[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
اهتم حكام الأندلس بتحرير أسراهم اهتمامًا كبيرًا، فهذا التابعي عنبسة بن سحيم الكلبي (ت شعبان 107هـ/ ديسمبر725م) يتوجه على رأس جيش كبير إلى مدينة قرقشونة فيحاصرها، ولا يفك عنها الحصار إلا بعد خضوع أهلها للصلح، وموافقتهم على إطلاق سراح كل الأسرى.
وها هو هشام بن عبد الرحمن الداخل (ت 180هـ/ 796م) الذي اشتهر بالصلاح، حتى شُبّه بعمر بن عبد العزيز قد "بلغ من عز الإسلام في أيامه، وذلّ الكفر، أن رجلاً مات في أيامه، وكان وصَّى أن يَفُكّ أسيرًا من المسلمين من تركته، فطلب ذلك فلم يوجد في دار الكفار أسيرٌ يُشترى ويُفَك؛ لضعف العدو، وقوة المسلمين".
ويُروى أن امرأة مسلمة من وادي الحجارة قتل العدو وأسر جماعة من أهلها، فقالت: واغوثاه بك يا حَكَم! لقد أهملتنا، حتى كَلَبَ العدو علينا، فأَيَّمَنا، وأَيْتَمَنا. فسمع استغاثتها شاعر اسمه العباس، فدخل على الحكم بن هشام الربضي (ت 206هـ/821م)، وأبلغه باستغاثة المرأة به، وعتبها عليه، وبما فعل الأعداء بمسلمي وادي الحجارة، وأنشده قصيدة جاء فيها:
تدارك نساء العالمين بنصـرةٍ *** فإنك أحرى أن تُغيثَ وتَنْصُـرا
فنادى الحكم بالجهاد والاستعداد، وانطلق إلى وادي الحجارة، وسأل عن الخيل التي أغارت من أي أرض العدو كانت؟ فأُعلم بذلك، فغزا تلك الناحية وأثخن فيها، وفتح الحصون، وقتل عددًا كثيرًا، وحرر أسرى المسلمين، ورجع إلى وادي الحجارة، وأمر بإحضار المرأة، وجميع من أُسر له أحد في تلك البلاد، فأمر بضرب رقاب أسرى العدو أمامهم، وقال للعباس: سَلْها هل أغاثها الحكم؟ فقالت المرأة: والله لقد شفى الصدور، وأنكى العدو، وأغاث الملهوف، فأغاثه الله. فارتاح لقولها، وبدا السرور في وجهه، وقال:
أَلَمْ تَرَ يا عبَّاس أني أجبتهــا *** على البعد أقتادُ الخميسَ المُظَفَّـــرا
فأدركْتُ أوطارًا وبرَّدتُ غِلًّـةً *** ونفَّستُ مكروبًا وأغنيتُ مُعسِــرا
فقال العباس: نعم، جزاك الله خيرًا عن المسلمين.
وعلى الدرب نفسه سار الأمويون في عهد الخلافة، فقد أوغل المنصور بن أبي عامر (ت 393هـ/ 1003م) في دويلات الشمال الإسباني، وحقق انتصارات كبيرة عليهم، حتى إنه لم يترك أسيرًا في بلادهم من المسلمين إلا حرّره، فامتدحه الشعراء، وكُتِب على قبره:
آثارُه تُنْبيكَ عـن أوصافـهِ *** حتى كأنك بالعيـانِ تـراهُ
تالله لا يَأْتي الزمـانُ بمثلِـهِ *** أبدًا ولا يحمـي الثُّغورَ سِواهُ
ويقدم المَقَّرِي رواية تشهد على دور المنصور بن أبي عامر في تحرير أسرى المسلمين، وتبين كيف قرر أن يخوض حربًا من أجل تحرير أسيرة واحدة، وتظهر عزّ المسلمين عندما يتمسكون بمبادئ دينهم، ويجاهدون في سبيل ربهم؛ إذ تتحدث عن رسول للمنصور كان كثير التردد على ديار النصارى، وأنه زار كنيسة في إحدى رحلاته لبلاد البشكنس، فتعرضت له امرأة مسلمة، مأسورة في الكنيسة منذ سنين، وشرحت له سوء حالها، وطلبت أن يعمل المنصور على إنقاذها..
وعندما علم المنصور بقصتها، جهز جيشًا كبيرًا توجه به إلى بلاد البشكنس؛ فخاف أميرها ابن شانجة، وأرسل رسله إلى المنصور، يسألونه عن سبب غزوه لبلادهم، "ويحلف أنه ما جنى ذنبًا، ولا جفا عن مضجع الطاعة جنبًا، فعنَّف -المنصور- رسله، وقال لهم: كان قد عاقدني أن لا يُبقِي ببلاده مأسورة ولا مأسور، ولو حَمَلَتْهُ في حواصلها النسور، وقد بلغني بعدُ بقاء فلانة المسلمة في تلك الكنيسة، ووالله لا أنتهي عن أرضه حتى أكتسحها. فأرسل إليه المرأة في اثنتين معها، وأقسم أنه ما أبصرهنَّ، ولا سمع بهنَّ، وأعلمه أن الكنيسة التي أشار بعلمها، قد بالغ في هدمها؛ تحقيقًا لقوله، وتضرَّع إليه في الأخذ فيه بطَوْله، فاستحيا منه، وصرف الجيش عنه".
وفي سنة (396هـ/ 1006م) حاول ملك القسطنطينية أن يسترضي عبد الملك بن المنصور، ليتوقف عن غزو جليقية، وليستمر في مهادنة شانجة، فأرسل إليه هدية، ومجموعة من أسرى المسلمين في الأندلس، أُسروا بأطراف جزائره البحرية، فسُرَّ عبد الملك بذلك، كما سُرَّ أحد شعراء الأندلس، بهذا العز للإسلام وأهله، الذي جعل ملك القسطنطينية يتقرب لعبد الملك بن المنصور، ويسترضيه، فيطلق سراح أسرى مسلمين لم يطالب عبد الملك بهم؛ لأنه لا يعلم خبرهم، فقال:
زَلْزَلْتَ بالمرهفاتِ صاحب قسـ *** ـطنطين حتى اتَّقَاكَ بالكُتـــِبِ
يطلبُ فيها رِضــاكَ مُجْتـهدًا *** مِـن قَبْـلِ أنْ يَتَّقِيـكَ بالهَـرَبِ
فليس بالفائتِ البعـــد مع الله *** إذا مـا هَمَـمْتَ بالطَّلـــب
وما كان لهذه العزة أن تتحقق لعبد الملك وللأسرى ولجميع المسلمين في الأندلس، إلا بالجهاد الذي يعزّ الله به المسلمين حكامًا وشعوبًا، ويعذب بتركه المتقاعسين؛ مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ترك قومٌ الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب». فهل من معتبر؟!
المصدر: موقع فلسطين أون لاين.