[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الأمر بتوقير النبي وتعظيمه يعني أن ذلك عبادة لله وقربة إليه سبحانه، والعبادة التي أرادها الله تعالى ويرضاها من العبد هي ما ابتغي به وجهه، وكان على الصفة التي شرعها في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه الكريم .
فأما الإخلاص في الأعمال وابتغاء وجه الله فيها فهو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأن معناها: لا معبود بحق إلا الله I.
وأما متابعة النبي فهي مقتضى الشهادة بأن محمدًا رسول الله، ولازم من لوازمها؛ إذ معنى الشهادة له بأنه رسول الله حقًّا: (طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع).
وهذا كمال التعظيم، وغاية التوقير. وأيُّ تعظيم أو توقير للنبي لدى من شكَّ في خبره، أو استنكف عن طاعته، أو ارتكب مخالفته، أو ابتدع في دينه وعبد الله من غير طريقه؟! ولذا اشتد نكير الله تعالى على من سلكوا في العبادة سبيلاً لم يشرعها، فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاًذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. وقال : "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"؛ أي: مردود عليه.
ويتحقق تعظيم النبي بالقلب بتقديم محبته على النفس والوالد والولد والناس أجمعين؛ إذ لا يتم الإيمان إلا بذلك، ثم إنه لا توقير ولا تعظيم بلا محبة، وإنما يزرع هذه المحبة معرفته لقدره ومحاسنه .
وإذا استقرت تلك المحبة الصادقة في القلب كان لها لوازم هي في حقيقتها مظاهر للتعظيم ودلائل عليه، ومن صور ذلك التعظيم: الثناء عليه بما هو أهله، وأبلغ ذلك ما أثنى عليه ربه به، وما أثنى هو على نفسه به، وأفضل ذلك: الصلاة والسلام عليه؛ لأمر الله وتوكيده: {إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
وهذا إخبار من الله تعالى بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه؛ ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعًا، وصلاة المؤمنين عليه هي الدعاء طلبًا للمزيد من الثناء عليه.
والصلاة عليه مشروعة في عبادات كثيرة؛ كالتشهد والخطبة وصلاة الجنازة وبعد الأذان وعند الدعاء وغيرها من المواطن.
وأفضل صيغها: ما علّمه النبي لأصحابه حين قالوا: أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة؟ قال: "قولوا: اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
وغير خافٍ عليك ما في الصلاة عليه من الفوائد والثمرات من كونها سببًا لحصول الحسنات، ومحو السيئات، وإجابة الدعوات، وحصول الشفاعة، وصلاة الله على العبد، ودوام محبة النبي وزيادتها، والنجاة من البخل.
ومن تعظيمه: التأدب عند ذكره بأن لا يذكر باسمه مجردًا، بل يوصف بالنبوة أو الرسالة، وهذا كما كان أدبًا للصحابة في ندائه فهو أدب لهم ولغيرهم عند ذكره، فلا يقل: محمد، ولكن: نبي الله، أو الرسول، ونحو ذلك.
وهذه خصيصة له في خطاب الله في كتابه الكريم دون إخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فلم يخاطبه تعالى قط باسمه مجردًا، وحين قال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40]، قال بعدها: {ولَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. يجيء التوجيه إلى هذا الأدب في قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} [النور: 63].
ومن تعظيمه: الإكثار من ذكره، والتشوق لرؤيته، وتعداد فضائله وخصائصه ومعجزاته ودلائل نبوته، وتعريف الناس بسنته وتعليمهم إياها، وتذكيرهم بمكانته ومنزلته وحقوقه، وذكر صفاته وأخلاقه وخلاله، وما كان من أمور دعوته وسيرته وغزواته، والتمدح بذلك شعرًا ونثرًا.
وأسعد الناس حظًّا بذلك: المحدثون والمشتغلون بسنة النبي . والشرط في ذلك: كونه في حدود المشروع، وسطًا بين الجفاء وبين الغلو والإطراء.
ومن تعظيمه: استشعار هيبته ، لجلالة قدره وعظيم شأنه، واستحضاره لمحاسنه ومكانته ومنزلته، والمعاني الجالبة لحبه وإجلاله وكل ما من شأنه أن يجعل القلب ذاكرًا لحقه من التوقير والتعزير، ومعترفًا به ومذعنًا له؛ فالقلب ملك الأعضاء، وهي جند له وتبع، فمتى ما كان تعظيم النبي مستقرًّا في القلب مسطورًا فيه على تعاقب الأحوال، فإن آثار ذلك ستظهر على الجوارح حتمًا لا محالة.
وحينئذ سترى اللسان يجري بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه، وترى باقي الجوارح ممتثلة لما جاء به ومتبعة لشرعه وأوامره، ومؤدية لما له من الحق والتكريم.
وبرهان التعظيم الصادق هو تعظيم ما جاء به النبي من الشريعة المتضمنة في الكتاب والسنة كما فهمها سلف الأمة، وذلك باتباعها والتزامها قلبًا وقالبًا، وتحكيمها في كل مناحي الحياة وشئونها الخاصة والعامة؛ ومحال أن يتم الإيمان بدون ذلك: {ويَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالرَّسُولِ وأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ ومَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور: 47].
فإن هذا هو مقتضى التعظيم الحقيقي والتوقير الصادق، إذ العبرة بالحقائق لا بالمظاهر والأشكال الجوفاء؛ ولذا قدم الله هذا الأدب العظيم على سائر الآداب الواجبة مع النبي ، فنهى عن التقدم بين يديه بأمر دون أمره أو قول دون قوله، بل يكونون تبعًا لأمره منقادين له مجتنبين نهيه، فقال في أول سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].
ومن التقدم بين يديه: تقديم القوانين والتشريعات البشرية على شريعته، أو تفضيل حكم غيره على حكمه أو مساواته به، أو التزام منهج مخالف لهديه وسنته: {فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وأسعد الناس حظًّا بسنته وأقربهم إلى الشرب من حوضه: أهل السنة والجماعة، فهم من أحيوا سنته، واتبعوا شريعته وهديه.
ومن توقيره وتعظيمه : توقيره في آله، ومنهم أهل بيته أجمعين ورعاية وصيته بهم بمعرفة فضلهم ومنزلتهم وشرفهم بقربهم من النبي زيادة على إيمانهم، وبحفظ حقوقهم والقيام بها، فهم أشرف آل على وجه الأرض، وأزواجه أمهات المؤمنين الطاهرات، قال الله تعالى: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]. وقد أوجب الله الصلاة عليهم تبعًا للصلاة على النبي في التشهد في الصلاة.
ومن تعظيمه: توقيره في سائر صحبه جميعًا، فإنهم خيرة الناس بعد الأنبياء، وخيرة الله لصحبة نبيه، وهم حماة المصطفى والأمناء على دينه وسنته وأمته، وذلك بمعرفة فضلهم، ورعاية حقوقهم؛ فإنَّ الطعن فيهم أو تنقُّصهم عنوان الزندقة.
ومن تعظيمه: الأدب في مسجده، وكذا عند قبره، وترك اللغط ورفع الصوت؛ ولذا أنكر عمر على من رفع صوته فيه. فقال للرجلين: "ترفعان أصواتكما في مسجد النبي ؟! لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربًا".
ومن تعظيمه: حفظ حرمة بلده المدينة النبوية؛ فإنها مهاجره، ودار نصرته، وبلد أنصاره، ومحل إقامة دينه، ومدفنه، وفيها مسجده خير المساجد بعد المسجد الحرام. والمقصود من تعظيم المدينة هو تعظيم حرمها، وهذا أمر واجب في حق من سكن بها أو دخل فيها، مع ما يجب على ساكنيها من مراعاة حق المجاورة وحسن التأدب فيها، وذلك لما لها من المنزلة والمكانة عند الله وعند رسوله ، فيتأكد فيها العمل الصالح وتعظم فيها السيئة؛ لشرف المكان.
المصدر: موقع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.