[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]توسَّعت الدولة الإسلامية توسُّعًا كبيرًا خلال القرون الأولى من الهجرة، ونظرًا لتداخل الأجناس والأعراق المتباينة داخل إطار الحضارة الإسلامية، كان مما لا بُدَّ منه وجود مؤسسة قضاء ثابتة، لها ما يميزها وما ينظمها داخل الدولة الإسلامية، ومن ثَمَّ بدأت هذه المؤسسة في التشكُّل والظهور منذ النبي .
القضاء في عصر النبي والخلفاء
فقد كان الرسول هو الذي يتولَّى الفصل في المنازعات، ومن بعده كان الخلفاء في صدر الإسلام يُبَاشِرُونَ القضاء بأنفسهم، وعندما اتَّسَعَتِ الدولة الإسلامية، واختلط المسلمون بغيرهم، وكثرت مهامُّ الخليفة؛ تم تعيين قضاة مستقِلِّينَ ينوبون عن الخليفة في الفصل بين الخصومات، وكان ذلك في عهد عمر بن الخطاب ؛ "فولَّى أبا الدرداء معه بالمدينة، وولَّى شريحًا بالبصرة، وولَّى أبا موسى الأشعري بالكوفة، وكَتَبَ له في ذلك الكتابَ المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة"[1].
القضاء في العصر الأموي
وما أن أطلَّ العهد الأموي، حتى استجدَّت على مؤسسة القضاء مستجدات مهمة؛ حيث تخلَّى خلفاء بني أمية عن ممارسة القضاء، كما كان في العهدين النبوي والراشدي، فسَعَوْا إلى الفصل بين السلطات، إلا في ثلاثة أشياء أبقاها الأمويون لأهميتها وضرورتها؛ وهي: تعيين القضاة بطريقة مباشرة في عاصمة الخلافة دمشق، والإشراف على أعمال القضاة وأحكامهم ومتابعة شئونهم الخاصة في التعيين والعزل، والإشراف على التزام القضاة بالسلوك القضائي القويم، ثم ممارسة الخلفاء الأمويين لقضاء المظالم، وقضاء الحسبة، وقد أولى خلفاء بني أمية أهمية خاصة، ورعاية كاملة لقضاء المظالم، وحتى أصبح له جهاز كامل ومستقل[2].
القضاء في العصر العباسي
وأما في العهد العباسي فقد بلغ التنظيم الإداري للقضاء غايته القصوى، وظهرت فيه تنظيمات كثيرة، وتنبَّه الخلفاء العباسيون لأهمية القضاء منذ قيام دولتهم، فأصلحوا ما اعتراه من ضعف وتراخ في آخر الخلافة الأموية، ولقد كان الخليفة أبو جعفر المنصور -الذي يُعَدُّ المؤسس الحقيقي للخلافة العباسية- يرى أن القاضي إحدى الدعائم الأربع التي لا تصلح الدولة إلا بهم[3].
ومع كثرة ولايات الخلافة؛ فقد صار تعيين قضاة الأمصار تبعًا لما يراه ولاة هذه الأمصار، إلا أن هناك منصبًا قد استجدَّ في ظلِّ الخلافة العباسية، قد تمثَّل في تعيين قاضٍ للقضاة، فمع كونه قاضي العاصمة بغداد، إلا أن الخلافة قد أعطت له الحق في تعيين قضاة الأمصار، ومتابعتهم ومراقبتهم والإشراف عليهم وعزلهم؛ ولذلك بلغت مؤسسة القضاء ذروة الاستقلالية التامَّة في ظلِّ الخلافة العباسية، وأول مَن كان له الحق في تعيين قضاة الأمصار ومتابعتهم في الخلافة العباسية القاضي الشهير أَبو يوسف، قاضي الخليفة العباسي هارون الرشيد ووزيره، حيث كان له الحق في تعيين قضاة كل من العراق وخراسان ومصر والشام[4].
ونتيجة لتوسُّع مؤسسة القضاء؛ فقد وظَّفت الخلافة العباسية أعوانًا للقاضي -قاضي القضاة وقضاة الأقاليم- يُساعدونه في إتمام القضاء، والفصل في الدعاوى على أحسن وجه، وهم: نائب القاضي، وهو من يُنِيبه القاضي عنه ليقوم بالقضاء في المدن والقرى، أو يحلُّ محَلَّه إذا غاب. وكاتب القاضي أو كاتب المحكمة، وهو الذي يُدَوِّن أقوال الطرفين والشهود والقاضي، ويُرتِّب القضايا على حسب حضور الخصوم، ويعرضها على القاضي بانتظام، وعدم محاباة إلا لمسافر أو معذور.
والمنادي، وهو الذي يقوم على رأس القاضي لبيان مكانته، والمناداة على الخصوم. والحاجب، وكان من أفراد الشرطة والحرس، ويقوم بالمساهمة في تنظيم أعمال القاضي، والمحافظة على النظام، وترتيب الخصوم، من حيث جلوس الرجال في ناحية، والنساء في ناحية أخرى.
وصاحب المسائل، وقد استجدَّت هذه الوظيفة في العصر العباسي، وكان الغرض منها تولية التحقيق في المسائل التي يعهد بها القاضي إليه، وأول من استعمله القاضي محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، صاحب أبي حنيفة، وقد ذكر الكندي أن المفضل بن فضالة الذي تولى القضاء بمصر سنة (174هـ) جعل صاحب مسائل؛ ليسأل عن الشهود، أي التعرُّف على مدى عدالة هؤلاء الشهود أو جرحهم. والقسَّام، وهو الذي يتولَّى قسمة الحقوق بين أصحابها، ويضع الحدود بينهم في العقارات، وكان يُسمَّى بالحسَّاب، وقد بيِّن الماوردي صفاته وشروطه.
والأمناء، وهم الأشخاص الذين يُكلفهم القضاة ببعض الأعمال المهمة؛ مثل: حفظ أموال اليتامى والقاصرين وناقصي الأهلية والغائبين، وحفظ التركات حتى يتم قسمتها بين الورثة، وكان القاضي سوار بن عبد الله أول من أدخل الأمناء، وأناط بهم محافظة الأموال. وخازن ديوان الحكم، وهو الذي يحفظ أوراق القاضي والوثائق والسجلات والودائع في مكان مخصص، وأُضيف إلى هؤلاء الترجمان، وكانت وظيفته ترجمة ما يقوله المدعون أو الخصوم الناطقون بغير اللسان العربي، وقد كثرت هذه الوظيفة في العصر العباسي؛ نتيجة لكثرة الشعوب التي انضوت تحت مظلة الإسلام والخلافة الإسلامية[5].
وأما مظاهر إجراء المحاكمة وطرق انعقادها فكثيرة ومتنوعة في الحضارة الإسلامية، فأول ما يتوقَّف عنده القارئ تلك المراسم التي كان بموجبها يتم استدعاء الخصوم أمام القاضي، فقد كان في الأندلس نظام مبتكر يسير عليه القضاة، هو نظام "الطابع"؛ وهي ورقة عليها توقيع القاضي وخاتمه، يتم من خلالها استدعاء الخصوم، لا فرق بين أمير أو مأمور في هذا الاستدعاء[6].
د. راغب السرجاني
[1] ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر 1/221.
[2] محمد الزحيلي: تاريخ القضاء في الإسلام ص166، 167.
[3] انظر: الطبري: تاريخ الأمم والملوك 4/520.
[4] عرنوس: تاريخ القضاء، نقلاً عن محمد الزحيلي: تاريخ القضاء في الإسلام ص228.
[5] محمد الزحيلي: تاريخ القضاء في الإسلام ص246- 250.
[6] انظر: الخشني: قضاة قرطبة ص150، 151.