[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
في الوقت الذي يصطدم فيه المسلمون كل يوم في علماء الزمان ومفتين البلدان بما ينتجونه للأمة من فتاوى وآراء وأحكام لم يراعوا فيها قرآن ولا سنة، ولم يخافوا فيها الله ورسوله، وإنما خافوا سطوة الحكام وضياع المناصب وقِطَع الهدايا والعطايا، وفي هذا الوقت الخانق بالفتاوى المضللة، يحفظ لنا الكثير من المواقف المشرقة لعلماء الإسلام الذين أدركوا منذ البداية طبيعة وظيفتهم ومكانتهم وقدرهم، فضربوا أروع الأمثلة في الجهر بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى ولو كان مع أقوى الحكام وأطغى الرؤساء.
كان السلطان سليم الأول العثماني معروفًا بميوله العسكرية المحضة، وهذه الميول تورث صاحبها شدة في التعامل وقسوة في العقاب وغلظة في اتخاذ القرار، وكلها كانت صفات موجودة في السلطان سليم الأول المعروف بشدة بطشه بخصومه وقسوته المفرطة مع المخالفين، وكان سريعًا في سفك الدماء خاصة لرجال الدولة من الوزراء والكتبة والأمناء وغيرهم حتى ضُرب به الأمثال في ذلك، وصار يُدعى على من يُراد هلاكه بأن يصبح وزيرًا لسليم الأول!
كان الشيخ علاء الدين الجمالي من أشهر علماء الدولة العثمانية وفقهائها، تولى العديد من المناصب المهمة داخل الدولة أيام السلطان بايزيد الثاني والد السلطان سليم الأول، وكان شيخًا فاضلاً يصرف جميع أوقاته في التلاوة والعبادة والتدريس والفتوى، وكان شديد الورع في فتاويه حتى إنه كان يُغلق باب داره ويقعد في غرفه له، فتُلقى إليه رقاع الفتاوى فيأخذه ويكتب ثم يدليها؛ حتى لا يرى صاحب الفتوى فيدخل في قلبه شيء منه أو يحابيه لحاجة ما وهكذا. كما كان الشيخ علاء الدين الجمالي جريئًا في الحق صادعًا به، أمّارًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، يواجه بذلك كل الناس فلا يهاب سلطانًا، ولا يخشى طغيانًا.
حدث ذات مرة أن حاسب السلطان سليم الأول حفاظ الخزينة، فوجد عندهم خللاً وتقصيرًا، فأمر بقتلهم جميعًا وكانوا مائة وخمسين رجلاً، فلما علم الشيخ علاء الدين الجمالي وكان وقتها مفتي الدولة العثمانية أسرع للقاء السلطان سليم الأول، فلما دخل عليه سلَّم ثم جلس وقال: وظيفة أرباب الفتوى أن يحافظوا على آخرة السلطان، وقد سمعت بأنك أمرت بقتل مائة وخمسين رجلاً من أرباب الديون، لا يجوز قتلهم شرعًا.
فغضب السلطان سليم غضبته المعروفة والتي عادة ما تنتهي بقتل المتحدث أو نفيه، وقال للمفتي علاء الدين: لا تتعرض لأمر السلطنة، وليس ذلك من وظيفتك. ولو سكت المفتي بعدها ما لامه أحد، فلقد قال كلمة الحق وأبان حكم الشرع، ولو خالفه السلطان فالوزر عليه وحده.
ولكن العالِم العامِل الذي يعلم قدر علمه وقدر مهمته وغاية وظيفته، يعاود الكلام ويرد على السلطان سليم حدته وجبروته ويقول له: بل أتعرض لأمر آخرتك، وهو من وظيفتي، فإن عفوت فلك النجاة، وإلاّ فعليك عقاب عظيم. فعندها انكسرت سورة غضب السلطان سليم، وثاب إلى رشده وعفا عن الكل. ثم زاد المفتي في إحسانه ونصحه وإرشاده وظلَّ يتحدث مع السلطان الذي تبددت سحائب الغضب من على عقله وقلبه، ثم سأله في إعادة الأمناء إلى مناصبهم، فأعادهم جميعًا.
المراجع:
- نجم الدين الغزي: الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة (1/268).
- د. محمد موسى الشريف: المختار المصون من أعلام القرون (2/734).
المصدر: موقع مفكرة الإسلام.