احتياجاتها من الغاز بثلث سعره العالمي, ولمدة عشرين سنة قادمة..؟!
وأما عناصرها المحلية ذات الأجندة المشبوهة، فهي وزارة الداخلية نفسها التي يأخذ وزيرها أوامره مباشرة من رئيس الجمهورية.. الحقيقة التاريخية تقول: إن مصر لم تحكمها عصابات البلطجية وأرباب السوابق إلا في عهد هذا الطاغوت، الذي أعاد القاهرة قرنًا إلى الوراء بقطع كل وسائل المواصلات والاتصالات التي أنتجتها الحضارة الحديثة؛ فأوقف القطارات وخطوط الترام.. وقطع الاتصالات الحيوية عبر الإنترنت والهواتف المحمولة..
وقام غوغاء مستأجرون من قيادات حزبه بقيادة فلول من ضباط الأمن المركزي بمطاردة الصحفيين وتكسير كاميراتهم، في محاولة لعزل شباب الثورة في ميدان التحرير وإبادتهم في الظلام .. فهو مستعد لتخريب مصر كلها؛ لينجو هو وأسرته، التي كشفت صحيفة الجارديان البريطانية أن ثروتها في الخارج تقدّر بين أربعين إلى سبعين مليارًا من الدولارات؛ مما يجعله واحدًا من أغنى أغنياء العالم، بينما ترك شعبه واحدًا من أفقر فقراء العالم.. ولو كانت هذه الثروة المنهوبة قد أُنفقت على مشروعات صناعية وزراعية في مصر، لما عانى شعبها كل هذا الشقاء والحرمان والقهر.
الرسالة التلفازية إذن فجّة وقبيحة.. تستهدف تشويه حركة شباب من أطهر وأنقى شباب هذه الأمة.. خرجوا لتحرير مصر.. بأسلوب سلمي وحضاري أبهر العالم.
هذا جيل جديد من الشباب مختلف تمامًا عن كل ما يتصوره الجُهّال عنهم.. مختلفون في فكرهم ووطنيتهم وقدرتهم على التنظيم والنفس الطويل.. وعشقهم للحرية والكرامة.. واستعدادهم للتضحية بالنفس.. وليس كما يزعم الدبلوماسي الفاشل بطرس بطرس غالي في فضائية أجنبية: "أنهم شباب أغرار يحتاج الواحد منهم إلى ستة أشهر ليفهم قضية سياسية واحدة..".
وهذا النظام الأعمى مثله لم يستوعب بعد، ولم يفهم أنه قد انتهى وفقد شرعيته من لحظة انطلاق ثورة الثلاثاء 25 يناير الماضى2011م.. وقد أكد الثوار شرعيتهم بانضمام ملايين المصريين إلى حركتهم الثورية يوم جمعة الغضب في 28 من الشهر نفسه، بعد أن انهارت قوات أمن النظام أمام صمود الشعب وتضحياته وسقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى من بين صفوفه.. ثم تأكدت شرعية الثورة الشعبية مرة ثالثة في يوم جمعة الرحيل 4 من فبراير 2011م.
هذه اللحظة التاريخية، تؤسس لحقيقة جديدة: سقوط شرعية النظام.. وانتهاء عصر الدكتاتورية.. وظهور شرعية جديدة هي شرعية الثورة الشعبية.. وأزعم أن هذا الصمود الرائع للثوار في ميدان التحرير.. نقلة نوعية كبرى في تاريخ العالم؛ لأنها تحقق الشرط الأساسي والأولي للتغيير؛ وهو تغيير ما بالأنفس.. وقد تحقق هذا بكسر حاجز الخوف من الأصنام والفراعين، والاستعداد للتضحية بالنفس في سبيل المبادئ النبيلة: إقامة العدل في الأرض، وتحقيق الحرية والكرامة الإنسانية.
هناك محاولات دائبة وخبيثة من قيادات النظام المُتهاوي للالتفاف حول الثورة والانقضاض عليها.. وتبديد مكتسباتها.. بنفس الأساليب العقيمة والعقليات البائدة التي ما زالت تعتقد أنها صاحبة حق في الوصاية على هذا الشعب الذي لا تُكِنّ له ذرة من احترام أو انتماء.. إنها تعبّر عن خواء فكري، وتمارس حيلاً ساذجة مكشوفة لضرب القوى الثورية بعضها ببعض، ولكن شباب الثورة يفهمها ويتعامل معها بذكاء وحنكة.
ويجب أن يكون مفهومًا وواضحًا لجميع الناس:
(1) أن الشرعية الحقيقية الآن هي شرعية الشعب الذي أجمع على إرادة واحدة هي إسقاط النظام بكل رموزه ومؤسساته القمعية والمزوّرة، وأن التمحّك بالشرعية الدستورية هراء، فلم يكن الدستور ولا القانون محل احترام أو اعتبار في أي يوم على مدى الثلاثين عامًا الماضية، وكان أكبر من انتهك الدستور واعتدى عليه بتغيير بنوده لتساير أهواء ومصالح النخبة الحاكمة الأنانية هو هذا النظام الفاسد، ولم يجترئ على القانون وعلى استقلال السلطة القضائية، ويستبدل بهما القضاء العسكري وقانون الطوارئ سوى هذا النظام الذي يتمسح الآن بالدستور والقانون.. لقد استمرأ هذا النظام عدم احترام قرارات المحاكم، وعدم تنفيذ الأحكام القضائية على طول الخط.
(2) أن بقاء قوى الأمن المركزي أو محاولة إعادة بنائها من جديد أكبر خطر على هذه الثورة الوليدة، وأكبر خطر على مستقبل الديمقراطية المنشودة.. وهي أداة إرهاب في حد ذاتها تغري أي طاغية جديد بالقفز على المكتسبات الديمقراطية، وإعادة الشعب إلى حظيرة العبودية مرة أخرى؛ لذلك يجب إنهاء عصر قوات الأمن المركزي التي بلغ عدد أفرادها أكثر من مليون ونصف، وإعادة تأهيلهم لزراعة الأرض في سيناء، واستخدامهم في نهضة صناعية جديدة هناك.. ولتعُدِ الشرطة إلى حجمها الطبيعي، وإلى أداء واجباتها المعتادة، كما في كل الديمقراطيات الحديثة.
(3) لا بد من مصادرة أموال الشعب المنهوبة، المتداولة في أيدي القوى الطفيلية التي تستخدم هذه الأموال في جمع البلطجية وتسليحهم لتخريب القوى الديمقراطية، وتهديد الأمن الاجتماعي.. وأنا أقصد أمثال أولئك الذين جنّدوا البلطجية وفلول الأمن المركزي وأعضاء الحزب الحاكم للاعتداء على المتظاهرين في ميدان التحرير بالجمال والبغال والقنابل الحارقة وبالرصاص الحي.. هؤلاء يمثلون خطرًا محققًا على الأمن الاجتماعي، وعلى مستقبل أي حركة تغيير أو إصلاح في هذا الوطن.. لقد كان أمثال هؤلاء سببًا في تدمير حركات الإصلاح والتغيير في تاريخ العالم، فهم لا يتورعون عن ارتكاب أي جريمة في سبيل المحافظة على ثرواتهم المنهوبة، وعلى مواقعهم في السلطة، وعلى مصالحهم الأنانية.
(4) يجب منع الحزب الحاكم من السيطرة على وسائل الإعلام، فهي أداة خطيرة لتضليل الرأي العام، وإفساد الشباب، ويجب أن يستعيد الشعب ملكيتها لخدمة مصالحة المشروعة.. واستخدامها في تنمية وعي الجماهير وتعليمهم، وتطوير مهاراتهم المهنية والعقلية والوجدانية والفنية، وانتشالهم من حالة الاسترخاء وعدم المبالاة، إلى حالة العمل والنشاط والابتكار.
(5) ولا بد من التنبيه إلى أن الأمر لم يكن يستلزم رهن مصر كلها بسبب مظاهرة متمركزة في ميدان واحد بالقاهرة هو ميدان التحرير، في عملية عقوبة جماعية لكل الشعب المصري الذي احتضن الثورة، فقد كان من الممكن أن تسير الحياة في شوارع القاهرة وفي المؤسسات الاقتصادية والمالية سيرًا عاديًّا، لولا القرار الأحمق بسحب قوات الشرطة من الشارع، وتجنيد المجرمين والبلطجية إشاعة الفوضى وشل الحياة في كل أرجاء مصر.
(6) أصل إلى النقطة الحاسمة فأقول: كان يمكن إنهاء الأزمة بالاستجابة لمطالب الشعب من أول يوم بانسحاب فرد واحد هو رأس السلطة، ولكنه أصر بعناده وصلفه أن يبقى رغم أنف الشعب.. والآن هو يعدّ لمرحلة انتقام هائل من شباب الثورة إذا انصرفوا وعادوا إلى بيوتهم كما يحلم.. ولكن سيخيب أمله؛ فالثورة الشعبية ماضية في طريقها، ولن يتراجع الثوار حتى يرحل الطاغية ويسقط نظامه.. بعون الله ثم باحتضان الشعب لثورته.
المصدر: موقع التاريخ.