[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
لم يكن للوقت أهمية تذكر عند الإنسان البدائي، فقد كان يؤقت نشاطاته اليومية اعتمادًا على شروق الشمس وغروبها، وعلى ساعته البيولوجية، أي تبعًا لحالة الجوع في معدته، ولو تيسر لأحد سكان ذلك الزمن الغابر أن يحصل على أدق أنواع الساعات، لما كان به حاجة إليها.
لقد كانت حياته بسيطة خالية من القيود والالتزامات، فهو لا يستيقظ من نومه إلا عند شروق الشمس، ولا يأوي إلى كهفه إلا عندما يخيم الظلام، يأكل عندما يجوع دون تحديد لأوقات وجباته اليومية، ولم يكن يعنيه في قليل أو كثير أن يعرف الوقت أو في أية ساعة هو من ساعات النهار أو الليل.
ومع تطور الحياة بدأ الإنسان يشعر شعورًا غائمًا بسريان الوقت ووجود علاقة ما أو شيء ما يسير، وأن لهذا علاقة بالمكان وبه نفسه، إذ بدأ يلاحظ تبدل أوقات النهار والليل وتبدل مواقع الشمس والقمر وتغير أماكن النجوم، وبدأ يراقب ظهور هذا الحيوان وغيابه ووقت هروبه واختفائه، وذلك في عهد المشاعية البدائية، فأصبحت هذه المعرفة شيئًا جوهريًّا في حياته، وبدأ يضع إشارات معينة لرصد هذه الأوقات وكيفية التعامل والسلوك تجاهها[1].
وعندما عرف الزراعة وأصبحت الحاجة ملحة لمعرفة مواقيتها وأيامها وأوقات الحراثة والحصاد صار يحدد بصورة أكثر وضوحًا هذه المعايير لتحديد الأوقات، إلى أن اقترب من تحديد الوقت تحديدًا دقيقًا، وبدأ يشعر بضرورة أدوات ترصد هذا التحديد وتعطيه الوقت الصحيح أو القريب من الصحة[2].
وقد لعبت الظواهر الطبيعية آنذاك دورًا أساسيًّا في تحديد الوقت، واستطاع إنسان ذلك الزمن أن يعتمد على تلك الظواهر، وأن يتخيل الطرق والوسائل لقياس الوقت بهدف التعامل اليومي في الحياة العملية وضروراتها، معتمدًا في ذلك على الشمس والنجوم والظل[3].
فقد فرضت ظاهرة شروق الشمس وغروبها على الإنسان منذ القديم فترات زمنية معينة، فعمل في النهار ونام في الليل، ثم لاحظ أن أعماله التي ينجزها في النهار أو الليل تستغرق أوقاتًا معينة دعته ضرورات الحياة اليومية لقياسها. وثمة طريقة لقياس الوقت عرفت عند الإنسان القديم، عندما تكون الشمس مرئية بعد الزوال، وأكثر سكان البوادي كانوا يستخدمونها قبل أن تتوفر الساعات لديهم، وهذه الطريقة صحيحة ومطبقة على أدق القواعد العلمية، فهم يضعون أيديهم على هيئة معينة، ويرصدون ظل إحدى السبابتين الواقع على الأخرى، فيعرفون الوقت.
والطريقة المتبعة في تحديد الوقت من خلال النجوم تتم عندما نتصور أن سماء الشمال تبدو وكأنها ساعة مركزها النجم القطبي، وأن هذا الوجه مقسم إلى اثني عشر قسمًا متساويًا، وبدلاً من ترقيم الأقسام هذه من 1 إلى 12 نضع أسماء شهور السنة في ترتيب يضاد اتجاه عقارب الساعة، بحيث يكون مارس (آذار) في قمة القياس، ويكون إبريل (نيسان) في الوضع الحادي عشر، ومايو (أيار) في الوضع العاشر، وهكذا تمثيل شهور السنة الاثني عشر كلها[4].
أما قياس الوقت بوساطة الظل، فله طرق عديدة أدركها الإنسان عندما لاحظ وجود صلة بين حركة الشمس والتوقيت، من خلال ملاحظته لتغير طول ظل الأشجار والصخور والجبال مع حركة الشمس الظاهرية من الشرق إلى الغرب؛ ففي الصباح يكون هذا الظل طويلاً ثم يأخذ بالقصر حتى تعتلي الشمس قبة السماء، ليأخذ بالطول، ولكن باتجاه معاكس حتى الغروب، فما كان من الإنسان إلا أن غرس وتدًا في الأرض واستخدمه لقياس وقته. وهكذا كانت لديه ثلاث فترات واضحة في النهار: الصباح والظهيرة والمساء، أوحت هذه إلى السومريين بفكرة تقسيم اليوم إلى ست ساعات، ثلاث للنهار، وثلاث لـ"الليل"، وكان البعض يقيس الوقت برقعة الشمس على الأرض أو الجدار، قبل الظهر، ثم هم مضطرون كذلك أن يقيسوا عصرًا بظل الإنسان على الأرض، بحيث يقف المعنيّ بقياس الوقت في الشمس في بقعة مستوية من الأرض، ثم يقيس بقدمه، ليعرف الوقت[5].
الساعات:
بقي الإنسان يتطور رويدًا رويدًا، واستطاع معرفة معالم كثيرة عن الزمن، ثم حدد دورة الفصول والأشهر والسنة، واختلاف السنة القمرية عن الشمسية ومقدار الخلاف! وبتقدم الوعي والفكر وبتطوير علاقات إنتاج جديدة، واكتشاف علاقات زمنية أكثر، تجددت الأدوات البسيطة، واستطاع الإنسان في النهاية اكتشاف الساعة الشمسية والمائية والرملية:
1- الساعة الشمسية:
ربما كانت هذه الساعة أول أداة صنعها الإنسان لمعرفة الوقت، وتدعى (المِزْوَلَة)؛ لأنها تعتمد على زوال ظل شاخصها ليكون وقت الظهر. ويرجع تاريخها إلى 3500 ق.م، وتتألف في أبسط أشكالها من عصا عمودية أو شاخص رأسي مغروس في الأرض، ويتحدد الزمن بتحديد طول الظل الساقط للعمود على الأرض، أو على المستوى الأفقي. وهكذا فإن المزولة تحدد الوقت بحركة الظل تبعًا لحركة الشمس الظاهرة[6]. ولم تكن المزولة الأولى تقسم النهار إلى أكثر من أربعة أقسام، ولكن بتطور الزمن أصبح من المألوف أن يقسم الوقت فيما بين شروق الشمس وغروبها إلى اثني عشر جزءًا متساويًا، أي اثنتي عشرة ساعة.
ويعتقد أن الصينيين هم أول من استخدم المزولة، ثم نقلتها عنهم الشعوب الأخرى، وقد وجدت المزولة لدى قدماء المصريين، ويبدو أن ظهورها في القرن الثالث عشر ق.م، قد ترافق مع ظهور (المسلَّة الفرعونية) التي يعتقد أنها استخدمت كمزولة.
وقد أخذ الإغريق المزولة عن المصريين، وصنعوا منها أنواعًا كثيرة، وكان للمزولة ثلاثة عيوب:
أ- لا يمكن استخدامها إلا نهارًا عندما يكون الطقس صحوًا.
ب- يجب استخدامها في المكان الذي تم صنعها فيه حسب خط العرض.
ج- الوقت الذي تقيسه غير متساوٍ؛ لأن الأيام تختلف أطوالها باختلاف الفصول[7].
2- الساعة المائية:
أدرك الإنسان سريعًا الحاجة لإيجاد آلات تقيس الوقت دون الحاجة لوجود الشمس، فاستخدم الساعة المائية ليلاً ونهارًا، وفي حالة الطقس الغائم، وهي قديمة قدم المزوال أو تكاد، وكانت تستخدم في مصر القديمة وفي بلاد الإغريق منذ أكثر من ألفي سنة[8].
والساعات المائية عبارة عن إناء يملأ بالماء ثم يتسرب منه الماء عن طريق ثقب صغير في قاعدته، وكانت هذه الأواني تختلف باختلاف فصول السنة، حتى تصبح ساعة الصيف أطول من ساعة الشتاء.
وكانت التدريجات على الإناء من الداخل تشير إلى الزمن الذي انقضى، وكانت الساعات المائية من الأدوات المألوفة في بلاد الإغريق، واستخدمها كثير من خطبائهم في تلك الأيام لتوقيت خطبهم، وقد وجدت ساعة مكونة من قنينة من المعدن في قاعها ثقب، فكانت تُملأ بالماء الذي يتسرب من خلال الثقب، فإذا نفد الماء طلبوا من الخطيب أن يكفَّ عن الخطابة. وبالطبع لم تكن هذه الساعة دقيقة نظرًا لاختلاف ضغط السائل في إناء ممتلئ حتى حافته عنه في حالة نقص الماء إلى نصفه مثلاً، كما أنها كثيرًا ما كانت تفسد، لا سيما حينما يتجمد ماؤها[9].
3- الساعات الرملية:
ومن بين الساعات التي استخدمها المصريون (الساعات الزجاجية أو الرملية) وسميت (بالساعة)؛ لأن الرمل كان يستغرق ساعة من الزمن لينسكب من زجاجة إلى أخرى.
وكانت الساعة الرملية تشبه الساعة المائية كثيرًا، لكنها لم تتطور وتصبح ساعات تبين الوقت أو أية ساعة من ساعات اليوم، إلاَّ عندما قام العرب بتطويرها.
وقد استخدمت طرائق أخرى لقياس الوقت قبل اختراع الساعة المعروفة، مثل الشموع المشتعلة، والحبال المبللة بالزيت والمعقود على مسافات منتظمة، والمصابيح الزيتية[10].
الساعات عند العرب:
كان عرب الجاهلية يتعرفون على الأوقات بظلال الجدران والتلال والجبال وقامة الإنسان وتلون السماء، حتى قال قائلهم:
هل الدهر إلا ليلة ونهارها *** وإلا طلوع الشمس ثم غيابه
وعندما جاء الإسلام كان المسلمون بأمسّ الحاجة إلى تحديد مواقيت الصلاة بصورة دقيقة، ومن هنا استطاع العرب تطوير المزولة الكلدانية والإغريقية، وقسموها إلى اثني عشر قسمًا، فقاموا بعمل نماذج عديدة منها، مستخدمين مبادئ (علم المثلثات)، وأصبح طول الفترة الزمنية في المزولة التي صنعها المسلمون لا يختلف في الشتاء عنه في الصيف، على الرغم من اختلاف طول النهار تبعًا لفصول السنة[11].
وعني العرب بالمزوال من أفقية ورأسية واعتدالية، فنصبوها في المساجد والمدارس ومعاهد العلم، فهي بمنزلة ساعة التوقيت المحلي، وأناطوا العناية بها إلى المهندسين والمؤقتين.
وكان العرب المسلمون يعرفون نوعين من الساعات، وسموا الساعة التي هي 24/1 من اليوم، ساعة معتدلة أو مستوية، وسموا الساعة التي هي 12/1 من الليل أو النهار، ساعة زمانية أو مِعْوَجَّة، لاختلاف مدتها بالنسبة إلى الفصول.
ومن أروع الساعات المائية التي صنعها العرب، تلك التي أهداها الخليفة (هارون الرشيد) إلى الإمبراطور (شارلمان)، وكانت مصنوعة من البرونز المطعَّم بالذهب، وكان بمينائها اثنا عشر بابًا صغيرًا يمثل كل منها ساعة من الساعات، بحيث ينفتح كل باب إذا حلت الساعة، ويصحب ذلك كل مرة سقوط كرات من النحاس الأصفر على قرص من النحاس الرقيق، بحيث يدل عدد الكرات على الساعة التي حلت بها من النهار أو الليل، ولقد تملَّكت الدهشة والعجب الإمبراطور وحاشيته من تلك الآلة الغريبة التي تقيس الزمن، وهكذا لم تعرف أوربا الساعة إلا عن طريق العرب في نهاية القرن الثامن الميلادي[12].
ومن العلماء العرب الذين قاموا بدراسة متعمقة في اختراع الساعات وتطويرها (ثابت بن قرة)، ومن أوائل أعماله تأليف كتاب عن (المزولة الشمسية) التي كانت تستخدم لتعيين مواقيت الصلاة، وقد توفي في بغداد سنة 901م. و(إبراهيم بن سنان) المتوفى سنة 365هـ/976م، وله كتاب جامع في الساعات الشمسية. كما قام أبناء (موسى بن شاكر) الثلاثة المشهورون باسم (بني موسى) بوضع بحث في الحِيَل الميكانيكية في الآلات الذاتية الحركة. وقد كتب (رضوان ابن الساعاتي) 600هـ/1204م، دراسة مطولة تتحدث عن قيامه بإصلاح ساعة مائية عملاقة، كان أبوه قد ركبها فوق (باب جيرون) في مدينة دمشق[13].
وثمة مصنفات عديدة تتكلم عن هذا النمط من الساعات المزولية العربية، ذكر بعضها العديد من العلماء العرب كابن النديم، ومحمد بن موسى الخوارزمي، ومحمد بن كثير الفرغاني، وغيرهم. ولا تزال في بعض المساجد الإسلامية القديمة ساعات شمسية عديدة، منها المزوال الموجودة في مساجد فاس بالمغرب، ومزوال جامع عقبة بن نافع في القيروان بتونس، والجامع الأموي بدمشق، ومتحف طوب قابي في إستانبول، والجامع الأزهر في مصر، إضافةً إلى المزاول العديدة الموجودة في مساجد ومباني حلب السورية التي سيأتي ذكرها فيما يلي بالتفصيل.
الساعات الشمسية في حلب:
لقد امتازت حلب عبر تاريخها العربي الإسلامي بحياة اجتماعية وثقافية وفكرية ودينية واقتصادية متعددة الألوان، واسعة النشاط، فقد كانت حلب من الحواضر العلمية المعروفة، شأنها في ذلك شأن كل من بغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وغيرها، واشتهرت من الناحية العلمية بمدارسها ومجالسها وعلمائها، إبان عصر الحضارة الإسلامية. وإلى جانب دور العلم العديدة فيها، انتشرت المكتبات العامة في المدارس والمساجد والبيمارستانات والمشافي، ولقد بقي كثير من تلك المكتبات حتى يومنا هذا، ووجدت فيها مخطوطات تتعلق بكثير من العلوم كالحساب والمساحة وأنواع العلوم الفلكية، كالميقات والتنجيم، وغيرها من العلوم الأخرى؛ مما أضفى على حياتها وناسها قدرًا كبيرًا من الحيوية الحركة والازدهار والتقدم، بشكلٍ لا نجد له مقاربة في بقية الحواضر الإسلامية الأخرى.
وقد ورثت حلب علم الفلك البابلي والحثي والآرامي، ومع تحولها إلى حاضرة عربية إسلامية صارت تهتم بمواقيت الصلوات الخمس، فأقيمت المزاول الشمسية على كل حائط في أغلب مساجدها، كما تمت الاستعانة بالإسطرلاب والآلات الفلكية التي تجمع بين الساعة الشمسية والإسطرلاب، وكانت هذه العناصر بكل ما فيها من تطور وفنون هي الخلاصة التاريخية والحضارية لهذه المدينة العربية التي تحمل نكهة خاصة تميزها عن غيرها من دول العالم القديم[14].
ومن وسائل التوقيت القديمة التي ما زالت آثارها باقية حتى اليوم، ما نجده في المباني الأثرية التالية:
1- الجامع الأموي الكبير:
وهو أكبر الجوامع التي أقيمت في حلب وأوسعها، ويقع في قلب المدينة القديمة، وبانيه هو الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، وقد أنشأه وتأنق في بنائه ليضاهي به الجامع الأموي في دمشق، الذي بناه أخوه الوليد[15].
يضم الجامع العديد من الكتابات المتنوعة المنقوشة في الأروقة وعلى الأبواب، وكتابات المئذنة، وغير ذلك الكثير من الآثار والمعالم الرائعة التي تدل على قدرات الفنان الحلبي وعظمة الفن الإسلامي في مختلف العهود، كما يضم ثلاثًا من وسائل التوقيت التي تعتمد على حركة الشمس هي:
أ- خط الظل المحفور على جدار الرواق الشرقي للجامع، وهو خط مستقيم جنوب شمالي، متى انحسر عنه ظل الجدار القائم فوقه يكون قد حل وقت أذان الظهر. وينسب هذا الخط إلى عبد الله الحنبلي الميقاتي الذي حفره سنة 1808م. والجدير بالذكر أن هذه الطريقة ما زالت تستخدم من قبل القائمين على الجامع حتى الآن لبساطتها (في الأيام الشمسية) إلا أنها غير دقيقة لاعتمادها على الخبرة الشخصية لا على الحسابات الفلكية[16].
ب- الرخامة الجنوبية المعلقة على واجهة الرواق الشمالي، وهي أقرب إلى المربع (22 ×100 سم)، وقد حفرت عليها خطوط متفاوتة الطول بينها زوايا متفاوتة الدرجة على هيئة نصف دائرة كبرى انطلاقًا من دائرة صغرى، وقد تم تثبيت مؤشر معدني في مركزها، وحين يقع ظله على أحد الخطوط يكون قد دل على توقيت معين[17].
وهذه الرخامة أو المزولة تتشابه مع معظم المزاول التي استخدمت في العالم الإسلامي في العصور الوسطى، وتعتمد دقة معرفة الوقت. ويبدو أن الجامع الأموي الكبير بحلب، قد لعب دورًا مهمًّا في تقدم العلوم الفلكية، فقد كانت فيه مدرسة للفلك، إذ كان الشيخ خليل بن أحمد المعروف (بابن النقيب) 1494- 1563م قد درس في القاهرة علوم الفلك، وعندما عاد إلى حلب اشتغل بتدريس هذه العلوم في الجامع المذكور مدة طويلة حتى ذاع صيته، فتم استدعاؤه إلى الباب العالي في الدولة العثمانية، وعندما وصل إلى هناك احتفي به؛ مما ساعده على متابعة الدرس والتأليف في علوم الفلك، فأصبحت حلب في عهده مقصد الطلبة للاشتغال بالعلوم الرياضية والفلكية.
وممن اشتهروا بعلوم الفلك في حلب أيضًا (أحمد آغا الجزار)، الذي ألف زيجًا في بروج الأفلاك ودلالات الكواكب وكيفية معرفة طول البلاد وعرضها وسرعة دوران الكواكب السيارة، كما وضع تقويم النيربين، ونسخة من هذا الزيج الفلكي موجودة في مكتبة باريس الكبرى، وتمت ترجمتها من التركية إلى العربية نقلاً عن الفرنسية سنة 1845م، وقد انتقلت مكتبة أحمد الجزار بمخطوطاتها وآلاتها الفلكية البالغة 870 كتابًا و34 قطعة فلكية إلى أحد أبنائه، الذي جعلها وقفًا في الجامع الأموي الكبير سنة 1893م، وبذلك افتتحت فيه أكبر مكتبة للمخطوطات والآلات الفلكية في حلب[18].
ومما يذكر أن وظيفة ميقاتيي الجامع الأموي في حلب متوارثة في أسرة عبد الله الحنبلي الميقاتي منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادي، وقد عرف من أحفاده الشيخ كامل المؤقت المتوفى سنة 1920م، والذي نقل إلى ولديه أحمد ومحمد معارفه وعلومه الفلكية، لكنهما قتلا في إحدى معارك الحرب العالمية الأولى، وبهذا خلت حلب من عالم الفلك والمواقيت، إلا أنها لا تزال تحتفظ من آثار ذلك الماضي المجيد، بعدد من المزاول الشمسية في أغلب مبانيها[19].
ج- وأهم آلة توقيت باقية حتى اليوم في جامع حلب الكبير، تلك الآلة التي تجمع بين الساعة الشمسية والإسطرلاب، وتقع في عرض صحن الجامع، وهي عبارة عن قرص من المرمر الأبيض، قطره 53 مم مثبت على عمود حامل من الحجر، ويحيط به صف من الأسنان الحديدية عددها 35، وترتسم على سطح القرص عدد كبير من الخطوط المستقيمة والمنحنيات المتقاطعة أو المتوازية أو المتناظرة، حول أربع مؤشرات معدنية تشير بظلها أو سمتها إلى مواقع ستة أبراج فلكية على قوس إلى اليمين، يناظره إلى اليسار قوس ستة أبراج أخرى، كما تبين مغرب التساوي ومشرق التساوي، إضافة إلى خط الزوال ومواقيت العصر والمغرب[20].
وهناك مستقيم يبين خط منتصف النهار، كما توجد دائرة صغيرة تشتمل على ثلاثة مدارات بيضاوية حول مؤشر مركزي للدلالة على مواقع البروج الفلكية أيضًا، وهي تشبه في شكلها العام البنية الكلاسيكية للذرة. هذا ومن المحتمل أن تكون للأسنان الحديدية على المحيط فائدة تسهل استخراج المعلومات، وذلك لأن الوصل بين كل سنين متقابلين بوساطة مسطرة تمر بالمركز، وبالتالي يمكن مطابقة أو مقارنة ظل واحد أو أكثر من المؤشرات باستقامة المسطرة التي تتقاطع أو تتوازى مع الخطوط التي تملأ صفحة الميناء، وذلك بمساعدة ستة جداول حسابية محفورة على صفائح نحاسية ومثبتة على حجر القاعدة خارج الأسنان الحديدية.
وللحماية فقط، غطيت الساعة بغطاء نحاسي محدب متقن الصنع، مجهز بقفل يفتح في أوقات محددة، ولا يفتحه سوى ميقاتية الجامع، حيث دلت الجريدة الرسمية في العهد العثماني على وجود موظف مختص يعرف (بالميقاتي)، ويتقاضى راتبًا شهريًّا لضبط مواقيت الصلاة، حيث يعطي الإشارة لمؤذن الجامع فيبدأ بالأذان، بينما يحمل مساعده علمًا أخضر يدور به الجهات الأربع لمئذنة الجامع فيراه مؤذنو الجوامع الأخرى ليبدءوا أذانهم، ويحمل ذاك المساعد في الليل قنديلاً، وبهذا تنطلق مواقيت الصلاة من الجامع الأموي الكبير إلى الجوامع الحلبية الأخرى[21].
وتذكر المصادر التاريخية أن الشيخ عبد الحميد دده بن حسن البيرامي قد صنع هذه الساعة أو الإسطرلاب سنة 1297هـ/1881م، وصنع مثلها سنة 1300هـ، للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني، لتوضع في قصره المعروف باسم (سراي يلدز) في إستانبول.
2- جامع العثمانية:
تم بناء هذا الجامع سنة 1370م وهو يعرف بالمدرسة الرضائية، وفيه مزولتان شمسيتان أولاهما: على رخامة جنوبية متقنة الصنع وبحالة جيدة، لها مشير نظامي طويل وتدريجات واضحة. وثانيتهما: على رخامة غربية جميلة، غير أن مؤشرها مفقود، وقد استبدل أخيرًا بمؤشر معدني، ولا يعرف مدى مطابقته للمؤشر القديم. وفي الجامع أيضًا خط ظل على درجة الشرقي، ويبدو من خلال المقارنة الشبه الواضح بين أدوات التوقيت في هذا الجامع وأدوات التوقيت في الجامع الأموي الكبير بدرجة توحي بتقارب زمن إقامة هذه الوسائل في كل من المسجدين[22].
3- جامع الطروش:
تم بناء هذا الجامع سنة 1398م، وفيه ثلاث ساعات شمسية، اثنتان جنوبيتان على طرفي مدخله الشمالي، منحوتتان بشكل ربع دائرة، طول نصف قطرها 75 سم، وهي تحوي خمس تدريجات رئيسية.
وتتجه المزولة الشرقية إلى الشرق، ومهمتها تحديد موعد صلاة العصر، بينما تتجه المزولة الغربية إلى الغرب، وتفيد لتحديد موعد صلاة الظهر[23].
4- قشلة الترك:
القشلة، كلمة جاء من التركية (قيش) بمعنى (الشتاء)، وهم أطلقوها على الثكنة العسكرية، وأصلها معناها المشتى.
وهي كلية الشئون الإدارية العسكرية حاليًا، وفيها مزولة جنوبية محفورة على حجر مربع الشكل يبلغ قطر المزولة 75 سم، وهي أكثر دقة إذ تم تقسيم خطوطها إلى 13 خطًّا ساعيًّا تتضمن أحد عشر خطًّا نصف ساعي[24].
5- المكتبة الوقفية:
يوجد في هذه المكتبة ساعة شمسية، أطلق عليها مخترعها علاء الدين ابن الشاطر الدمشقي اسم (صندوق اليواقيت لأعمال المواقيت)، وأهم أجزائها إبرة مغناطيسية لمعرفة الجهات الأربع، ثم رسوم لمعرفة القبلة في بعض البلدان، إضافة إلى مزولة شمسية تمال إلى الأفق بقدر عرض البلد، ثم دائرة استوائية كلية يقاس بها الوقت ليلاً ونهارًا، ثم أقواس مختلفة المطابع الفلكية[25].
6- جامع المهمندار:
تم بناء الجامع سنة 1247م وفيه مزولة شمسية تم حفرها على قاعدة المئذنة، وهي ذات نقوش فريدة، غير أن مشيرها مفقود ،ولا يمكن رؤية هذه الساعة إلاَّ أثناء صعود مؤذن الجامع إلى شرفة المئذنة؛ مما يدل على أنهم كانوا كثيرًا ما يشترطون على المؤذن ضرورة إلمامه بعلوم الفلك وكيفية استخراج المواقيت من خلال المزاول[26].
ساعات باب الفرج:
ومع انحسار المواقيت الشرقية وهيمنة التوقيت الغربي تم وضع حجر الأساس لمنارة ساعة حلب المعروفة (بساعة باب الفرج) أحد أبواب حلب الأثرية السبعة في (15 ربيع الأول سنة 1316هـ/ 1898م)، وقد تبرع أبناء حلب من ذوي الثروة واليسار لعمارتها بنحو 600 ليرة ذهبية عثمانية.. وانتهت عمارتها في سنة 1317هـ، فتفردت عما حولها من أبنية بارتفاعها عشرين مترًا، وبوجوهها الأربعة، حيث تم تخصيص وجهيها الشمالي والجنوبي للتوقيت الغربي، والوجهين الشرقي والغربي للتوقيت الشرقي.
وكان المهندس لهذه الساعة (شارتيه أفندي) مهندس الولاية، (وبكر صدقي أفندي) مهندس المركز، وفي حفل الافتتاح، أنشد الشاعر الأديب عبد الفتاح الطرابيشي أبياتًا فيها، ومنها قوله:
قد شاد بالشهباِ منارةَ ساعـةٍ *** تزهو بإتقانٍ وحُسْنِ صنـاعـةِ
في دولةِ الملكِ الحميـدِ المُرتَجى *** الثاني الذي ساسَ الوَرى بِدِرايةِ
وبهمَّة الوالي الرءوف أخي الحِمَى *** وصنيعِ قومٍ مـن أعاظمِ سادَةِ
فهم رجالٌ قد روي تاريخُهـم *** لِعلائِهم حتـى قيامِ الساعـةِ[27]
وخطب المؤرخ الشيخ كامل الغزي آنذاك، ذاكرًا خطابه في كتابه (نهر الذهب في تاريخ حلب)، ومنه قولـه: "ها هي حلب.. الآن يتعزز جمالها، ويتوج هام كمالها، بتاج يحلو للعيون منظره، ويلذ للآذان خبره، ويعم نفعه البعيد والقريب، ويشمل شرفه الوطني والغريب.. به تفضل الشهور والأعمار، وتعلم الأوقات من الليل والنهار، ألا وهو الساعة التي كانت ولادتها في الشرق.. وحضانتها في الغرب، فما أحرى بالولد أن يحضن ولده"[28].
المصدر: مجلة التراث العربي.