[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
تمثل جزيرة صقلية واحدة من الأمثلة الواقعية على أن الإسلام ليس مجرد رسالة روحية، ذلك أن النهضة الإسلامية التي بعثها الإسلام في الأراضي التي فتحها لم تكن ارتفاعًا بالمستوى الروحي الأخلاقي فحسب، بل شملت النهضة المادية كذلك، ففي الإسلام ليس ثمة انفصال بين ما هو روحي ديني وما هو مادي دنيوي.
وفي استعراض الحال إبان القرنين اللذين عاشتهما صقلية في ظل الإسلام، نجد أن القيم الأخلاقية والمعاني الإنسانية التي دخلت إلى صقلية وإلى أوربا مع الفتح الإسلامي قد رافقتها عمليات نهضة علمية أيضًا، ومثلت صقلية أهمية خاصة في التاريخ؛ كونها كانت أحد المعابر التي نقلت الحضارة الإسلامية إلى الغرب.
وبعد أن استعرضنا في المقال الماضي طرفًا من النهوض الإنساني الحضاري في صقلية[1]، نستعرض في هذا المقال شذرات من النهضة الحضارية المادية في صقلية.
الزراعة في صقلية
شهدت الزراعة في صقلية طفرة كبيرة، فبعد أن كانت الجزيرة في أيام البيزنطيين تهتم بالقمح والكرمة، أدخل المسلمون إليها محاصيل جديدة منها: الليمون والبرتقال والقصب والأرز والنخيل والقطن والبردي والسكر، حتى نشأت في صقلية أساليب زراعية تلائم بيئتها، وأصبحنا نسمع في كتاب الفلاحة بما يسمى طريقة صقلية في زراعة البصل مثلاً، أو عادة أهل صقلية في زراعة القطن، أو طريقتهم الخاصة في عمل معنب من عصير العنب الحلو، وأكثر الناس من زراعة الخضروات.
وكانت "بلرم" وضواحيها عامرة بالبساتين والأجنة والطواحين. ويذكر المقدسي كثرة الفواكه والخيرات والأعناب في بلرم وضواحيها، ولم يغير الفتح النورماني كثيرًا من عمران صقلية؛ ولذلك نستطيع أن نعتمد على ما كتبه الإدريسي لنتصور الحالة الزراعية بصقلية في العصر الإسلامي.
وليس هنالك من بلد مذكور من صقلية -في نزهة المشتاق- لا يقترن به ذكر البساتين والمتنزهات والمياه والمزارع الطيبة وسائر القلاع والحصون، داخلية كانت أو ساحلية. وحول "شنت ماركو" خاصّة كان يكثر البنفسج ذو الرائحة الفائحة العطرة[2].
كانت الجزيرة تتمتع بالموارد الكافية ولم ينقصها إلا قوم يجيدون تنظيمها وإدارة مواردها، يشرح هذا المؤرخ الأمريكي المعروف ول ديورانت بقوله: "كانت صقلية تستمتع بقسط كبير من المطر وضوء الشمس، فقد كانت تربتها غاية في الخصب، فلما جاءها العرب المهرة، وأحسنوا تنظيم أحوالها الاقتصادية جنوا ثمار هذا التنظيم، وأضحت بالرم (باليرمو) ثغرًا تجاريًّا عظيمًا بين أوربا المسيحية وإفريقية الإسلامية، وما لبثت أن صارت من أغنى المدن في بلاد الإسلام"[3].
ولنا أن نتخيل حجم الإخصاب والإعمار الذي يجعل هذه الجزيرة التي تعدّ من ضمن البقاع الجغرافية غير المحسوبة في ميزان البلاد، يجعلها من أغنى المدن في بلاد الإسلام!!
وقد أرجع مؤرخ صقلية ميشيل أماري بداية النهضة الحقيقية في الزراعة إلى النظام الإسلامي في محاربة الإقطاع، فبعد أن كانت مشكلة صقلية في الإقطاعيات الكبيرة لم يمض وقت كثير حتى "قضى نظام الإرث الإسلامي على هذه الإقطاعات"؛ مما جعل عددًا كبيرًا من الناس يملك مساحات أصغر من الأرض[4]، مما عاد بالخير على الزراعة في صقلية.
الصناعة في صقلية
وامتدت النهضة من مجال الزراعة إلى مجال الصناعة التي اعتمدت على الحاصلات النباتية والحيوانية والمعدنية، فقامت صناعة السفن على الخشب وعلى الحديد، وكان القطن يصدر بكثرة إلى البلاد الإفريقية، وكان الكتان الصقلي ذا شهرة واسعة لجودته الفائقة وأسعاره الرخيصة، حتى يذكر ابن حوقل أن ثياب الكتان فيها لا نظير لها جودة ورخصًا، وتم استثمار المعادن الموجودة في صقلية كالكبريت والشب والزفت والقطران، وعلى ثروة الغابات الخاصة من جبل "إتنا" الذي يؤخذ منه الجوز والقسطل وخشب الأرزن، أضف إلى ذلك مستخرجات البحر والأنهار كسمك التن والمرجان[5].
وبهذا كانت صقلية أحد أهم المعابر لحضارة الإسلام إلى الغرب الأوربي، وتمثل أهم إنجاز للمعبر الصقلي في نقل "صناعة الورق" إلى الغرب، وتحديدًا من صقلية إلى إيطاليا ومن الأندلس إلى فرنسا كما يقرر مؤرخ الحضارة ول ديورانت[6].
وأهم ما أحدثه نقل صناعة الورق إلى أوربا أنه أخرج أوربا من الظلمات إلى النور، فصناعة الورق -بتعبير زيجريد هونكه- هي في الحقيقة "إحدى دعائم الثقافة والحياة الرُّوحية، وبذلك فتح المسلمون عصرًا جديدًا لم يَعُدِ العْلِمُ فيه وَقْفًا على طبقة مُعَيَّنة من الناس، بل غدا مَشاعًا للجميع، ودعوة لكل العقول لأن تَعْمَلَ وتُفَكِّر"[7].
ونقلت صقلية إلى أوربا فن صباغة المنسوجات التي يؤكد جوستاف لوبون أن كل الأدلة تؤدي إلى هذه النتيجة، يقول: "يحمل كل شيء على القول بانتشار فن صباغة المنسوجات في أوربا من صقلية"[8].
وقد استدعت النهضة الصناعية تعدد الحرف في أيدي الناس. وفي بلرم وحدها عدَّ ابن حوقل أصنافًا كثيرة منها وذكر أن لكل أهل حرفة سوقًا..
فبَيْن مسجد ابن سقلاب والحارة الجديدة كانت تقع أكثر الأسواق كسوق "الزياتين بأجمعهم والدقاقين والصيارفة والصيادنة والحدادين والصياقلة وأسواق القمح والطرازين والسماكين والأبزاريين وطائفة من القصابين وباعة البقل وأصحاب الفاكهة والرياحين والجرارين والخبازين والجدالين، وطائفة من العطارين والجزارين والأساكفة والدباغين والنجارين والغضائريين والخشابين خارج المدينة. وببلرم طائفة من القصابين والجرارين والأساكفة وبها للقصابين دون المائتي حانوت لبيع اللحم والقليل منهم برأس السماط، ويجاورهم القطانون والحلاجون والحذاءون". وهذه الفقرة الإحصائية غنية بالدلالة على حال السوق في بلرم أثناء العصر الإسلامي[9].
لكل هذا يقرر لوبون أن العرب "انتشلوا وبسرعة الزراعة والصناعة من الانحطاط الذي كانتا فيه، كما انتعشت التجارة واتسع نطاقها بعد أن كانت صفرًا تقريبًا"[10].
النهضة العمرانية في صقلية
يصف الجغرافي الكبير الإدريسي -وقد كان من العلماء الذين عاشوا في رعاية الملك روجر- مدينة "بلرم" عاصمة المسلمين في صقلية، والتي استمرت عاصمة الملوك النورمان فيما بعد، فيعطينا بانبهاره صورة عما وصلت إليه حاضرة صقلية من ازدهار في عهد المسلمين، إذ لم يكن مر من الوقت ما يتيح للنورمان أن يصنعوا فيها حضارة، ومما قال فيها:
"المدينة السنية العظمى، والمحلة البهية الكبرى، والمنبر الأعظم الأعلى على بلاد الدنيا، وإليها في المفاخر النهاية القصوى ذات المحاسن الشرائف، ودار الملك في الزمن المؤتنف والسالف، ومنها كانت الأساطيل والجيوش تغدو للغزو وتروح كما هي الآن عليه من ذاك، وهي على ساحل البحر منها في شرقيها، والجبال الشواهق العظام محدقة بها، وساحلها بهيج مشرق فرج، ولها حسن المباني التي سارت الركبان بنشر محاسنها في بناءاتها ودقائق صناعاتها وبدائع مخترعاتها.
وهي على قسمين: قصر، وربض؛ فالقصر هو القصر القديم المشهور فخره في كل بلد وإقليم، وهو في ذاته على ثلاثة أسمطة؛ فالسماط الأوسط يشتمل على قصور منيعة ومنازل شامخة شريفة وكثير من المساجد والفنادق والحمامات وحوانيت التجار الكبار، والسماطان الباقيان فيهما أيضًا قصور سامية ومبان فاخرة عالية وبهما من الحمامات والفنادق كثير، وبها الجامع الأعظم الذي كان في الزمن الأقدم وأعيد في هذه المدة على حالته كما كان في سالف الأزمان، وصفته الآن تغرب عن الأذهان لبديع ما فيه من الصنعة والغرائب المفتعلة المنتجة المخترعة من أصناف التصوير وأجناس التزاويق والكتابات.
وأما الربض فمدينة أخرى تحدق بالمدينة من جميع جهاتها، وبه المدينة القديمة المسماة بالخالصة التي بها كان سكنى السلطان والخاصة في أيام المسلمين وباب البحر ودار الصناعة التي هي للإنشاء.
والمياه بجميع جهات مدينة صقلية مخترقة، وعيونها جارية متدفقة، وفواكهها كثيرة، ومبانيها ومتنزهاتها حسنة تُعجِز الواصفين، وتبهر عقول العارفين، وهي بالجملة فتنة للناظربن"[11].
ومما يقول ابن جبير، الجغرافي الأندلسي الشهير، الذي زار صقلية في عام (580هـ/ 1184م) عن وصف بلرم: "أم الحضارة، والجامعة بين الحسنين غضارة ونضارة، فما شئت بها من جمال مخبر ومنظر، ومراد عيش يانع أخضر، عتيقة أنيقة، مشرقة مونقة، تتطلع بمرأى فتان، وتتخايل بين ساحات وبسائط كلها بستان، فسيحة السكك والشوارع، تروق الأبصار بحسن منظرها البارع، عجيبة الشان، قرطبية البنيان... تنتظم بلبتها قصوره انتظام العقود في نحور الكواعب، ويتقلب من بساتينها وميادينها بين نزهة وملاعب..."[12].
وللحديث عن تاريخ صقلية الإسلامية مقال آخر بإذن الله تعالى، فهو الموفق والمستعان.
[1] راجع المقال الماضي "جزيرة صقلية في ظل الإسلام".
[2] إحسان عباس: العرب في صقلية، دار الثقافة، بيروت، الطبعة الأولى، 1975م، ص72، 73.
[3] ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة: مجموعة الهيئة المصرية للكتاب، طبعة مكتبة الأسرة، 2001م، 13/279.
[4] Amari: S. D. M. vol.2 pp40 – 41 نقلاً عن: د. إحسان عباس: العرب في صقلية ص70.
[5] د. إحسان عباس: العرب في صقلية، ص73 وما بعدها.
[6] ول ديورانت: قصة الحضارة 13/170.
[7] زيجريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب، ترجمة فاروق بيضون، كمال دسوقي، راجعه ووضع حواشيه مارون عيسى الخوري، دار صادر، الطبعة العاشرة - بيروت، 2002م، ص46.
[8] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م، ص310.
[9] إحسان عباس: العرب في صقلية، ص75.
[10] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص310.
[11] الإدريسي: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، 1409هـ، 2/590، 591.
[12] ابن جبير: رحلة ابن جبير، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، ص305، 306.
المصدر: موقع المركز العربي للدراسات والأبحاث.