[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
كلنا يدرك أن كلمة "الفقه" من ناحية اللغة العربية الجميلة أنه: الفهم الدقيق.
وإذا نظرت لتقدم دول وتأخر أخرى ستجد أن الذي جعل هذه تتقدم والثانية تتدهور أو تتعثر إنما يرجع إلى قضية الفهم الدقيق لطبيعة المسئولية بالنسبة للطراز الأول وهو العالم المتقدم، وعدم وضوح أي نوع من فهم للمسئولية عند الفريق الآخر، وهو ما يُسمى بالعالم الثالث؛ لأنه ليس هناك عالم رابع!!
ولو نظرنا في تاريخ المسلمين المشرق لرأينا رجلاً كعمر بن الخطاب في فهمه الدقيق لمسئولية الإنسان عندما يتولى المهام الكبيرة.
ترفع عمر عن المال العام
وجدنا عمر يرسل إلى مُعَيْقيب أحد عماله على بيت المال وقت الظهيرة، وعند عمر ولده عاصم بن عمر، فيقول عمر لمعيقيب: أتدري ما صنع هذا؟ إنه انطلق إلى العراق فأخبرهم أنه ابن أمير المؤمنين، فأعطوه آنية وفضة ومتاعًا وسيفًا محلى. فقال عاصم: ما فعلت هذا، وإنما قدمت على ناسٍ من قومي فأعطوني هذا. فقال عمر: خذه يا معيقيب، فاجعله في بيت المال.
ولن ننسى أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب زوج عمر لما أرسلت إلى ملكة الروم بطيبٍ ومشارب، فجاءت امرأة قيصر وجمعت نساءها وقالت: هذه هدية امرأة ملك العرب وبنت نبيهم. فأهدت إلى أم كلثوم عقدًا فاخرًا، فلما انتهى البريد إلى عمر دعا الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلى بهم ركعتين وقال: لا خير في أمر أبرم من غير شورى من أموري، قولوا في هدية أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم. فقال قائلون: هو لها بالذي لها. ولكن عمر أمر برد هدية زوجة ملك الروم إلى بيت المال، ورد على أم كلثوم بقدر نفقتها.
هكذا كان فقه المسئولية عند عمر بن الخطاب .
وقد قدم صهرٌ لعمر عليه فطلب أن يعطيه عمر من بيت المال، فانتهره عمر وقال: أردت أن ألقى الله ملكًا خائنًا! فلما كان بعد ذلك أعطاه من صلب ماله عشرة آلاف درهم.
هذه بعض المواقف التي تدل على ترفع عمر عن الأموال العامة، ومنع أقربائه وأهله من الاستفادة من سلطانه ومكانته، ولو أن عمر أرخى العنان لنفسه أو لأهل بيته لرتعوا ولرتع من بعدهم، وكان مال الله -تعالى- حبسًا على أولياء الأمور.
إذا عف الحاكم عفت رعيته
ومن القواعد الطبيعية المؤيدة بالمشاهد أن الحاكم إذا امتدت يده إلى مال الدولة اتسع الفتق على الراتق، واختل بيت المال أو مالية الحكومة، وسرى الخلل إلى جميع فروع المصالح، وجهر المستتر بالخيانة وانحل النظام. ومن المعلوم أن الإنسان إذا كان ذا قناعة وعفة عن مال الناس، زاهدًا في حقوقهم، دعاهم ذلك إلى محبته والرغبة فيه، وإذا كان حاكمًا حدبوا عليه وأخلصوا في طاعته، وكان أكرم عليهم من أنفسهم.
ومن خلال حياته مع أسرته وأقربائه يظهر لنا معلم من معالم الفاروق في ممارسة منصب الخلافة، وهي القدوة الحسنة في حياته الخاصة والعامَّة، حتى قال في حقه علي بن أبي طالب: عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعوا.
وكان لالتزامه بما يدعو إليه، ومحاسبته نفسه وأهل بيته أكثر مما يحاسب به ولاته وعُمَّاله - الأثر الكبير في زيادة هيبته في النفوس، وتصديق العامة والخاصة له.
التربية تصنع الحاكم القدوة
هذا هو عمر الخليفة الراشد الذي بلغ الذروة في القدوة، ربَّاه الإسلام، فملأ الإيمان بالله شغاف قلبه، إنه الإيمان العميق، الذي صنع منه قدوة للأجيال، ويبقى الإيمان بالله والتربية على تعاليم هذا الدين سببًا عظيمًا في جعل الحاكم قدوة في أروع ما تكون القدوة من هنا إلى يوم القيامة.
وكان يحفظ سوابق الخير للمسلمين، وكان لديه ميزان دقيق في تقييم الرجال، فقد قال : "لا يعجبنكم طنطنة الرجل، ولكن من أدَّى لأمانة وكفّ عن أعراض الناس، فهو الرجل، فهو الرجل".
وكان يقول: "لا تنظروا إلى صلاة امرئ ولا صيامه، ولكن انظروا إلى عقله وصدقه".
ويقول: "إني لا أخاف عليكم أحد رجلين: مؤمنًا قد تبين إيمانه، وكافرًا قد تبين كفره، ولكني أخاف عليكم منافقًا يتعوذ بالإيمان، ويعمل لغيره".
وسأل عمر عن رجل شهد عنده بشهادة، وأراد أن يعرف هل له من يزكيه، فقال له الرجل: إني أشهد له وأزكيه يا أمير المؤمنين. فقال عمر: أأنت جاره في مسكنه؟ قال: لا. قال: أعاشرته يومًا فعرفت حقيقة أمره؟ قال: لا. قال: أسافرت يومًا معه؛ فإن السفر والاغتراب محك للرجال؟ قال: لا. قال عمر: لعلك رأيته في المسجد قائمًا قاعدًا يصلي؟ قال: نعم. قال: اذهب، فأنت لا تعرفه.
ابن حذافة وملك الروم
ولما أسرت الروم الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة السهمي، فجاءوا به إلى ملكهم فقال له: تنصَّر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي. فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين، ما فعلت. فقال: إذن أقتلك. فقال: أنت وذاك. فأمر به فصلب، وأمر الرماة فرموه قريبًا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية، فيأبى. ثم أُمر به فأنزل، ثم أمر بقدر -وفي رواية ببقرة من نحاس- فأحميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يُلقى فيها، فرُفع في البكرة ليُلقى فيها، فبكى..!
فطمع فيه ودعاه، فقال: إني إنما بكيت؛ لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تُلقى في هذه القدر الساعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تُعذَّب هذا العذاب في الله. وفي بعض الروايات: أنه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أيامًا، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير، فلم يقربه. ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما والله إنه قد حلَّ لي ولم أكن لأشمتك بي. فقال له الملك: فقبِّل رأسي وأنا أطلقك. فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم. فقبَّل رأسه، فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده. فلما رجع، قال عمر بن الخطاب : حقٌّ على كل مسلم أن يقبِّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ. فقام، فقبَّل رأسه.
وعندما أقبل قوم غزاة من الشام يريدون اليمن، وكانت لعمر جفنات يضعها إذا صلى الغداة، فجاء رجل منهم فجلس يأكل، فجعل يتناول بشماله، فقال له عمر -وكان يتعهد الناس عند طعامهم-: كُلْ بيمينك. فلم يجبه، فأعاد عليه، فقال: هي يا أمير المؤمنين مشغولة. فلما فرغ من طعامه دعا به، فقال: ما شغل يدك اليمنى؟ فأخرجها، فإذا هي مقطوعة. فقال: ما هذا؟ فقال: أصيبت يدي يوم اليرموك. قال: فمن يوضئك؟ قال: أتوضأ بشمالي، ويعين الله. قال: فأين تريد؟ قال: اليمن، إلى أمٍّ لي لم أرها منذ كذا وكذا سنة. قال: أوَ برٌّ أيضًا؟ فأمر له بخادم وخمسة أباعر من إبل الصدقة، وأوبرها له.
أمنية عمر
أما أمنيته، فقد قال لأصحابه: تمنوا. فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا فأنفقه في سبيل الله، وأتصدق به. وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدًا وجواهر، فأنفقه في سبيل الله وأتصدق به. ثم قال عمر: تمنوا. فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين. فقال: أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان، فأستعملهم في طاعة الله. وهؤلاء من إخوانه في الله.
إخوان الصدق
وقد وصف عمر إخوان الصدق بقوله: عليك بإخوان الصدق، تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء وعُدَّة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يرضيك منه، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من يخشى الله، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تُطلعه على سرِّك، واستشر في أمرك من يخشى الله تعالى.
وكان عمر يذكر الأخ من إخوانه في الليل، فيقول: يا طولها من ليلة! فإذا صلى الغداة غدا إليه، فإذا لقيه التزمه أو اعتنقه. وكان يقول: لولا أن أسير في سبيل الله أو أضع جنبي في التراب لله أو أجالس قومًا يلتقطون طيب القول كما تلتقط الثمرة، لأحببت أن أكون قد لحقت بالله.
ولقد شكا رجلٌ عليًّا إلى عمر ، فلما جلس عمر لينظر في الدعوى، قال عمر لعلي: ساوِ خصمك يا أبا الحسن. فتغيَّر وجه عليٍّ، وقضى عمر في الدعوى، ثم قال لعلي: أغضبت يا أبا الحسن؛ لأني سويت بينك وبين خصمك! فقال علي: بل لأنك لم تسوِّ بيني وبين خصمي يا أمير المؤمنين؛ إذ كرمتني فناديتني يا أبا الحسن، بكنيتي، ولم تنادِ خصمي بكنيته. فقبَّل عُمر رأس عليٍّ وقال: لا أبقاني الله بأرضٍ ليس فيها أبو الحسن.
هكذا كان فَهْم عمر لفقه المسئولية، فهلاَّ كان عمر رائدًا لنا في هذا الفقه.
المصدر: موقع الدكتور صلاح سلطان.