[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
يُعَدُّ القرنُ السادس عشر من أكثرِ القرون حساسية على العالم الإسلامي، ولا سِيَّما في الشرق الأوسط والمغرب الأقصى وشمالي إفريقيا، ورغم هذا استطاع العثمانيون بمهارتِهم السياسية والعسكرية أنْ يتسيَّدوه، فبنظرةٍ مُنصفة على خريطة العالم القديم إبَّانَ هذا القرن، سنجدهم قد جاهدوا في أربعةِ مَحاور رئيسة.
المحور الأول: محور المواجهة المتصاعدة والمحتدمة مع العالم الغربي، ولا سيما وسط أوربا؛ بهدف وصولِهم إلى بلاد الأندلس بَرًّا وبَحرًا لتحرير المسلمين من الإبادة الجماعية هناك على أيدي الفرنجة المتعصِّبين، ومَحاكم التفتيش الرهيبة، التي نَصَبَتْ لَهم المشانقَ والمحارق الجهنمية.
المحور الثاني: كان في غرب البحر الأبيض المتوسط؛ حيث كانت أساطيلُ فرنسا وإسبانيا وجنوة تشكل تحالفًا بحريًّا لضرب سواحل شمال إفريقيا واحتلالها.
وكانت هذه القوى الصَّليبية البحرية تتصدَّى للسُّفن الإسلامية، التي كانت تَحمل المسلمين الفارِّين مِنَ الْهَوْلِ الصليبي بالأندلس، فكان الأسطولُ العثماني يَخْفِرُ ويتصدَّى لهذه الأساطيل، واستطاع تحرير ليبيا، والجزائر، وتونس، والمغرب الأقصى من الاحتلال الإسباني.
المحور الثالث: كان في جنوب الجزيرة العربية والخليج العربي والبحر الأحمر؛ حيث كان الخطر البحري البرتغالي يَتهدَّدها، فكان الوجودُ العثماني هناك حمايةً لها؛ لتأمين السفن التجارية الإسلامية في المحيط الهندي، ومياه الخليج، والبحر الأحمر، والأهم حماية مَكَّة والمدينة المنورة، والأراضي المقدسة بالحجاز من الخطر البرتغالي.
المحور الرابع: التصدي للخطر الصفوي الشيعي بإيران، وإحباط مخططات الصفويِّين للاستيلاء على مصر والشام وفلسطين والحجاز، والعمل على التصدي للمذابح الإيرانية للمسلمين السُّنَّة في العراق وأذربيجان ومناطق بحر قزوين.
لهذا نجد العُثمانيِّين طوال القرن السادس عشر كانوا في جهادٍ مُتصل على كلِّ الجبهات المستعرة، التي لم تخمد أُوَارها، رَافعين راياتِ الإسلام، وسائرين على نَهج السَّلَف الصالح، فقد ظهروا أمامَ العالم الإسلامي حُماةً لأهل السُّنَّة وقوة إنقاذ لهم.
والخلافة العُثمانية مهما قيل عنها إفكًا، أو لاكت سيرتَها بعضُ الأقلام ممن جهل بتاريخها، أو حسن نية، فأفقدها مصداقِيَّتَها بغير حق - فهذه الخلافة قد جاهدت في سبيلِ الله منذ إنشائها عام 1250م، وظَلَّت في رباطٍ لم ينقطع، حتى انطوى تَحت لوائها العالَم المسيحي في شرقي أوربا، ودخل في دين الله الملايين من المسيحيِّين هناك، فهي خلافة فاتحة، وَسَّعَت رقعة العالم الإسلامي لأول مرة في تاريخ الإسلام، عندما فتحت أقطارًا أوربيَّة، وإسقاطُها للإمبراطوريَّة البيزنطية كان لطمةً كبرى للغرب، حتى اعتبروا هذا الفتحَ الإسلاميَّ للقسطنطينية بدايةَ العصر الحديث، فلقد أحْيَت عصرَ الفتوحات الإسلامية الكبرى بعد مواتٍ لأكثرَ من خمسة قرون، ومَيْزَة الفتوحات العثمانية أنَّ الذين قاموا بها أتراكٌ مسلمون، وليسوا عربًا، كما كان في الفتوحات الكبرى إبَّان الخلافة الراشديَّة والأُمُويَّة، وهذا يدُلُّ على أن الإسلامَ قد أصبح عالميًّا.
بين الصفوية والمملوكية
تُعَدُّ الصفوية دعوةً صوفية المنشأ، وتنسب لداعيتها صفي الدين عام 1334م، وكان عند بَدْءِ ظهورها تتمركز في مدينة أردبيل بأذربيجان جنوبَ غرب بَحر قزوين، ولَم تلبث هذه الدَّعوة إلاَّ وكشفت عن هُويتها الشيعيَّة في مُنتصف القرن الخامسَ عَشَر، وأصبح أتباعُها إرهابيِّين، واستطاعوا السيطرةَ على بعض القبائل السنية التُّركمانية بجنوب وشرق الأناضول عند أطراف الدولة العثمانية، ثم استولوا على غربي فارس.
وهذه الجماعات الشيعيَّة الإرهابية قَوِيَ نفوذُها، واستطاع قائدها إسماعيل الصفوي تأسيسَ دولة تضُمُّ غرب وشرق فارس والعراق والخليج، وجعل عاصِمَتها تبريز، وأعلن إسماعيل أنَّه شاه فارس وإمام الشيعة، ثم قام بملاحقة المسلمين السُّنيِّين، وأجبرهم على اعتناقِ المذهب الشيعي، وهو المذهب الرسمي للدولة الصفوية.
ولم يَكتفِ الشاه إسماعيل بهذا، فقام عن طريقِ عُملائه ببثِّ الرُّعب والإرهاب في المشرق الإسلامي بالهند وأفغانستان ومصر والشام، حتى استطاعَ (عُملاؤُه) اختراقَ بلاط السلطنة المملوكية وقيادة (الجيش)؛ للتَّمهيد للانقلاب الشيعي المزمع قيامه ضِدَّ السلطان قنصوه الغوري، الذي لم ينتبه لهذه الخطة التي استهدف بها الصفويون الاستيلاءَ على مصر والشام وفلسطين والحجاز واليمن، وكلها كانت أقاليمَ تتبع السَّلطنة المملوكية بالقاهرة، وكان الصفويون عن طريق جواسيسهم قد أيقنوا أنَّ السلطنة المملوكية مفلسة.
فالسلطنة المملوكية في مَطلعِ القرن السادس عشر شهدت صراعاتٍ دَموية بين السُّلطان وأمراء المماليك الذين انشقُّوا عليه، وكان الجيشُ السلطاني يُعاني جنودُه الجوعَ، وعدمَ التدريب أو التسليح، حتى ساءت أحوالُهم، وعَمَّ الكسادُ الاقتصاديُّ كُلَّ ديارِ السلطنة بعدما توقَّفت قوافلُ التجارة العالميَّة عَبْرَها، وساد التخلُّف الاجتماعي، وتفشَّى الظلمُ للفلاحين والتُّجَّار الذين كانوا يعانون من الضرائب المتزايدة، وكانت البلادُ في فوضى، وعساكرُ المماليك لا هَمَّ لهم سوى النهب والسلب والاعتداء على الأعراض، والتعرُّض للنسوة في الشوارع.
النجدة العثمانية
وأمام هذه الأوضاع المتردية، والتهديدات المتلاحقة لسفن القراصنة الفرنجة للسواحل الشامية والمصرية - انبهر المصريُّون والشاميُّون بأنباءِ الانتصاراتِ المُذهلة التي كان يُحققها العثمانيُّون في مواجهاتِهم للغرب، وفَشِلَ الصفويون في الترويج لدعوتِهم في ديارهم؛ لسوء سمعتهم في العالم العربي؛ لممارستهم القمعية ضِدَّ المسلمين السنة، فتطلعت الشعوبُ العربية من أقصى الصومال حتى المغرب العربي وأعالي الفرات والعراق لمجيء العثمانيين، كحُماة لأهل السُّنَّة، ولم يكونوا بغافلين.
ففي عام 1512م كان العثمانيون في مُواجهةٍ بَحرية ضد البنادقة، الذين كان أسطولهم يُداهِم السواحلَ العثمانية بالبحر الأبيض المتوسط، وكان السُّلطان العثماني سليم الأول يقود جيوشَه للتصدي لهذا الخطر، فاجتاحَ أسطولُه جزيرةَ قبرص وليانتو ومدون وكورن على الساحل الغربي لليونان لتأمين قواتِه البرية هناك، ووصل البندقية (فينيسيا) في أعلى بحر الأدرياتيك واحتلها، وتَقَدَّم بقواتِه بَرًّا إلى (فستزا)، وهذا ما جعل البنادقة يطلبون الصلحَ نظيرَ دفع الجزية.
وعلى صعيد آخر استغل (الصفويون) انشغالَ السلطان سليم في حروبه ضِدَّ الغرب، فأشعلوا الحربَ لصالح فرنسا والبابوية بطول خطِّ المواجهة على الأناضول العثمانية؛ للضَّغط على سليم لسحب قواتِه التي كانت تُهدِّد إيطاليا وسواحلها الجنوبية، التي كانت خاضعةً للحلف الإسباني الفرنسي، واضطر السلطانُ سليم إلى العبور بقواتِه من أوربا للتصدي للصفويين عام 1514م، وطلب من السُّلطان قنصوه الغوري السماحَ لقواتِه بالعبور من إقليم آلبستان الذي كان يتبعُ السلطنةَ بالقاهرة؛ حيثُ يقع على أطرافِ الشام المملوكية، وليقصر المسافة على قواتِه المنهكة من السير الطويل، وتوفيرًا للوقت؛ حتى يتمكنَ بسُرعة من دخول الأراضي الصفوية؛ للتخفيفِ عن مُسلمي السنة الذين هاجمهم الصفويون وذبحوهم، لكن (قنصوه) رَفَضَ وأهان رُسلَ العثمانيين وسجنهم؛ لأنَّ الأمراءَ عملاءَ الصفويِّين حذَّروه وأوعزوا له بالرَّفض؛ إرضاءً للصفويين، الذين وَعَدوه بنجدتِه لو هاجم العثمانيُّون سلطنتَهم، وكان رُسُلُ الصفويين قد وصلت لقنصوه، وأبلغوه بهذا المعنى.
وأمام هذا الرفض غَيَّرَ السلطانُ سليم اتجاهَ المجهود الرئيس لقواتِه، ودخل الأراضي الصفوية من جنوب شرق الأناضول؛ حيث داهم إقليمَ كاليدران، وألْحَقَ الهزيمةَ بإسماعيل الصفوي، وتقدَّم بقواتِه حتى دخل تبريز عاصمة الصفويين واحتلَّها، بعدها عاد واستولى على ديار بكر والموصل وأجزاء من كردستان، وهذه كلُّها أراضٍ سُنِّيَّة كانت تحت الخطر الصفوي، وعاد إلى آلبستان التي انشقَّت على قنصوه واحتلها، وأصبحت قاعدةً حربية للجيش العُثماني على الحدود الصفوية والمملوكية، ومُهمتها حمايةُ أهلِ السنة من الخطر الشيعي الصفوي المتربص بالدولة المملوكية في أعالي نهر الفرات جنوب شرق حلب المملوكية، هذه الحقيقة لم ينتبه لها قنصوه؛ لأنَّه لم يكن بعيدَ النظر.
العثمانيون يدخلون مصر
كان العثمانيُّون لهم مفهومهم في الجهاد حسب مذهبِهم الحنفي؛ لهذا كانوا مُلتزمين بتطبيق الشرع، ولا سيما فرضية الجهاد، فعندما يكون الجهاد فرضَ كفاية دافعوا عن ديار الإسلام، ولم يَحتلوها إلا لضرورةٍ قتالية أو دفاعية، وعندما حاربوا الصفويين؛ ليدافعوا عن الإمارات التركمانية السنية على حدود الأناضول، حَمَوْها من خطرِ الصفويين، وانسحبوا منها ومن الأراضي الفارسية الصفوية؛ لأنَّها ديارُ إسلامٍ لا ديار حرب، ولو كانوا راغِبين في التوسُّع بالعالم الإسلامي، فقد كان الطريقُ مفتوحًا لهم حتى دلهي بالهند، لكنَّها ديار الإسلام يَحرُم عليها الإغارةُ عليها، وكانت شعوبُ وسط آسيا إماراتٍ تركمانية وخزرية وأوزبكية مُسلمة؛ لهذا لم يستولوا عليها، فكان هدفُهم (الجهادَ) في سبيل الله، وتوسيع رقعة الإسلام في أوربا الوثنيَّة والمسيحية بتأمين العالم الإسلامي من الخطر الصليبي.
لكن في عام 1516م اتَّجَهَ قنصوه الغوري بِجَيشه، حتى وصل إلى مدينة حلب على حدود الشام؛ لتهديد العثمانيين، والضغط عليهم في إقليم آلبستان، وكان هذا بالتنسيق مع رُسُلِ إسماعيل الصفوي؛ ليُشكِّلَ حلفًا ضد السلطان سليم؛ فسنان باشا -قائد الجيش العثماني الذي أصبح بين شقي الصفويين والمماليك في مُواجهة عسكرية- أرسل رسالةً عاجلةً للسلطان سليم الأول يبلغه فيها بالموقف العسكري، والتحرُّكات المملوكية على حدود السَّلطنة العثمانية، فأتى سليم على عجل لسهل آلبستان بعدما أرسلَ رُسُلَه لقنصوه يطلب منه عقدَ معاهدةِ سلام بينهما، لكن قنصوه كعادته سجن الرُّسلَ، ولم يردّ على رسالةِ السلطان سليم.
والعثمانيُّون كانوا على بَيِّنَة من الضَّعف العسكري لقواتِ المماليك، وكان على السلطان سليم أنْ يَختار القرارَ الأصوب، وهو القضاء على الخطر المملوكي؛ حتى لا يطعنه الصفويُّون المتنمرون له، ولا سيما أنَّهم اخترقوا حاشيةَ قنصوه، وسَيَزِجُّون به للحرب لحساب الصفويين الذين على خط المواجهة.
ففي أكتوبر 922هـ/ 1516م عَبَرَت القواتُ العثمانية الحدودَ، وتقابلت مع قنصوه في مرج دابق قُرْبَ حلب، وبعد ساعاتٍ قُتِلَ قنصوه؛ ليبدأ العدُّ التنازلي لسقوط دولة المماليك بمصر والشام والحجاز، وأعلن طومان باي نائبُ قنصوه نفسَه سلطانًا، وسار سليم بعد المعركة وسط ترحيب الشاميِّين به؛ حيث كان الطريقُ مفتوحًا أمام قواته للقاهرة، وكان الجيش العثماني مجهزًا بالأسلحة الحديثة، ومُدربًا على المعارك، بينما تشتَّتت القواتُ المملوكية بعدما أعلن أمراءُ المماليك ولاءَهم للسلطان سليم، وانضموا لجيشه.
ولم يكن السلطانُ سليم راغبًا في احتلال مصر، فعندما وصل غَزَّة توقَّف؛ ليعود من حيث أتى، وأرسل لطومان باي رُسُلَه يبلغه أنَّه اختاره حاكمًا، لكنَّه أرسل قواتِه فهزمها سليم، واتَّجه بعدها إلى القاهرة، وتلاقى طومان باي مع العثمانيِّين في الريدانية (العباسية) عند مشارف القاهرة، لكنَّ المماليك لم يصمدوا ساعةً، وهرب طومان باي لمدينة البهنسا، لكن العربان قبضوا عليه، وسلَّموه للسلطان سليم، وأعْدَمه على باب زويلة بعدما عرضَ عليه حُكْمَ مصر ورفض.
وبعد دخول العثمانيين للقاهرة كانت صلاة الجمعة في اليوم التالي، ووقف الخطباءُ فوق منابر القاهرة يدعون: "اللهم انصُرِ السلطانَ ابن السلطان سيد البرين والبحرين، ومحطم الجيشين، سلطان العراقين وحامي الحرمين الشريفين المنتصر الملك سليم شاه، امنحه يا ربَّ العالمين القوة؛ ليسودَ العالم".
وخرج المصلون من صلاتِهم وهُم في ذُهُول؛ لِمَا سمعوه ولم يصدقوا أنفسَهم أنَّهم قد تخلصوا من المماليك الظالمين.
الإسلام هو القومية
من الخطأ التاريخي أن نفسر دخول العثمانيين للعالم العربي من منظورٍ قومي عربي أو بيئي؛ لأنَّ دُعاة القومية العربية قد أرهصوا بأنَّ الوجودَ العُثماني كان لتحقيق السيادةِ العنصرية التركية على العُنصرية العربيَّة، واعتبروه إمبريالِيَّةً واستعمارًا، وهذه النَّعْرَة قد روَّج لها الكُتَّاب المارونيون في الشام، ففي القرن الماضي أدخلوا مصطلحَ العروبة في كتابَتِهم، كدعوة إيديولوجية مستترة لضرب الخلافةِ العثمانية؛ لأنَّها رمزٌ للخلائف الإسلامية الكبرى، وهؤلاء المارونيُّون قد ظاهروا الصليبيين والفرنسيين عند احتلالهم للشام، بل كانوا يُشكِّلون "طابورًا خامسًا" لحساب الأعداء أيام نابليون.
فدخول العثمانيِّين العالَمَ العربي في القرن السادس عشر كان لضرورةٍ فقهيَّة، واستراتيجية دينيَّة وسياسية؛ لأنَّ الإسلامَ لاَ يعرفُ العرقية أو العُنصرية، ولا يقرُّ بالقبلية أو النعرة الإقليمية؛ فأُمَّته أمة واحدة، والعالم الإسلامي كله هو دياره.
وحماية هذه الديار ضِدَّ الكفار فرضٌ على كل مسلم في البوسنة، أو حتى في الإسكيمو، ودفع الضرر عن جماعة المسلمين فرضيَّة جهادية إذا اقتضى ذلك لا تسقط، أو يكفر المسلم عنها.
فلا يُمكن لدولةٍ سُنية عُظمى كالخلافة العثمانية أن تقفَ مكتوفةَ الأيدي؛ لتترك العالَمَ الإسلاميَّ نَهبًا وطَمَعًا للمتربصين به من أعداء الإسلام.
إعلان الخلافة العثمانية
بعدما دخل سليم القاهرة أعلنَ سقوطَ الخلافة العباسية الثانية بها، وأخذ معه الخليفة للأستانة؛ حيث تنازل له عن الخلافة، وفي عام 1538م أعلن السلطانُ سليمان القانوني الخلافةَ العثمانية، ولَقَّبَ نفسَه بخليفة المسلمين، وأعلن أنَّ هذه الخلافة سُنِّيَّة ومذهبها الرَّسْمي المذهبُ الحنفي، كما أعلن الجهاد في سبيل الله، ولَقِيَ هذا الإعلان صدًى واسعًا في كل أرجاء العالم الإسلامي؛ لأنَّ هذا الإعلان كان من صَدرِ قوة، وإحياء للخلافة الراشدية، ولا سيما أنَّ المقدسات الدينية بمكة والمدينة والقدس كانت تحت حماية الخلفاء العُثمانيِّين، وهذا ما أضفى عليهم مكانةً دينية، وعندما أصدر سليمان (قانون نامه) (دستور الدولة العثمانية)، جَعَلَ فيه الشريعة الإسلامية مصدرَ هذه القوانين؛ لهذا طَبَّقَ المذهب الحنفي على أهل الذمة الذي كفل لهم حقوقهم.
فجعل لكلِّ مِلَّة رئيسًا (ملة باشا) يَختاره أهلُ الملة، ويصدر بتعيينه فرمان يُخوِّله الإشرافَ على شئون ملته الشخصيَّة والدينية، وجعل للمسلمين شيخًا للإسلام ومقره الأستانة، ويتبعه كلُّ المُفْتِين وقضاةُ القضاة في كُلِّ الولايات العُثمانية، وهؤلاء يشرفون على المؤسسات الدينية الإسلامية والمساجد والأئمة والمحاكم ودُور العلم.
وأخيرًا، فهذه صورة الخلافة العثمانية في القرن السادس عشر، عندما كانت في أوجِ عظمتها السياسية والاجتماعية والعسكرية، وما كُتب عنها هو شَهَادة حَقٍّ، ولا سيما أنَّها كانت مظهرًا من مظاهر عظمة الإسلام، وهذا لا تدعيه، ولكنَّها الحقيقة الدامغة التي أقَرَّ بها المؤرخون المنصفون لها.
المصدر: موقع الألوكة.