[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
يشير المؤرخون المنصفون بإعجاب وتقدير إلى ريادة العلماء العرب المسلمين في ميادين العلوم المختلفة، وإلى اقتباس علماء الغرب الكثير من أفكارهم ومنجزاتهم التي تعدُّ في الواقع أساسًا للنهضة الأوربية الحديثة، ويعددون في هذا المجال أسبقية العشرات من علمائنا في ميادين التقنية والابتكار، وفي القائمة الطويلة أسماء الخوارزمي في علم الجبر واللوغاريتمات، والبيروني في الحساب والهندسة والفلك، وابن الهيثم في العلوم الطبيعية والرياضيات، والرازي في الطب، والزهراوي في الجراحة، وجابر بن حيان في الكيمياء، والكندي وابن الشاطر في الفلك وابن خلدون في علم الاجتماع، والإدريسي في الجغرافيا، وغيرهم كثيرون.. كذلك تطول القائمة حين يكون محور الدراسة أسبقية العلماء العرب في علم النبات.
بدأ اهتمام العلماء بتدوين أنواع الزرع والأشجار والأثمار والأعشاب والبقول وغيرها في بغداد والبصرة والكوفة، التي كانت مراكز عمل للعلماء المشتغلين في هذا المجال، باعتبارها موئلاً لفصحاء العرب يغدون إليها من البادية وهم يحملون فصيح اللغة وصحيحها، وبالعكس راح العلماء بدورهم ينزلون من الأمصار إلى البادية للتحقيق والتمحيص، ولا سيما فيما يختص بأسماء الأعشاب والنباتات.
على أن اهتمام العرب الفعلي بعلم النبات، بدأ في مطلع العصر العباسي، حين ترجم العلماء مؤلفات اليونان الخاصة بعلم النبات و"الأقرابازين"، وكان مفتتح ذلك العمل زمن الخليفة المتوكل. وفي عام 337هـ/ 948م أهدى ملك القسطنطينية إلى الخليفة الناصر بالأندلس مؤلف "ديسقوريوس" باليونانية، ولم يكن في الأندلس من يجيد هذه اللغة، فطلب الخليفة الناصر من الإمبراطور أن يرسل إليه مترجمًا ماهرًا في اللغتين اليونانية واللاتينية، فاستجاب لطلبه وأوفد الراهب "نيقولا" في أواخر القرن العاشر الميلادي، وبتعاون مع الأطباء المحليين الذين يعرفون اللاتينية والعربية، وضعت الأسماء العربية التي تركها "ابن باسيل" دون ترجمة لجهله بها. ومع مطلع القرن الحادي عشر ألف الطبيب الأندلسي "ابن جلجل" كتابًا ضمنه المعلومات التي أغفلها "ديسقوريدس"، وضمَّ هذا الكتاب إلى كتاب "ابن باسيل" المترجم عن "ديسقوريدس"، فجاء الكتابان مؤلفًا كاملاً.
وقد استند العرب في دراساتهم لعلم النبات إلى دقة الملاحظة والمعاينة واستمرار المتابعة، واعتمادًا على هذا المنهج التجريبي تمكن العلماء العرب من دراسة الكثير من النباتات الطبيعية التي لم تسبق دراستها، وأدخلوها في العقاقير الطبية، واستولدوا نباتات لم تكن معروفة كالورد الأسود، وتمكنوا من أن يكسبوا بعض النباتات خصائص العقاقير في أثرها الطبي. وفي عصر المقتدر بالله نقل العرب "الأترج" المدور من الهند، وزرعوه في عُمان ثم نقلوه إلى البصرة والعراق والشام.
يحفل سجل الريادة في علم النبات -عملاً وتأليفًا- بعشرات أسماء العلماء العرب الذين دونوا في مؤلفاتهم النباتات والأعشاب، وبينهم أبو عبيدة البصري والأصمعي، وأبو زيد الأنصاري، وابن الأعرابي الكوفي، وابن السكيت، وتألق بشكل خاص أبو حنيفة الدينوري (ت 282هـ/ 895م)، وهو أول من ألف بالعربية في علم النبات، وأبو جعفر الغافقي الأندلسي (ت 561هـ/ 1165م) وأبو محمد ابن البيطار المالقي (ت 646هـ/ 1248م) أبرز علماء النبات العرب ومؤلف كتاب "الجامع في الأدوية المفردة"، الذي يعدُّ أفضل الكتب في فن المداواة بالأعشاب والأغذية، وأبو بكر أحمد بن وحشية أول من كتب من العرب عن الزراعة في كتابه "الفلاحة النبطية"، والطبيب الضرير داود الأنطاكي (ت 1008هـ/ 1559م).
ومن المتميزين في هذا المجال أيضًا: رشيد الدين الصوري، وأبو زكريا يحيى بن العوام، وأبو العباس بن الرومية. وسنعرض فيما يأتي صفحات من سير الأعلام الثلاثة الذين أسهموا بشكل واضح في تقدم علوم النبات والأعشاب والأدوية.
رشيد الدين الصوري
ولد رشيد الدين بن أبي الفضل بن علي الصوري في مدينة صور بالشام سنة 573هـ/1177م، ونشأ فيها، وعكف في مرحلة مبكرة على دراسة علوم الأوائل دراسة متأنية، ثم تنقل بين بعض المدن العربية ودرس الطب في دمشق على مشاهير العلماء كموفق الدين عبد العزيز، وموفق الدين عبد اللطيف البغدادي والشيخ أبي العباس الجياني وغيرهم. وقد أظهر في عمله سعة اطلاع ودقة في الملاحظة، وغزارة في التجارب والبحوث، وكانت دراسات "الصوري" لأنواع النبات دراسة دقيقة، اتبع فيها المنهج العلمي الحديث الذي سبق في تطبيقه علماء الغرب بسبعة قرون، وكانت بحوثه في ذلك المجال رائدة بكل معنى الكلمة، وأكد فيها إخلاصه في البحث عن الحقيقة العلمية وتكريسه الجهد والوقت لعلمه المتميز.
لقد كانت من أبرز مميزات "الصوري" استناده في دراسته علم النبات إلى دقة الملاحظة والمعاينة ودوام المتابعة، وقد تجسد ذلك في تصويره للنبات تصويرًا ملونًا في سائر مراحل عمره، منذ أن يكون بذرة وحتى مرحلة الجفاف الأخيرة، فقد اعتمد على رسام يصحبه في رحلاته الميدانية ومعه الأوراق والألوان المتنوعة فيتنقل بين مناطق النباتات -كسهول لبنان وجباله- فيشاهد أصنافها ويحقق فيها، ويريها للرسام، فيدرس شكلها ولونها وأصولها ومقدار أغصانها وورقها، فيجتهد في تصويرها ومحاكاة طبيعتها وسماتها..
ثم يقوم "الصوري" في ضم تلك الدراسة والصور إلى كتابه القيم "الأدوية المفردة"، الذي اشتمل على البحث في 585 معقارًا بينها 466 عقارًا من أصل نباتي، و44 عقارًا من أصل حيواني، و75 عقارًا من أصل معدني، وقد أرفقت الرسوم بتعليقات وفوائد طبية كثيرة، وكشف هذا المصنف عن ثقافة "الصوري" الموسوعية في علم الأدوية المفردة وماهيتها واختلاف صفاتها وأسمائها، وتحقيق خواصها وتأثيرها.
نبغ رشيد الدين الصوري إضافة لجهوده في علم النبات، في الطب أيضًا، وقد عمل طبيبًا للملك العادل أبي بكر بن أيوب عام 612هـ/ 1215م، واصطحبه معه إلى القدس ومصر. وبعد وفاته عمل طبيبًا لابنه الملك الناصر داود بن الملك المعظم الذي عهد له برياسة الطب، ثم عاد أخيرًا إلى دمشق وأقام فيها، حيث راح المشتغلون بالطب وصناعته يترددون إلى مجلسه ويأخذون عنه تراكيب أدوية الترياق الكبير الذي يمنع آليًّا امتصاص السم، وغيرها من التراكيب المبتكرة التي لم يسبقه أحد إلى معرفتها. كذلك وفد إلى مجلسه طلاب العلم والطب في دمشق للاستفادة من خبرته وشروحه.
وقد أفاض المحققون في ذكر فضل "الصوري" وبحوثه العلمية الرائدة ومن بينهم: قدري طوقان، وأحمد شوكت الشطي، وعمر رضا كحالة، وأنور الرفاعي، وخير الدين الزركلي. كما أفرد له ابن أبي أصيبعة في كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" صفحات للحديث عن مآثره في علم النبات والصيدلة والطب، وتحدث المؤرخون في الأدوية المفردة. وللصوري مخطوطة بعنوان "تذكرة الكحالين" المشهورة بالكافي في طب العيون، موجودة بمكتبة الأسد الوطنية بدمشق، ومخطوطة "الشامل في الأدوية المفردة" بمكتبة السلطان أحمد الثالث في إسطنبول.
توفي رشيد الدين الصوري عام 639هـ/ 1241م بدمشق، وبقي إرثه العلمي خالدًا في مؤلفاته الباقية، وفي اقتباسات كثيرة في مؤلفات علماء الغرب.
يحيى بن زكريا بن العوام
تنظم الحكومات ومؤسسات المياه خاصة، وجمعيات حماية البيئة في العالم، حملات لا تهدأ تدعو فيها إلى ترشيد استهلاك الثروة المائية، والكف عن هدر هذه النعمة الغالية؛ صونًا لها من النضوب، وعجزها عن توفير حاجات الناس، وترسم تلك الحملات أساليب عديدة لترشيد استهلاك الماء ومن بينها استخدام أسلوب الري بالتنقيط الذي انتشر بشكل واضح في أيامنا.. ولكن علماء المسلمين الرواد كانوا السبَّاقين إلى هذه الدعوة، وتفصيل طريقتها بشكل علمي دقيق.
يعدُّ "يحيى بن زكريا بن العوام" أشهر علماء عصره، ويعود له الفضل في تأسيس علم الفلاحة والزراعة والبيطرة، وأول من شرح طريقة الري بالتنقيط، وكذلك أول من وضع ما يُعرف اليوم بالتقويم الزراعي.
ابن العوام الأندلسي
من مواليد إشبيلية في القرن السادس الهجري، ولد في أسرة غنية امتلكت ضيعة خاصة بها أطلق عليها اسم "ضيعة آل العوام" على الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبير.
انهمك ابن العوام في تأليف الكتب، لكن أكثر مصنفاته ضاعت خلال هجمات الأوربيين على الأندلس، ولهذا لم يتبق للمكتبة العربية من مؤلفاته سوى: رسالة في تربية الكرم (العنب)، عيون الحقائق وإيضاح الطرائق، والفلاحة الأندلسية الذي يعد أشهر مؤلفاته، فهو يمثل موسوعة زراعية اجتمعت فيها خلاصة معارف الأندلس والمغرب ومصر والعراق في الزراعة والبيطرة، وصار مقررًا لدراسة طلاب الزراعة في جامعاتها لعدة قرون، كما نقل منه الأوربيون، وترجم أكثر من مرة إلى الإسبانية والفرنسية.
أبو العباس أحمد ابن الرومية
في مدينة "إشبيلية" ظهرت عبقرية علمية أخرى، أسهمت بدورها في تقدم علم النبات والأعشاب، إضافة إلى عملها في مجالات المعرفة الأخرى كعلم الحديث ومعرفة رجاله والتأليف فيه.
ولد أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج سنة 561هـ/ 1165م بمدينة إشبيلية، وكان جده مولى لبني أمية، وواحدًا من أطباء قرطبة، مارس العشابة والعلاج بها، ثم تعلم أبوه محمد علم النبات الطبي، وتزوج من امرأة رومية من نصارى الأندلس، فأنجبت له "أحمد"، ومن هنا لُقِّب بابن الرومية.
اتخذ أبو العباس أحمد من الصيدلة حرفة له، ومارسها في دكان لبيع الأعشاب والعلاج بها، والتفت إلى دراسة علم النبات والأعشاب وقواها الطبية، وفوائدها الصيدلانية، في الوقت الذي اهتم فيه بدراسة علم الحديث وضبطه وحفظه والتأليف فيه.. وراح خلال تنقله بين مدن الأندلس وأقاليمه يلازم المحدثين ويستمع إلى الحديث منهم، ويحصل الإجازات عن الشيوخ، فتنقل بين غرناطة وقرطبة، وإلى إقليم الشرف بظاهر إشبيلية، وحبل شلبر (سيرانيفادا) قرب غرناطة ومدن جيان ورندة وجبالها وجبال غلزا شرقي الأندلس، وفيها شاهد الأعشاب وتفحصها متعرفًا إلى خصائصها وطبيعتها..
في عام 580هـ/ 1184م توجه أبو العباس ابن الرومية إلى سبتة بالمغرب للقاء الشيخ أبي محمد ابن الحجري (ت 592هـ/ 1186م) ولكنه لم يحظ بالاجتماع إليه.. وإن كان قد حصل على الإجازة منه كتابة خلال رجوعه إلى الأندلس. وكانت رحلة "ابن الرومية" الثانية إلى بلاد المشرق سنة 612هـ/ 1215م بهدف أداء فريضة الحج وطلب العلم، فاجتاز البحر إلى المغرب ونزل بميناء "بجاية"، وانصب اهتمامه على تحصيل علم الحديث من علمائها، ثم قام بجولات في ريف المدينة الجبلي، لجمع أنواع النبات، وتحري أصنافه فحصل معرفة واسعة عن أعشابها الطبية.
انتقل "ابن الرومية" بعد ذلك إلى تونس وفيها التقى بوزير الموحدين فأخذ هذا منه كتاب "تعليم المتعلم" في أربعين مجلدًا، كان قد حمله معه عند انطلاقه من إشبيلية. وواصل رحلته إلى مصر، فمر بالقيروان والمهدية وقابس وطرابلس وبرقة، وفحص فيها أصناف النباتات والأعشاب.. ولما وصل أخيرًا إلى الإسكندرية (613هـ/ 1216م) التقى فيها بكوكبة من العلماء والمحدثين، وطوف في أرجائها يعاين الأعشاب ويدرس خصائصها، وقد تناهى إلى سمع الملك العادل أبو بكر بن أيوب، سلطان الشام ومصر، وصول "ابن الرومية" وبلغه ما يمثله هذا العالم من مكانة وشهرة ذائعة، فاستدعاه إلى "القاهرة" فأقام فيها عامين، أعدَّ خلالهما مجموعة من الأدوية النافعة..
واصل "ابن الرومية" رحلته إلى القدس، حيث توقف يدرس كعادته نباتات بيت المقدس وضواحيه وجباله، ثم توجه إلى الحجاز فتجول فيها وتعرف إلى أعشابها.. وبعد أدائه الفريضة، يمَّم شطر العراق، وهناك تعرف إلى رجال الحديث ببغداد، كما اتصل بالعديد من أصحاب الخبرة في نباتات وأعشاب العراق، وتابع سفره من ثم إلى الشام مرورًا بحران وحلب، وكان كلما تجول يضيف إلى معارفه معلومات عن النباتات الطبية واستخداماتها، والتقى بابن القفطي (توفي 646هـ/ 1248م) ودارت بينهما محاورات عن النبات والأعشاب، ووصل "ابن الرومية" بعدها إلى دمشق، ثم من جديد إلى القدس فمصر لتنتهي رحلته أخيرًا بعد ثلاث سنوات من الاطلاع والبحث وجمع المعلومات عن أنواع الأعشاب والنبات.
عاد ابن الرومية إلى "إشبيلية" وفي جعبته مخزون ثرٍ من المعلومات حصَّلها من مشاهداته ومعايناته ودراسته للنباتات في بلاد المغرب والمشرق التي تنقل فيها أثناء تطوافه في الأقاليم والمدن، وقد أغنى تلك المحصلة بما استمع إليه من علماء الأعشاب والعطارين، وما جمعه من أفواه الأعراب والبربر وسكان تلك الأقاليم بما يخص أسماء تلك النباتات وخواصها الطبية واستخداماتها في علاج العديد من الأمراض، وأثبت تلك المعلومات في كتاب فريد في بابه سماه "الرحلة".
استقر "ابن الرومية" في إشبيلية، وتوزع نشاطه العلمي فيها على ثلاثة محاور:
1- ممارسة حرفته كعشاب متخصص في النباتات الطبية، في دكانه بالمدينة.
2- تدريس النبات والأعشاب الطبية، حيث تقاطر إليه طلاب العلم في الشريعة والعلوم الطبيعية، وكان من بينهم العالم العربي الشهير "ابن البيطار" (ت 646هـ/ 1248م).
3- انصرافه إلى تأليف عدد من الكتب والرسائل تضمنت معلومات وشروح وتعليقات في أكثر من مجال علمي، وقد ضاع أكثرها وبالذات مؤلفه المهم "الرحلة النباتية" الذي حفظ ابن البيطار مقتطفات منه أوردها في كتابه "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية"، وقد بلغ عددها 85 اقتباسًا رتب ابن الرومية فيها أسماء النباتات ترتيبًا هجائيًّا على حروف المعجم. وقد أشار "ابن أبي أصيبعة" في مؤلفه: "طبقات الأطباء" إلى كتاب ابن الرومية "تفسير أسماء الأدوية المفردة" من كتاب "ديسقوريدس" وإلى مقالة في تركيب الأدوية.
توفي ابن الرومية بإشبيلية سنة 637هـ/ 1239م، وبقيت معلوماته عن النباتات ومواطنها ومعارفه عن الأدوية وقواها ومنافعها مصدرًا لمعارف علماء الغرب وبحوثهم إلى زمن طويل.
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي.