[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]عند الحديث عن قصة العلوم بصفة عامَّة وإنجازات العلماء المسلمين فيها فإنه يجب ألا يغيبَ عن بَالِنَا أن تاريخ العرب قبل الإسلام لم يكن يحمل أي اهتمام بهذا المجال، وقد جاء الإسلام وأحدث نقلة حضارية وعلمية هائلة؛ نتبيَّن مراحلها فيما يلي.
نشاط حركة الترجمة
وبإمكاننا هنا أن نؤرِّخ لقصة العلوم بعد عصر النبوة وعصر الخلافة الراشدة بشخصيات علمية رائدة، نبغت وأثَّرت في عصرها فكانت علامة بارزة فيه، والحقيقة أن أغلب هؤلاء العلماء كانوا موسوعيون، لهم في أكثر من علم باعٌ عريض وشهرة فائقة.
وعلى هذا فإنَّ أوَّل ظهور حقيقي لقصَّة العلوم في الإسلام يُعَدُّ مع ظهور حكيم بني أمية الأمير خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85هـ - 704م)، الذي كان على يديه أوَّل نقل في الإسلام من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية[1]، فيما عُرف ببداية حركة الترجمة، تلك التي نشطت في بداية عصر الخلافة الأموية، أواخر القرن الأول الهجري، الثامن الميلادي.
فما أن استقرَّت الخلافة الأموية وازدهرت سياسيًّا واقتصاديًّا، وورثت علوم الأعاجم من الفرس والروم وغيرهم بعد انهيار دُولهم، حتى كان الاتجاه إلى الحركة الفكرية؛ فتُرجمت كثير من كتب الحضارات السابقة من إغريقية وفارسية وغيرها، ونُقلت ذخائرها في العلوم إلى العربية؛ لِتُعْتَبر حدثًا مُهِمًّا من الناحية الحضارية؛ لأنها فتحت نافذةً أَشْرَفَ منها العلماء العرب والمسلمون لأوَّل مرَّة على ما لدى غيرهم من معارف وعلوم.
ازدهار علم الطب
وقد نالت العلوم التجريبية نصيبًا مُهِمًّا من بين هذه العلوم المترجَمة، وكان على رأسها جميعًا الطبُّ؛ فقد كان الطبُّ الإسلامي في أوَّل هذه الفترة معتمِدًا على إرشادات الرسول ، وعلى الأعشاب والنباتات الطبِّيَّة، والكيِّ، والفصد، والحجامة، والختانة، وبعض العمليات الجراحية البسيطة، ولمَّا بدأ الأطباء المسلمون والعرب يتَعَرَّفون على الطبِّ اليوناني عَبْر مدرسة الإسكندرية ومدرسة جُندَيسابور[2] كان اتِّجاههم إلى ترجمة الكتب الطبية إلى اللغة العربية[3]. وفي هذا فقد ترجم ماسرجويه، الطبيب اليهودي الذي يُعدُّ من أبرز المترجِمِين في ذلك العصر، للخليفة مروان بن الحكم (64 - 65هـ) موسوعة طبية يونانية تُسَمَّى "الكُناش"[4].
وقد ازدهر الطبُّ على ذلك، وبُنيت المستشفيات، واعْتَبَر بعضُ المؤرِّخين للعلوم العلمية أن الخليفة الأُموي الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ) هو أوَّل من بنى مستشفًى نموذجيًّا في الإسلام، وذلك سنة 88 هجرية، وقد زوَّده بالطعام والأدوية والملابس، وعَمَّره بالأطباء والصيادلة، وألحق به صيدلية تحتوي على مختلف أنواع الأدوية من الشراب والمعاجين[5].
كما اشْتَهرت أسماء لامعة في الطبِّ في هذه الفترة، وتأتي عائلة أبي الحكم الدمشقي في المقدِّمة، وكان في مقدِّمتهم أبو الحكم الدمشقي (ت 210هـ)، الذي استطبَّه الخليفة الأُموي معاوية بن أبي سفيان [6]، وكان قد عُمِّر أكثر من مائة سنة، وتياذوق (ت نحو 90هـ) الذي كان مُقَرَّبًا من الحجاج بن يوسف الثقفي[7].
ويمثِّل ظهور خالد بن يزيد أيضًا بَدْء ظهور علم الكيمياء، وقد تتلمذ خالد في ذلك للراهب الرومي مريانوس وتعلَّم منه صنعة الطب والكيمياء، ثم كان له في صنعة (الكيمياء) ثلاث رسائل هي: (السر البديع في فك الرمز المنيع)، و(فردوس الحكمة في علم الكيمياء)، و(مقالتا مريانوس الراهب)، ذكر فيه ما كان بينه وبين مريانوس، وكيف تعلم منه الرموز التي أشار إليها[8].
[1] انظر الصفدي: وفيات الأعيان 2/224، وابن النديم: الفهرست ص 242.
[2] مدينة في خوزستان، كان سابور الأول قد اتخذها لأسرى الروم.
[3] انظر علي بن عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة العربية والإسلامية ص 68.
[4] انظر طبقات الأطباء 1/163، وتاريخ الحكماء ص 80.
[5] انظر محمود الحاج قاسم محمد: الطب عند العرب والمسلمين – تاريخ ومساهمات ص 60.
[6] انظر رواد علم الطب في الحضارة العربية والإسلامية ص 168.
[7] المرجع السابق ص 158.
[8] انظر الصفدي: وفيات الأعيان 2/224، ومحمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص 16.
تعليقات القراء