[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]لقد شمل الوقف الإسلامي كل الجوانب الحضارية المهمة؛ من إقامة المساجد العامرة، والمكتبات، والبيمارستانات (المستشفيات)، والأسبلة، والآبار، والحمَّامات، والمدارس، فكان تلبية لكل مُتَطَلَّبَات المجتمع الإسلامي على جميع الأصعدة المختلفة.
الجانب الديني
ففي الجانب الديني وجدنا للوقف دوره الذي لا يمكن إنكاره، فآلاف المساجد الموجودة في كل البلدان الإسلامية هي في الحقيقة أعيانٌ موقوفة أراد أصحابها من وقفها الخير والأجر والمثوبة.
الجانب العلمي
وفي الجانب العلمي وجدنا مئات المدارس الموقوفة لطلبة العلم؛ من أجل تحقيق أغراض الواقفين، ورفعة شأن الأُمَّة الإسلامية في جانبها العلمي.
ومن أشهر السلاطين الذين أَحْيَوْا سُنَّة الوقف العلمي، السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله؛ فمن أهمِّ وقوفاته في مصر أنه "بنى مدرسة بالقاهرة في جوار المشهد المنسوب إلى الإمام الحسين بن علي "، وجعل على ذلك وقفًا جيدًا، وجعل دار سعيد السعداء خادم المصريين خانقًا[1]، ووقف عليها وقفًا طائلاً، وجعل دار عباس بن السلار مدرسة للحنفية وعليها وقف جيدٌ أيضًا، والمدرسة التي بمصر المعروفة بـ"زين النجار" وقفًا على الشافعية وقفًا جيدًا أيضًا، وله بمصر أيضًا مدرسة للمالكية"[2].
الجانب الاجتماعي
وفي الجانب الاجتماعي وجدنا وقف الأسبلة والرباطات والتكايا، ووقوفًا أخرى على الفقراء والمساكين كان لها أكبر الأثر في التكافل الاجتماعي في تلك العصور الزاهرة، فنجد الأمير نور الدين محمود –رحمه الله- يجعل أوقافًا للمرضى والضعفاء والأيتام في حلب وفي سائر البلدان الإسلاميَّة الأخرى، وفي مكة المكرمة نَجِدُ أن حديقة كبيرة بجوار الحرم الشريف، تُوقَفُ "على الفقراء والمساكين والواردين والصادرين لزيارة سيد المرسلين، أوقفها الشيخ عزيز الدولة ريحان الندى الشهابي شيخ خدَّام الحرم الشريف وذلك في سنة سبع وتسعين وستمائة"[3].
وممَّا يُدَلِّل على اهتمام الملوك والسلاطين والأغنياء وأهل الخير بإنشاء الأوقاف التي تخدم الجوانب الاجتماعية لدى المسلمين، ما نُقل عن السلطان المملوكي الظاهر برقوق[4]؛ أنه جعل وقفًا دارًّا لأجل مكتب "يقرأ فيه الأَيتام القرآن الكريم بقلعة الجبل"[5]، وهي القلعة التي يحكم منها الديار المصرية والشامية وسائر البلدان الخاضعة لسلطانه.
ومن أرقِّ ما وُجِدَ في الإسلام وألطفه ما تحدث عنه ابن بطوطة في رحلته بإعجاب وانبهار، فقال عن أوقاف دمشق: "والأوقاف بدمشق لا تحصر أنواعها ومصارفها؛ لكثرتها، فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج، يُعطى لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهن، وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن، ومنها أوقاف لفكاك الأسارى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل، يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطرق ورصفها؛ لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون، ويمر الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير"[6].
ومن أعجب ما ذكره ابن بطوطة "أوقاف الأواني"، إذ قال عن تجربة شخصية له: "مررت يومًا ببعض أزقة دمشق فرأيت به مملوكًا صغيرًا قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصيني، وهم يسمونها الصَّحن، فتكسرت واجتمع عليه الناس فقال له بعضهم: اجمع شقفها، واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني. فجمعها، وذهب الرجل معه إليه، فأراه إياها، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن، وهذا من أحسن الأعمال؛ فإن سيد الغلام لا بُدَّ له أن يضربه على كسر الصحن، أو ينهره، وهو -أيضًا- ينكسر قلبه، ويتغير لأجل ذلك فكان هذا الوقف جبرًا للقلوب، جزى الله خيرًا من تسامت همته في الخير إلى مثل هذا"[7]!
وفي أكثر من بلد إسلامي كان هناك وقف لإعارة الحلي والزينة في الأعراس والأفراح، فيستفيد من هذا الوقف الفقراء والعامة بما يلزمهم من الحلي لأجل التزيُّن به في الحفلات، ويُعيدونه إلى مكانه بعد انتهائها، فيتيسَّرُ للفقير أن يبرز يوم عرسه بحلَّة لائقة، ولعروسه أن تُحلَّى بحلية رائعة مما يُجبر خاطرهما[8]!
وفي تونس وقف لختان أولاد الفقراء، يختن الولد، ويُعطى كسوة ودراهم، وهناك وقف تُوَزَّع منه الحلواء في شهر رمضان مجانًا، ويأتي إلى تونس في بعض أيام السنة نوع من السمك، تفيض به شواطئها، ومن ثم كان هناك وقف يُشترى من ريعه جانب كبير من هذا السمك، ويوزّع على الفقراء مجانًا، وكان فيها وقف لمن وقع عليه زيت مصباح، أو تلوث ثوبه بشيء آخر، يذهب إلى هذا الوقف، ويأخذ منه ما يشتري به ثوبًا آخر[9].
والأغرب من ذلك، أنه كان بمدينة مَرَّاكش بالمغرب، مؤسسة وقفية تُسمى "دار الدُّقة"[10]، وهي ملجأ تذهب إليه النساء اللاتي يقع بينهن وبين أزواجهن نفور وبغضاء، فلهن أن يقمن آكلات شاربات إلى أن يزول ما بينهن وبين أزواجهن من نفور[11]!
الجانب الصحي
وكان للوقف دور بارز في المجال الصحِّيِّ منذ القرن الأول الهجري، فأوَّل مَنِ اتَّخذ البيمارستانات للمرضى هو الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك؛ حيث بنى بيمارستانًا بدمشق وسبَّلَه للمرضى[12]. وقد أبدى الوليد اهتمامًا خاصًّا بمرضى الجذام، ومَنَعَهُمْ من سؤال الناس، وأَوْقَفَ عليهم بلدًا يَدِرُّ عليهم أرزاقًا، كما أمر لكل مُقْعَدٍ خادمًا، ولكلِّ ضرير قائدًا[13].
ومن أهمِّ البيمارستانات التي أُوقفت في بغداد البيمارستان العضدي، فقد أنشأه عضد الدولة البويهي في بغداد سنة (366هـ/976م)، وكان ذلك في الجانب الغربي من مدينة بغداد، وكان البيمارستان يضمُّ 24 طبيبًا؛ ممَّا يدلُّ على اتِّساعه، وتعدُّد تَخَصُّصَاته، ووقف عضد الدولة لهذا البيمارستان وقوفات كثيرة؛ فكان العلاج مَجَّانًا لجميع المواطنين، وكان المريض يلقى العناية الفائقة في المستشفى من الثياب الجديدة النظيفة، ومن الأغذية المُتَنَوِّعة، والأدوية اللازمة، وبعد شفاء المريض، كان يُعْطَى نفقة سفرياته ليستطيع العودة إلى بلده[14].
ولقد بلغ الاهتمام بالبيمارستانات الموقوفة مَبْلَغًا عظيمًا من الرُّقِيِّ والاعتناء والتَّقَدُّم؛ حتى وجدنا أن بعض الناس كانوا يتمارضون رغبة منهم في الدخول إلى البيمارستان؛ لِمَا يجدونه من عناية ورعاية ومأكولات شهيَّة، وكان بعض الأطباء يَغُضُّون الطرف أحيانًا عن هذا التحايل؛ فقد ذكر المؤرِّخ خليل بن شاهين الظاهري[15] أنه زار أحد المستشفيات في دمشق عام (831هـ/ 1427م) فلم يُشاهِد مثله في عصره، وصادف أن شخصًا كان متمارِضًا في هذا المستشفى فكتب له الطبيب بعد ثلاثة أيام من دخوله: بأن الضيف لا يُقيم فوق ثلاثة أيام[16]!
لقد امتازت الأوقاف في الحضارة الإسلامية بالتنوع والانتشار، وقد كان النظام الوقفي الإسلامي دليلاً على انفراد الحضارة الإسلامية بمثل هذا النظام الذي حقق للمسلمين ولغير المسلمين آليات متعددة لم يعرفها العالم من قبل للتكافل والتراحم ونهضة الحضارة الإسلامية.
د. راغب السرجاني