[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
التاريخ سجل الحياة الإنسانية ومنجزاتها, والبحث التاريخي يوضح حقائق العلاقة بين الأشخاص والأحداث, والزمان والمكان, نحن نقرأ التاريخ لنفهم الماضي, ولنتفهم الحاضر في ضوء الماضي وتطوره.
وتظهر بصمات التاريخ على الهوية الاجتماعية بشكل عام؛ نتيجة للتفاعل المستمر بين عناصر الثقافات المختلفة في المجتمعات المتعددة عبر العصور التاريخية الطويلة, والتاريخ يعدُّ المعلم الأساسي لكل أمة من الأمم, والتي غالبًا ما تعمل على البحث والتنقيب عنه وإثبات أصالتها وشخصيتها وعمق حضارتها, من خلال بذل الجهود الكبيرة من أجل ذلك. ونجد من الأمم من ترجع انتماءها إلى رمزيات بسيطة قد تكون تافهة، لكنها تعتز بها كونها الجذور التي تستند إليها, وتربى عليها الأجيال، وتوحّد عليها مفاهيم الانتماء حتى عند حدوث التنوع في ذات المجتمع.
وغالبًا يكون التاريخ الذي تتداوله الشعوب مما تعتز به، فهي تسترجع آثار عظمائها ورموزها وصرح حضارتها وعلومها.. وهكذا؛ فالشعوب تصور ملوكها أبطالاً وإن كانوا طغاة بمفهومنا, وهذه السجية السليمة حتى عند الفرد إذا سئل عن تاريخه فهو يستذكر -في الغالب- التاريخ المشرق من حياته وينقله إلى أبنائه، وكذلك الشعوب. ويشذ عن هذه القاعدة اليهود باستذكارهم مظلوميتهم، والشعوبية الشيعية التي كرست شخصية مجتمعها على تأريخ أسود نسب إلى الإسلام، والتي توجِّه عمليات البحث التاريخي على أساس إثبات سواد صفحات هذه الأمة وتاريخها, حيث لم يشهد تاريخ الأمَّة النور في ظل الإسلام منذ ظهور الرسالة الإسلامية, التي بدَّلت شكل الحضارات من حضارتين متصارعتين فارسية ورومية, إلى حضارة إسلامية غزت تلك الحضارات بقيمها الإنسانية وتحريرها واحترامها للنفس البشرية.
ولم تمتلك أمة من التاريخ الناصع ولم تسطر أمة إنجازات على مستوى الحضارات كما سطرها التاريخ الإسلامي والأمة الإسلامية, ولم تشهد أمة ارتفاعًا لقيمة الإنسان قدر ما تحقق خلال الحضارة الإسلامية, وامتد هذا الإنجاز الحضاري من خلال بعدي الزمان والمكان بالقدر الذي لم يتحقق إلا لهذه الحضارة. نعم إن هناك أممًا امتدت على مستوى الزمان، لكنها كانت محدودة بالامتداد الجغرافي والعكس كذلك, وشهدت أمم فترات نهضة، لكنها فقدت القيم الإنسانية.
ورغم كل هذا، نجد أن اهتمام الأمة بتاريخها اهتمامًا قاصرًا لا يتحقق من خلاله الوظيفة لتاريخ الأمم والحضارات, وهناك قلة اهتمام بمراجعة التجارب الحضارية الفريدة التي شهدتها الأمة الإسلامية، ويختزل تاريخ الأمة على جزئيات مقروءة قراءة عاطفية تلقينية لا تحقق الاعتزاز عند أبناء هذه الأمة، ولا تحقق التفاعل اللازم لتشكيل هوية الأمة.
إذن نحتاج إلى قراءة جديدة للتاريخ, من خلالها نحقِّق الوظيفة للتاريخ في بناء الشخصية الإسلامية وهويتها, ونحتاج بداية أن نعين مجموعة من المبادئ لتحقيق هذه القراءة؛ فالتاريخ الإسلامي يمثل حياة المسلمين من ملوكهم وخلفائهم إلى أفرادهم, فهو تاريخ المسلمين وليس تاريخ الإسلام, حيث لا ينبغي أن يتم الحكم على الإسلام من خلال اقتطاع مجموعة من الوقائع ليتم بها محاكمة الإسلام واتهامه كما يفعل بعض المغرضين أو المخدوعين، فهو سجلٌ زاخر بالتجارب، ومع أنه من المفيد دراسة التاريخ وفق معيار الصلة بالإسلام لنتعرف على مواطن القوة والضعف، والتي -في الغالب- مرتبطة بالقرب والابتعاد عن الدين الإسلامي.
ولا بد من التفريق ما بين الوظيفة لكلٍّ من العقيدة والتاريخ، ولا ينبغي الخلط بينهما, وينبغي أن لا نتعامل مع أحداث التاريخ بتعصب وتقديس, ولا نتهالك في تبرير كل ما فعله السابقون، ولا نتبنى كل ما صدر عنهم. في الوقت الذي نجد أن الشعوبية تجعل للتاريخ المشوَّه دور العقيدة الدافعة والموجهة، والتي على أساسها تبني شتى أنواع التفاعلات الاجتماعية، وعلى أساسها يكون الولاء والبراء, نجد أن بعض أطراف الصحوة قد جحدت للتاريخ أي وظيفة؛ حرصًا على صيانة العقيدة.
ورغم العناية الكبيرة التي شهدتها مختلف العلوم الإسلامية كدقة التدوين للنصوص وتشكيلها وإسنادها, إلا أن من الواضح أن التاريخ لم يحظ بمثل هذا الاهتمام في فترات التدوين الأولى, حيث قام العديد من المؤرخين كالطبري بتسجيل كل ما ورد إليه، سواء كانت رواية صحيحة أم كاذبة, دوّن هذا الركام الكبير ولم يتم الفرز سواء بالحكم على السند أو المتن للرواية التاريخية, ونجد التعارض في الروايات والتكرار والتناقض, رغم اعتراف المدونين آنذاك بعدم اعتماد ما تم تدوينه.
واستفاد المغرضون من هذه الروايات المتضاربة ليحققوا ما يرمون إليه, واختلط الأمر على العديد من أبناء هذه الأمة، وارتبكت عندهم الصورة عندما اندفعوا للدفاع عن مبادئهم ورموزهم بالرجوع إلى تلك المصادر. ومن ثَمَّ فعملية إعادة القراءة للتاريخ عملية ضرورية.
وقد واجهت الأمة جملة من "الاتجاهات" التي عملت على توظيف التاريخ لهذه الأمة، وهي كالتالي:
- الاتجاهات القومية: وهذه الاتجاهات التي عملت على ترويج العنصرية والتفرقة ما بين القوميات بحجج كثيرة، أخطرها المحورة حول العروبة ضد العناصر الأخرى, وفي الوقت الذي يدافع الكثيرون عن المنهج القومي وأثره في مواجهة الشعوبية المخربة لتاريخ الأمة, نجد أن القومية العربية عملت على ضرب العديد من بني الإسلام وتاريخه، وبالذات ضرب الخلافة العثمانية كونها هيمنة تركية واحتلال تركي وليست خلافة (أي أحد الأشكال السياسية التي نظمها المسلمون في الحكم), وعزل العديد من الشعوب نتيجة القراءة المغلوطة، والتي تحت عنوان تاريخ العرب وليس تاريخ الإسلام.
- الاتجاهات العلمانية: وهذه عملت على مفصل آخر في إنكار التاريخ واجتزائه إلى جزئيات فارغة تطمس من خلال هذه القراءة الهوية الإسلامية, وتعمل على نسخ التجربة الغربية في عزل الكنيسة, لتطبقها وبشكل تعسفي في العديد من البلاد الإسلامية, في الوقت الذي تعمل العلمانية الشيعية على تدعيم التاريخ والانتماء الطائفي نجدها تتحالف مع العلمانية في البيئة السنية لتتوجَّه ضد تاريخ الأمة ورموزها. ويعدُّ العديد من رموز العلمانية ومن ينصب نفسه للدفاع عنها في بعض البلدان كتركيا مثلاً، هم ذوو انتماءات علويَّة شعوبية.
ومع هذه العلاقة الشاذة ما بين العلمانية والشعوبية نجد هناك علاقة أكثر غرابة، وهي ما بين العلمانية والقومية, وإذا كانت القومية قد حققت بعض النجاح في تقطيع الأمة وفق العنصر البشري المكوّن لها، فإن العلمانية نجحت في خداع العديد من أبناء الأمة لتصور لهم طريق التقدم والرجعية, وأنتجت نماذج لا ترتبط بالأمة وقد قطعت امتداداتها على مستوى المكان والزمان. وأيضًا أضافت بُعدًا آخر في تقطيع الأمة عندما اتخذت المنهج القطريّ في قراءة التاريخ.
- الاتجاهات الشعوبية: والتي تلونت وظهرت بأشكال متنوعة عبر التاريخ الإسلامي تشترك بطريقة قراءة التاريخ, دون أن تكون بالضرورة مشتركة بالأصول العقائدية, لكنها اليوم بارزة في التوجُّه الطائفي الذي تنشطه إيران في المنطقة, وتعمل وفق منظومة التشيع بالعديد من أطيافه. وتعمل على مسخ التاريخ الإسلامي إلى صفحات سوداء قائمة على أسوأ ما عرفته البشرية من نفسيَّات تدور في فلك (اغتصاب الإمامة), وبذلك أضافت إلى عملية طمس التاريخ وظيفة عقديَّة، إضافة إلى وظيفته في تشكيل هوية الفرد في المجتمع؛ لتنتج أسوأ هجمة جمعت فيها العناصر التي تعمل على تقطيع الأمة وعلى مسخ هويتها وسلخها من انتمائها.
وفي الوقت الذي تعمل فيه العلمانية على تفريغ المجتمع من انتمائه، تعمل الشعوبية على ملء الفراغ المتولد عن العلمانية بالكره لتاريخ الأمة ورجالاتها, وفي الوقت الذي تعمل فيه الاتجاهات الأخرى في تقطيع جسد الأمة تعمل هذه على نظم جسد شعوبي على الأشلاء التي تخلفها المناهج السابقة، ومع علاقة تعايشية بالتوجهات القومية المتطرفة (التركية والفارسية والكردية وغيرها)؛ بحجة العداء القومي العروبي.
ومع كل ما واجه الحركة الإسلامية من محاولات لمسخ تاريخ الأمة أو عزلها عنه أو التفتيت بواسطته, لم تقدم من الجهد ما يعيد للتاريخ دوره في المجتمع، وكانت ردود الأفعال أيضًا مشتتة نتيجة تنوع مناهج المواجهة والهدم. وتعرضت العقلية الإسلامية إلى مجموعة من العقبات في قراءتها للتاريخ وإرجاع الدور الوظيفي له:
1- القراءة بالعقلية الأسطورية والخرافية:
وهي قراء بعقلية الحكم المسبق دون الالتفات إلى جزئيات التاريخ, وهي قراءة باتجاه واحد لا تقدم نقدًا، ولا تتبين التجارب الثرية وإنما تختزلها إلى أقاصيص بطولية غير واقعية، وتقدمها بأسلوب بدائي سهل يضعف القدرة العقلية لدى الأمة.. ساهم هذا الشكل من القراءة في إنتاج عقلية خرافية ما بين اليأس والقنوط (لكونه لا يمكن الوصول إلى ما وصل إليه سلفنا) وبين التواكل والتقاعس (بكون هذه الأمة ليس لها مثيل) دون الالتفات إلى الواقع.
2- الخضوع إلى السلطة:
والسلطة المقصودة هي كل ما يعيق إعمال العقل والتفكير، ومن ذلك:
- سلطة القِدَم: وفق عقلية كل قديم مقدَّس لا ينبغي المساس به, وسلطة القدم قدمت عقلية ترفض وتخاف الدخول في العقد التاريخية التي يثيرها خصوم الإسلام. وتقف هذه العقول مذهولة في جرأة الشعوبية على الرموز الإسلامية أو التاريخ الإسلامي, ثم لا تقدم إلا التبريرات غير المنطقية.
- الانتشار: سلطة الكثرة وشيوع الأمر والخوف من الشذوذ بالرأي أو الاستنتاج؛ فالتجديد يولد العديد من التحديات والصراعات خصوصًا مع المحافظين, والانقياد إلى الشائع يرجع إلى ضعف الثقة والقدرة على الإبداع.
- الشهرة: إن ما اشتهر لا يعني صوابه، وهو ما أسقط العديد حتى إلى ترديد بعض طعون أو تلفيقات المغرضين لشهرتها.
- الرغبة والتمني: أيضًا من العقبات التي سيطرت على الكثير من العقليات الإسلامية كونها تقرأ التاريخ بما ترغبه وتتمناه، لا بما هو عليه أصل الحدث أو الحادثة.
3- إنكار قدرة العقل:
حيث تتم قراءة العديد من المواطن التاريخية مع إلغاء جزئي للعقل الواعي, ويتم ذلك عندما تصطدم النصوص بالكثير من العقليات التي يقف أمامها الفرد، ولا يستطيع أن ينكر أو ينقد, خصوصًا عندما تختلط القيم العقائدية بالأحداث التاريخية دون التمييز بينها.
4- التعصب:
وهو الحكم المسبق لما ينسجم مع الاتجاه للفرد أو المجموع الذي يحمل العقلية العصبية؛ فالعصبية القومية أو الطائفية أو المذهبية أو الدينية, كل واحدة أنتجت قراءة مختلفة عن الأخرى للتاريخ, وفق الحكم القطعي المسبق للأحداث وتأويل المخالف ليتفق مع طبيعة العقلية التعصبية؛ فالبعض أوعز تأخر كتابة التاريخ إلى العهد العباسي ولَّد كتابة للتاريخ ناقمة وجاحدة لمنجزات الدولة الأموية، أو غيرها من الأمثلة. والأمثلة هنا تدور حول الكره والحب، فما نكرهه يجب أن لا يصدر عنه شيء إيجابي، ويؤول كل فعله إلى السيئ، وبذلك نلغي الفائدة من قراءة التاريخ؛ لتتحول إلى أداة لتغذية التعصب وتبريره.
نحتاج إلى تقرير منهجية لقراءة التاريخ وفق التحديات التي تواجه الأمة، وطريقة عزلها عن أصولها وتاريخها وفق عقلية بنائية ونقدية تستخلص التجارب وتربط الجيل الحالي للأمة بالأجيال السابقة، وتوصل الانقطاع القيمي والمكاني والزماني, بشكل يتجاوز به الجزئيات المفرقة. ويتم ذلك وفق أدوات البحث العلمي وسماته وفق التراكمية العلمية والتنظيم والبحث عن الأسباب والشمولية وغيرها..
والعمل على تعزيز الدور والوظيفة للتاريخ الإسلامي متمثلاً في تحصين الأمة والحفاظ على هويتها أمام ما تواجهه من متغيرات، ورد الشبهات التي بدأت تعد منفذًا للكثير من الاتجاهات الشعوبية والعلمانية. ولا ينبغي الاقتصار على ردود الأفعال هذه، بل يجب أن ننطلق إلى آفاق البناء وإنتاج النماذج التاريخية الثرية التي نصدرها كأداة إلى التبشير بالإسلام أمام هذا الغثاء الذي اختزل الحياة إلى الجزئيات التي أوصلت العديد من الاتجاهات إلى طرق مسدودة، لا تملك إلا الطعن بالإسلام كمنفذٍ وحيد لبقائها.
وأمامنا الشعوبيَّة الجديدة، وهي شعوبية سياسية مرتبطة بنظام إقليمي يريد أن يهيمن على مقدرات الأمة ويتصدر قيادتها, وهو أحد أخطر التحديات التي تواجه الأمة في العراق والخليج والعديد من الدول الإسلامية, التوجُّه الشعوبي اعتمد بشكل كبير على قراءة التاريخ قراءة مغلوطة سوداء.
استهدف من هذه القراءة تحقيق عملية عزل للأمة عن تاريخها وانتمائها وهويتها، وربطها بهوية تعتمد أيضًا على التاريخ محورها (المظلومية), ووظَّف أحداث التاريخ وفق القراءة التي أنتجها إلى تشكيل كتلة اجتماعية تتحرك بوحي الكراهية للإسلام وتاريخه ورموزه وإنجازاته, وتثوير الطاقات وفق عقلية انتقاميَّة تتحين الفرص لتدمير ما بقي من روابط وتاريخ لهذه الأمة.
وما زالت التجربة الحضارية التي خاضها المسلمون من الممكن أن تنهض من جديد، وتعيد الحيوية للأمة المقسمة المنغمسة بالشبهات، لا بأسلوب صراع الحضارات الأمريكي أو حوار الحضارات الإيراني, وإنما بالعرض الحضاري الإسلامي الذي يعتمد القيم الإنسانية محور الحضارة، ويرفض الإجحاف بالإنسانية وقيمها، أو الالتفاف عليها، أو تكبيلها بالعصبيات والطائفيات والقوميات.
المصدر: موقع موسوعة الرشيد.