[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
رحمة النبي
لا تكفي المجلدات الكبيرة، ولا الأسفار العظيمة للحديث عن رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين، لأن هذا يعني الحديث عن كل جزئية - صَغُرت أم كَبُرت - في حياته .. إنها لمهمة عسيرة فعلاً أن نُفرِد بابًا واحدًا لهذا الأمر في بحث مهما طال فهو محدود الصفحات، إنما نحتاج حقيقة إلى أعمار وأعمار للاطلاع على مظاهر رحمته بأمته المسلمة..
ولتقدير مدى عظمة رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يكفي أن نذكر أن الذي شهد له بعِظم هذه الرحمة ليس مَنْ عاصره أو من سمع عنه فقط، بل شهد بها رب العزة تبارك وتعالى، وجعل هذه الشهادة محفوظة في كتابه العظيم: القرآن الكريم، يتذكرها المسلمون دومًا كُلَّما قرءوا الكتاب العظيم، وذلك إلى يوم الدين..
قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
فانظر إلى شهادة رب العالمين له، وقد أتى بالكلمات المختلفة، والتعابير المتعددة التي تثبت رحمته –صلى الله عليه وسلم، ولو اكتفى بواحدة لكان المعنى واضحًا في أذهاننا، ولكن لترسيخ المعنى وتأكيده..
وهذه الرحمة قد بلغت درجة متناهية حتى ذكر الله عز وجل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- أولى بالمؤمنين من أنفسهم!
قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6].
بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر هذا المعنى تصريحًا، وحمَّل نفسه أعباء ضخمة نتيجة هذا الأمر، وذلك عندما قال:
"مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ"[1].
فرحمة الرسول صلى الله عليه وسلم هنا واسعة، وواسعة جدًا، فهو يعلن بوضوح أن ما تركه المسلم من ميراث وثروة فهو لورثته، أما إن كان مَدِينًا أو له عيال، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يتحمل دَيْنه، ويتحمل تربية عياله!!
وفي هذا رحمة غير مسبوقة، ولا يماثلها أو يقترب منها رحمة في العالم.. فهو لا يصيب من خير المؤمنين، ولكن يتحمل مشاكلهم وهمومهم وتبعاتهم.. أي الناس يتحمَّل مثل هذا؟!
إنها الرحمة المتجردة تمامًا عن أي هوى، والتي ليس من ورائها نفعٌ دنيوي، ولا هدف شخصي..
لقد وهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حياته لرعاية شئون أمته، وللاهتمام بالآخرين، مع أنهم كثيرًا ما خالفوه وقاوموه، لكنه ظل محافظًا على نهجه الرحيم، وحرصه الدءوب على حمايتهم ورعايتهم..
يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا"[2].
هكذا كانت حياته -صلى الله عليه وسلم- .. وفي محاولة منا للتعرف على رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين سنتناول هذا الموضوع الجميل من خلال رحمته بالضعفاء من أمته.
رحمة النبي بالضعفاء
<a ><a ><a >مَنِ الضعفاء؟!
بالرغم من التقدم الاقتصادي وارتفاع مستوى المعيشة ينتحر من الشعب الياباني سنويًا أكثر من ثلاثين ألف شخص معظمهم من الشباب، وهي النسبة الأعلى في العالم[3]!!
هذا حالهم ولكن الإسلام شئ آخر!!
قد يخطر ببال من يسمع كلمة "الضعفاء" أن هذه طائفة معينة من المسلمين دون طائفة، لكن واقع الأمر أن كل الناس ضعفاء! وهذا بلا استثناء، فلن يُعدم إنسانٌ صورة من صور الضعف، فإذا كان الطفل الصغير ضعيفًا، والشيخ الكبير ضعيفًا كذلك، فإن الشاب القوي ضعيف من وجه من الوجوه، فقد يكون ضعيفًا في خبرته، أو ضعيفًا في عقله، أو ضعيفًا في ثروته، أو غير ذلك من صور الضعف، وإذا كان الفقير ضعيفًا لفقره، فإن الغني قد يكون ضعيفًا في صحته أو في محبة الناس له أو في إيمانه.. وبالجملة فلن يُعدم إنسان ـ كما ذكرنا ـ صورة من صور الضعف، ولذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى على سبيل الإجمال: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
ضعف الإنسان
فالإنسان خُلِقَ من ضعف، وهو إلى الضعف صائر.. بل إن الضعف واضح في قصته من البداية.. حيث يقول الله عز وجل في حق آدم –عليه السلام، مع علو قدره، وسمو منزلته: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]، وذِكْرُ الضعف مع هذا النبي الكريم دلالة على أنه سيكون موجودًا - لا محالة - مع كل ذريته، وقد صرَّح موسى –عليه السلام- في حواره مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج أن أمة الإسلام فيها صورة من الضعف؛ فقال لرسول الله عندما علم منه أن الله عز وجل قد فرض على أمته خمسين صلاة في اليوم والليلة: "يا محمد، والله لقد راودتُ بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا وتركوه، فأمتك أضعف أجسادًا وقلوبًا وأبدانًا وأبصارًا وأسماعًا، فارجع فليخفِّفْ عنك ربُّك"[4].
وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالضعف، ولا يقلِّل هذا أبدًا من شأنهم، فأبو ذر الغفاري –رضي الله عنه- من كبار الصحابة ومن سابقيهم، ومع ذلك يخاطبه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: "يَا أبا ذر، إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَّ مال يتيم"[5].
بل ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الضعف في حق أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- حين قال: "... ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ بِهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفَهُ"[6].
إن الضعف صورة ملازمة لكل البشر، وإنما ذكرنا في هذا المقال بعض صور الضعف، ولا يمنع أن هناك صورًا أخرى كثيرة تشمل عامة البشر.
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يُولِي اهتمامًا أكبر لمن يعاني صورة من صور الضعف، وذلك في حال ضعفه، لأن الضعف يسبب لونًا من ألوان الألم في نفس الإنسان، ورسول الله كان رحيمًا بالمؤمنين في كل أحوالهم، وهو في حال ضعفهم أشد رحمة، ولذلك كان يعلمنا أن نستعيذ بالله من كل صور الضعف.. فيقول مثلاً: "اللهُمَّ إني أعوذ بك من غَلَبَة الدَّيْن، وغَلَبَة العدو، وشَمَاتَة الأعداء"[7].
ثم إن هذا الضعف الذي يصيب الإنسان في فترة من فترات حياته، أو في ظرف من ظروفه يكون سببًا لتخفيف الأحكام عليه، والله عز وجل يقول في كتابه مخاطبًا أهل بدر، وهم أعلى المؤمنين قدرًا ومكانة: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66].
فالضعف كان سببًا في التخفيف، وليس للعقاب أو اللوم، فالله الذي خلق يعرف قدرات العبد، وما يُتوقَّع منه، ولا يكلِّفه أبدًا فوق طاقته، وهذا من رحمته سبحانه وتعالى.. يقول تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
إن أي صورة من صور الضعف تستوجب وقوفًا إلى جانب صاحبها، والاهتمام به ورعايته، وهذا دليل رحمة وعلامة رفق ورأفة، وقد كان رسول الله آية في ذلك..
[1] البخاري: كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب الصلاة على من ترك دَيْنًا (2269)، وأحمد (8399)، والبيهقي في السنن (13142)، عن أبي هريرة.
[2] البخاري: كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي (6118)، ومسلم: كتاب الفضائل باب شفقته –صلى الله عليه وسلم- على أمته (2284)، وابن حبان (6408).
[3] موقع وكالة الأخبار البريطانية، على الشبكة العنكبوتية، الرابط الإلكتروني:
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
[4] البخاري: كتاب التوحيد، باب "وكَلَّم الله موسى تكليمًا" (7079)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله (162).
[5] مسلم: كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة (1826)، وأبو داود (2868)، والنسائي (3667)، والحاكم (7017)، والبيهقي في شعب الإيمان (7454).
[6] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب لو كنت متخذًا خليلاً (3464)، واللفظ له، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر (2392)، وابن حبان (6898)، والبيهقي في السنن (16370)، والنسائي في السنن الكبرى (7636).
[7] النسائي (5475)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وأحمد (6618 )، والطبراني في الكبير (11882)، وقال الشيخ الألباني: (صحيح). انظر حديث (1296) في صحيح الجامع.