[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
جـاء في التوراة: "اقتَرِبوا واَسمَعوا أيُّها الأمَمُ!، أصغوا إلي أيُّها الشُّعوبُ!, لتَسمَعِ الأرضُ وكُلُّ مَنْ فيها، العالَمُ وكُلُّ ما يُخرِجه، الرّبُّ غاضِبٌ على الأُمَمِ، ساخطَ على كُلِّ جيوشِهِم، فحَلَّلَ سَفكَ دِمائِهِم، ودَفَعهُم دَفعًا إلى الذَّبحِ، فتُطرَحُ قَتلاهُم في الشَّوارِعِ ويفوحُ النَّتْنُ مِنْ جيَفِهِم، تسيلُ الجبالُ مِنْ دِمائِهِم[1]".
هذا حالهم ولكن الإسلام شيء آخر!!
الرحمة في الإسلام
إننا لن نستطيع أن نستوعب مفهوم الرحمة في عين رسول الله صلى اله عليه وسلم إلا بالرجوع أولاً إلى المصدر الرئيسي الذي كَوَّن هذا المفهوم عنده ، وهو القرآن الكريم..
البسملة في القرآن
إنَّ أول ما يلفت الأنظار في كتاب رب العالمين، وهو دستور المسلمين، وأهم مصادر التشريع، أن كل السور فيه -باستثناء سورة التوبة- قد صُدِّرت بالبسملة، وأُلحِق بالبسملة صفتا الرحمن الرحيم.. وليس يخفى على أحد أن تصدير كل السور بهاتين الصفتين أمر له دلالته الواضحة على أهمية الرحمة في التشريع الإسلامي.. ولا يخفى على أحدٍ أيضًا التقارب في المعنى بين الرحمن والرحيم، والعلماء لهم تفصيلات كثيرة وآراء متعددة في الفرق بين اللفظين[2]، وكان من الممكن أن يجمع الله مع صفة الرحمة صفة أخرى من صفاته كالعظيم أو الحكيم أو السميع أو البصير..
وكان من الممكن أن يجمع مع الرحمة صفة أخرى تحمل معنى آخر يحقق توازنًا عند القارئ بحيث لا تطغى عنده صفة الرحمة، وذلك مثل الجبار أو المنتقم أو القهار، ولكن الجمع بين هاتين الصفتين المتقاربتين في كل بداية لسور القرآن الكريم يعطي الانطباع الواضح جدًا، وهو أن الرحمة مُقدَّمَة بلا منازع على كل الصفات الأخرى، وأن التعامل بالرحمة هو الأصل الذي لا ينهار أبدًا، ولا يتداعى أمام غيره من الأصول..
سورة الفاتحة
ويؤكد هذا المعنى ويُظهره أنَّ أول السور التي نراها في ترتيب القرآن الكريم -وهذا الترتيب توقيفي، بمعنى أن الله أوحى لرسوله أن يرتب القرآن هذا الترتيب الذي بين أيدينا اليوم مع أن الآيات والسور نزلت بترتيب مختلف[3]- نجد أن أول السور في هذا الترتيب الفاتحة، وأن هذه السورة قد افتُتِحت بالبسملة -وفيها صفتا الرحمن الرحيم- كبقية السور، ثم تجد فيها صفتي الرحمن الرحيم قد تكررتا في السورة ذاتها، وهذا التصدير للقرآن الكريم بهذه السورة بالذات له دلالته الواضحة أيضًا..
وكما هو معلوم فسورة الفاتحة هي السورة التي يجب على المسلم أن يقرأها في كل ركعة من ركعات صلاته كل يوم، ومعنى ذلك أن المسلم يردد لفظ الرحمن مرتين على الأقل، ويردد لفظ الرحيم مرتين على الأقل، فهذه أربع مرات يتذكر فيها العبد رحمة الله في كل ركعة من ركعات الصلاة، وهذا يعني ترديد صفة الرحمة في كل يوم ثمانية وستين مرة في خلال سبعة عشر ركعة تمثل الفروض التي على المسلم، مما يعطيك تصورًا جيدًا لمدى الاحتفال بهذه الصفة الجليلة: صفة الرحمة..
ولم يكن هذا الاحتفال المهيب بهذه الصفة في أول القرآن فقط، ولا في أوائل السور فحسب، ولكنه كان كذلك في كل السور القرآنية، وبشكل لافت للنظر..
الرحمة في القرآن الكريم
ولقد قمت بإحصاء عدد المرات التي جاءت فيها صفة الرحمة بمشتقاتها المختلفة في القرآن الكريم، وكذلك إحصاء عدد المرات التي تكررت فيها صفة من الصفات الأخرى كالحلم والعدل وغيرها من الصفات فوجدتُ عجبًا!!
لقد انفردت صفة الرحمة في القرآن بالصدارة، وبفارق كبير عن أي صفة أخلاقية أخرى، فبينما تكررت صفة الرحمة بمشتقاتها ثلاثمائة وخمس عشرة مرةً، جاءت صفة الصدق مثلاً مائة وخمسًا وأربعين مرةً، وجاءت صفة الصبر تسعين مرة، وجاءت صفة العفو ثلاثًا وأربعين مرة، وجاءت صفة الكرم اثنتين وأربعين مرةً، وجاءت صفة الأمانة أربعين مرةً، وجاءت صفة الوفاء تسعًا وعشرين مرةً، وهكذا!
إنَّ هذا ليس مصادفة بحال من الأحوال، وحاش لله أن تكون هناك أمور عشوائية في كتاب رب العالمين، فهو الحق الذي لا باطل فيه، وكل كلمة وحرف فيه نزل بقَدَر ولهدف.
قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
الرحمة في دعاء الأنبياء
وإذا تتبعت دعاء الأنبياء في القرآن لوجدت أن الدعاء بالرحمة قاسم مشترك بينهم جميعًا..
فمن دعاء آدم مثلاً (ومعه زوجته حواء): {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
ودعاء نوح: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47].
ودعاء موسى: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155].
وحصر ذلك يصعب ويطول لكثرة تكراره.
[1] التوراة، سفر إشعيا، إصحاح 34.
[2] ابن حجر: فتح الباري، 13/358،359.
[3] أبو عبد الله الزركشي: البرهان في علوم القرآن 1/260.