هناك أكاذيب يردِّدها مثقفو الحظيرة في كل مناسبة، ويصدقها كثير من الناس؛ بسبب الإلحاح عليها ونشرها في وسائط التعبير التي يهيمنون عليها، ويملكون القدرة على تسخيرها بسرعة وسهولة شديدتين. ومن هذه الأكاذيب أن الرئيس السادات -رحمه الله- هو صانع ما يسمى الفتنة الطائفية ونسمِّيه التمرد الطائفي؛ وذلك بسبب قوله: إنه رئيس مسلم لدولة مسلمة، ولأنه قام بتحديد إقامة زعيم التمرد الطائفي في دير وادي النطرون عام 1981م، وتحفظ على مجموعة من الأساقفة المتمردين، مع جملة الآلاف الذين تحفظ عليهم (اعتقلهم) من المسلمين في الوقت نفسه.
لقد تولى الرئيس السادات الحكم بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في 29 من سبتمبر 1970م، كانت البلاد غارقة في عار الهزيمة العسكرية والحضارية المريرة، وكان الغزاة النازيون اليهود على الضفة الشرقية لقناة السويس يغيظون المصريين بسلوكهم الإجرامي وهجمات الطيران المتكررة على قواعد الصواريخ والمواقع العسكرية، التي يحاول المصريون بناءها والتمترس خلفها، وكان الاقتصاد المصري في الحضيض بعد أن وُجِّهت أغلب ميزانيته للتسليح وخدمة المجهود الحربي..
وكانت كاريزما الرئيس الراحل تسبِّب متاعب سياسية وعسكرية لخلفه الرئيس الجديد، الذي افتقد الحضور المهيمن في وجدان قطاعات كثيرة من الشعب.. وكانت ضغوط المصريين من أجل المواجهة مع العدو وحسم الموقف الذي سُمِّي باللاسلم واللاحرب هائلة على الرئيس الجديد وسلطته، وكان موقف الاتحاد السوفيتي الذي يمثِّل الداعم الرئيس للجيش المصري بالسلاح والتدريب ملفوفًا بالغموض والتباطؤ والشك، وكانت هناك مطامع من رجال الرئيس السابق الذين استعان بهم السادات في استمرار السلطة عبّرت عن نفسها في محاولات الانقلاب على الرئيس الجديد، وانتزاع السلطة منه.
في هذا الجو الملبد بالغيوم والضباب والخيبات المتنوعة، تولى قيادة الكنيسة رئيسها الحالي في نوفمبر 1971م، وقد جاء من جماعة الأمة القبطية مشبعًا بأفكارها الانعزالية الإرهابية المعادية للإسلام والمسلمين، الساعية إلى تحرير مصر ممن تسميهم بالبدو أو العرب الغزاة المسلمين الذين احتلوا مصر، وأخذوها من أهلها (النصارى). وكانت خطة الرئيس الجديد للكنيسة هي إظهار العين الحمراء للحكومة المصرية، والتعبير عن فكر جماعة الأمة القبطية الإرهابية ببناء الكنائس، وخاصة في الأماكن المهمة بمداخل المدن والطرق العامة والميادين؛ في مسعى يهدف إلى تغيير هوية الوطن الإسلامية، وإظهار مصر في صورة أخرى تنفي عنها إسلامها وعروبتها.
وكان الصدام الأول أو الهجوم الأول في الخانكة، حيث قام التمرد الطائفي بتحويل مقر اجتماعي إلى كنيسة، وصحب ذلك استخدام العنف ضد السكان المسلمين في المنطقة، وعندما تدخلت الدولة، اشتعلت لأول مرة مظاهرة تضم مائة وسبعين راهبًا، اتجهت إلى الخانكة مصحوبة بتوصية من رئيس الكنيسة الجديد أن يواجهوا ما يجري بمنطق الشهادة، وأن يعودوا سبعة عشر بدلاً من مائة وسبعين!
ثم كانت أحداث الزاوية الحمراء، واستخدم المتمردون السلاح الناري ضد المسلمين.
ومع أن السلطة كانت تحاول احتواء الأحداث، وإغلاق الملف بترك المجرمين من المتمردين طلقاء دون مؤاخذة، والاكتفاء بما يُسمَّى لجان تقصي الحقائق، والموافقة الضمنية على إقامة الكنيسة غير القانونية، وسيادة سياسة الأمر الواقع - فلم يتوقف المتمردون عن التحرش بالدولة وبالمسلمين، واستمر الأمر وفق هذا المنوال على مدى أربعين عامًا، حيث أقيمت في عهد مبارك وحده أكثر من ثلاثة آلاف ومائة كنيسة، في حين أن كنائس مصر منذ الفتح الإسلامي حتى يوم تولي مبارك لم تزد عن خمسمائة كنيسة!
ثم كان التطبيق العملي للوثيقة التي تمخض عنها الاجتماع الكنسي بالإسكندرية عام 1972م، وكان من أبرز عناصرها العمل على مضاعفة أعداد النصارى بكل الوسائل؛ حتى يتساوى السكان من المسلمين والنصارى، لتحقيق غايات متعددة سبق أن أشرت إليها في موضع آخر، ونشرها الشيخ الغزالي في كتابه قذائف الحق.
كان التمرد يأخذ مواقف رعناء، وكانت البلاد تستعد لخوض معركة كبرى مع العدو، وكان يفترض أن يكون شُركاء الوطن على قلب رجل واحد، ولكن الكنيسة المتمردة كان لها تفكير آخر، ومنهج آخر.
حاول السادات أن يحتوي التمرد بأقصى درجات الصبر والتحمل؛ من أجل خوض معركة عُدَّتْ معركة تاريخية.. وعبَرَتِ القوات المسلحة إلى الضفة الشرقية، وكسرتْ ذراع الغزاة الصهاينة الطويلة، وسعد الناس بالعبور، وارتفعت الروح المعنوية لدى الشعب. ولكن قيادة الكنيسة المتمردة لم تفرح، وواصلت مخططها الشيطاني بفرض مطالب، وافتعال مشكلات، وتحريك الأذرع الشيطانية في أوربا وأمريكا للتشهير بالمسلمين في مصر، والحديث عن اضطهاد النصارى وحرمانهم من حقوقهم.
الأخطر من ذلك كله هو فصل الطائفة عن محيطها الاجتماعي، واستغلال ضعف الدولة بتحويل الكنيسة إلى حكومة موازية تتولى شئون أفراد الطائفة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وترعاهم في المجالات كافة، وصارت أدبيات الوعظ والإرشاد تؤكد على أن النصارى هم أصحاب البلد، وأن العرب المسلمين غزاة يجب أن يرحلوا عن مصر، وهو ما عبَّر عنه بيشوي في تصريحاته المثيرة والشهيرة (سبتمبر 2010م) بأن المسلمين ضيوف على النصارى!
في أواخر أيام السادات كثرت حالات الصدام الطائفي؛ مما دفع السادات إلى تحديد إقامة رئيس الكنيسة في وادي النطرون، وتشكيل مجلس من كبار الكهنة لقيادة الكنيسة بقيادة الأنبا متى المسكين، وهو ما لم يغفره رئيس الكنيسة لأستاذه متى المسكين، فقد حاصره في حياته ومنع نشر كتبه وتوزيعها حتى وفاته، وضيَّق على تلاميذه وحرمهم من الترقي والعمل الكهنوتي.
لجأ رئيس الكنيسة إلى القضاء، ولكن القضاء أدانه في حكم تاريخي، نشرته في كتابي "التمرد الطائفي.. أبعاده وتجلياته"، وبيَّن الحكم الأسباب التي تأسّس عليها، وهي خطيرة بكل المقاييس؛ لأنها تستهدف وجود الوطن!
ومع ذلك فإن نظام مبارك أعاده إلى رئاسة الكنيسة، وكان يفترض أن يتراجع عن مخططاته الشريرة، ولكنه استمر في العمل، وفصل الطائفة عن المجتمع، وزرع في العقول والأفئدة أن المسلم المصري عدوّ للنصراني، مع أنهما أخوان يعيشان السراء والضراء معًا منذ قرون طويلة. ومع انبطاح النظام الفاسد، صارت الطائفة فوق المجتمع والدولة.
وبعد هذا كله يحاول مثقفو الحظيرة، وبعضهم كان خادمًا للأنظمة الثلاثة، وعاش على حجرها، ونَعِم بالفتات الذي كان يُلقى إليه، أن يقوموا الآن بدور المناضلين والثوار، ويظنون أن الذاكرة الاجتماعية والثقافية ضعيفة إلى الحد الذي تنسى فيه كلامهم ونفاقهم وجرائمهم في حق الوطن والإسلام والمسلمين.. ثم يجدون في أنفسهم الجرأة ليقولوا: إن التمرد الطائفي صنعه السادات، أو إنه جريمة من جرائمه.
لقد عارضتُ السادات في حياته، وكانت المعارضة في ذلك الوقت أمرًا غير مألوف، ومع ذلك أشهد أن السادات كان ضحية للتمرد الطائفي الفاجر الذي يستقوي بالولايات المتحدة والغرب. ثم إن المجموعات العلمانية التي لم يعجبها قول السادات إنه رئيس مسلم لدولة مسلمة، تكره الإسلام أصلاً، وتحاربه، وبعضهم يفخر أنه قاد حرب الاستنارة ضد الظلام والظلامية؛ أي قاد حرب العلمانية ضد الإسلام والإسلاميين، من خلال المناصب والمهمات التي أسندت إليهم من جانب خصوم الإسلام في الدولة والمجتمع.
عندما قال السادات إنه رئيس مسلم لدولة مسلمة، لم يرتكب خطيئة أو جريمة، بل قرَّر حقيقة قائمة، وهي أن مصر دولة إسلامية، شاء من شاء وأَبَى من أبى، وهو بوصفه مسلمًا فهو يرأس هذه الدولة، وإن كان الكلام غير الأفعال. فالتطبيق الإسلامي الذي يقوم على منهج الإسلام في الحرية والعدل والعمل والسلوك والمعرفة والإتقان والتراحم والمودة لم يكن قائمًا بالصورة التي وضحها الدين الحنيف، ومع ذلك فالقوم لم يحتملوا عبارة السادات، وطاردوه بها وما زالوا؛ لأن قضيتهم -إن صح التعبير- هي استئصال الإسلام لحساب التمرد الطائفي، أو المخطط الماسوني الذي يجمع أشتات العلمانيين والشيوعيين والليبراليين والملحدين وأشباههم.
السادات مع تنازلاته الكثيرة للتمرد الطائفي، إلى حدِّ الموافقة على كتاب تربية دينية مشترك يدرسه طلاب الأغلبية الساحقة مع طلاب الأقلية المحدودة في المدارس - لم يلقَ رضا الثقافة الحظائرية الفاجرة، التي تصرُّ على تحميله جريمة التمرد الطائفي، بينما المتمردون الطائفيون يمرحون ويرتعون، ويتبجحون بمطالبهم الابتزازية، ويلقون العون من خُدَّام الأنظمة ومثقفي الحظيرة. رحم الله السادات!
المصدر: صحيفة المصريون.
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]