[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
درس بعض الباحثين تاريخ حضارتنا وقسّموه إلى عدّة مراحل، واعتبروا العهدين المملوكي والعثماني من عهود الانحطاط، وأبرز مظاهر الانحطاط في رأيهم: جمود العقول، وقلّة الإبداع العلمي، والتكرار والاجترار في الإنتاج العلمي... إلخ، ومن أبرز الذين شرحوا هذه الحالة ونظّروا لها اثنين هما: مالك بن نبي، ومحمد عابد الجابري. الأول في كتبه عن مشكلات الحضارة، والثاني في كتبه عن العقل العربي.
لقد اعتبر مالك بن نبي أنّ عوامل التعارض الداخلية في المجتمع الإسلامي بلغت قمتها في نهاية دولة الموحدين، ولم يعد الإنسان والتراب والوقت عوامل حضارة، بل أضحت عناصر خامدة ليس بينها صلة مبدعة، وربط مالك بن نبي بين الانحطاط وبين القابلية للاستعمار، فاعتبر أنّ هذه القابلية للاستعمار معامل باطني يستجيب للمعامل الخارجي، وأبرز نتائج هذا المعامل الباطني: البطالة، وانحطاط الأخلاق الذي يؤدي إلى شيوع الرذيلة، وتفرُّق المجتمع الذي يؤدي إلى الفشل من الناحية الأدبية.
لقد طرح مالك بن نبي آراءه عن مشكلات الحضارة في الخمسينيات من هذا القرن، ثم جاء محمد عابد الجابري في الثمانينيات ليطرح دراسته عن العقل العربي في كتابين؛ الأول: عن تكوين العقل العربي، والثاني: عن بنية العقل العربي، فماذا جاء فيهما مما له علاقة بموضوع مقالنا وهو انحطاط الأمة وجمودها العقلي والعلمي؟
لقد اعتبر الجابري أنّ أهم عامل ساهم في تكوين العقل العربي هو عصر التدوين؛ لأنه الإطار المرجعي الذي يشدّ إليه جميع فروع الثقافة وينظّم مختلف تموجاتها اللاحقة إلى يومنا هذا؛ فصورة العصر الجاهلي وصورة صدر الإسلام والقسم الأعظم من العصر الأموي إنما نسجتها خيوط منبثقة من عصر التدوين. وقد استند الجابري في تقرير ذلك إلى نص للذهبي يقول فيه:
"في سنة ثلاث وأربعين ومائة للهجرة شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير، فصنف ابن جريج بمكة، ومالك للموطأ بالمدينة، والأوزاعي بالشام، وابن أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة، ومعمر باليمن، وسفيان الثوري بالكوفة، وصنف ابن إسحاق في المغازي، وصنف أبو حنيفة الفقه والرأي. ثم بعد يسيرٍ صنف هشيم والليث وابن لهيعة ثم ابن المبارك وأبو يوسف وابن وهب. وكثر تدوين العلم وتبويبه، ودونت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس. وقبل هذا العصر كان الناس يتكلمون من حفظهم، أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة" (تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطي، ص416).
ثم درس الجابري الأنظمة المعرفية التي شكلت بنية العقل العربي، وأشار إلى أزمته التي نتجت عن تصادم وتداخل الأنظمة المعرفية الثلاثية وهي: البيان والعرفان والبرهان، وكان أبو حامد الغزالي الذي تشخّص في تجربته الروحية وإنتاجه الفكري هذا التصادم والتداخل.
ثم أشار الجابري إلى لحظتين متمايزتين في العقل العربي، الأولى: تمتد من بدايات عصر التدوين إلى لحظة الغزالي كان العقل العربي فيها فاعلاً منتجًا، الثانية: ما بعد لحظة الغزالي ابتدأ ما أسماه بالتداخل التلفيقي بين النظم المعرفية الثلاثة، وأصبح العقل العربي فيها جامدًا.
لكن الدكتور جورج صليبا توصّل في كتاب جديد تحت عنوان "الفكر العلمي العربي.. نشأته وتطوره" إلى نتائج مخالفة لما توصّل إليه الكاتبان السابقان؛ لأنه اتبع منهجية جديدة في دراسة العلوم العربية، وتقوم هذه المنهجية على رصد التطورات العلمية للعلوم العربية وعلى عدم الانطلاق من نظريات مسبقة، وطبّق ذلك على علم الفلك فتوصّل إلى أنّ العصر الذهبي لعلم الفلك العربي هو العصر الذي يطلقون عليه عصر الانحطاط بالنسبة للعلوم العربية بشكل عام، ويشير في هذا الصدد إلى نظريات ابتدعها نصير الدين الطوسي في كتابيه "تحرير المجسطي" الذي ألّفه عام 1247م، و"التذكرة في الهيئة" الذي ألفه بعد الكتاب السابق بنحو ثلاث عشرة سنة، وقد أفرد الطوسي فصلاً كاملاً للرد على علم الفلك اليوناني ولإقامة هيئته البديلة..
وفي أثناء هذا العرض يستخدم الطوسي مرة ثانية النظرية الجديدة التي كان قد اقترحها بشكل مبدئي في كتاب "تحرير المجسطي"، وإذا بهذه النظرية تظهر هي الأخرى بعد حوالي ثلاثة قرون في أعمال كوبرنيك بالذات وبالشكل الذي ظهرت فيه في "تذكرة" الطوسي.
وقد درس المستشرق "كارادي فو" هذا الفصل بالذات من "تذكرة" الطوسي في أواخر القرن التاسع عشر، وكان قد عثر فعلاً على نظرية الطوسي الجديدة، لكنه لم يستطع أن يضعها في إطارها الصحيح؛ لأنه كان يعمل ضمن العقلية التي لا تتوقع أن تجد أعمالاً إبداعية في هذه المرحلة المتأخرة التي وُسمت بعصر الانحطاط.
ولم يتوقف الأمر عند الطوسي وحده بل شمل الإبداع في علم الفلك عشرات من الآخرين في القرون التالية، وكان من أبرزهم شمس الدين الخفري الذي كان معاصرًا لكوبرنيك، والذي كان يتحلّى بمقدرة رياضية وبدرايةٍ في دور الرياضيات في صياغة العلوم، ندر أن يوجد مثلها في أعمال الذين أَتَوْا قبل القرن السابع عشر الذي تم فيه فعلاً تكوين العلم الحديث.
وعند التدقيق نجد أنّ اعتبار أنّ هناك عصر انحطاط في المجال العقلي كلام غير دقيق، وعلى العكس فإنّ النظرة الفاحصة المدقّقة المتبصرة تلغي مثل هذا الحكم، وتبيّن أن علم الفلك -على الأقل- لا ينطبق عليه مثل هذا الحكم، حسب الدراسة المتبحرة التي قام بها الدكتور صليبا وحسب النتائج الأكيدة التي توصل إليها.
إن كل تلك الأحكام التي وصفت مرحلة ما بعد الموحّدين بالانحطاط لم تأت حصيلة دراسة موضوعية للوضع العلمي في تلك المرحلة؛ لذلك جاءت الأحكام غير علمية، وهي غير ملزمة لنا بحال من الأحوال.
ومن ثَمّ فعلى الباحثين الذين يريدون أن يقوِّموا فترة من تاريخنا الحضاري، عليهم أن يدرسوا الإنتاج العقلي والعلمي لتلك المرحلة، ثم عليهم أن يصدروا الحكم المناسب حسب حيثيات الإنتاج، كما فعل الدكتور صليبا في مجال علم الفلك، وأنا متأكد من أنهم سيصلون إلى نتائج مختلفة كما وصل الدكتور صليبا؛ لأن الاطلاع الأوليّ على تلك المرحلة يفاجئنا بأسماء لامعة ذات عقلية فذة من مثل: ابن تيمية، وابن خلدون، وابن حجر العسقلاني، والذهبي، والشاطبي... إلخ، وعلماء موسوعيين ذوي عقليات مبتكرة كأمثال: القلقشندي، والفيروزآبادي... إلخ، ويفاجئنا بمخترعات علمية متعددة في مجال الجغرافيا والميكانيك والرياضيات والصناعة... إلخ، ولا يمكن أن تتفق تلك المعطيات مع الجمود والانحطاط.
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، العدد (453)، جمادى الآخرة 1424هـ.