[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
التاريخ ذاكرة الشعوب، وحاستها المنبهة، ومن ثَمَّ فهو أهم عوامل تحريك هذه الشعوب نحو غاياتها، والإدراك الواعي بالتاريخ ليس عملية سهلة أو بسيطة، لكنه أقسى من آلام الميلاد نفسها إن لم يشكل هذا الإدراك وهذا الوعي جديدًا بكل ما يصاحبه من آلام ومن تمخضات.
وربما كان هذا هو السبب في سعي القوى الاستعمارية والعدائية عامة إلى التعتيم على تاريخ الأمة العربية الإسلامية، وإلى العمل على طمس هذا التاريخ وتزييفه، وليست غريبة تلك الأصوات الناعقة بقطع صلتنا بالماضي، بل ووصول بعضها إلى القول بإلقاء تراثنا في البحر ثم تمضي بعد ذلك.
أقول: إن هذه الأصوات -بنيّة أو بغير نية- إنما تخدم مصالح أعداء هذه الأمة حين توصي بإهمالها لتراثها، ومن ثَمَّ لتاريخها.
وأهمية التاريخ الحقيقية تكمن في دراسته واستيعابه؛ لكي نتمكن -على ضوء الإفادة من تجاربه- من تصحيح الحاضر، والاستعداد للمستقبل.
ومعركة الزلاقة التي وقعت في شهر رجب من عام 479هـ الموافق أكتوبر من عام 1086م هي درس التاريخ الذي لا يُنسى، وإنما يدق بقوة على أفئدة وعقول أمتنا العربية الإسلامية لكي ينبهها إلى أن النصر والغلبة ليسا بحاجة إلى كثرة العدد والعدة فحسب، وإنما يجب أن يسبقهما الإيمانُ الكامل بالمبدأ، والاستعداد للتضحية من أجله. ومن ثَمَّ إذا ما توافر عنصر الإيمان واليقين والأخذ بالأسباب، فإن نصر الله قادم لا محالة.. بل هو رهن المؤمنين، فهو القائل : {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
ولنستعرض معًا أيها القارئ الكريم قصةَ تلك المعركة، وظروفها وتطوراتها والنتائج المترتبة عليها..
أحوال المسلمين قبل الزلاقة
شهد القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) قمة التقدم الحضاري والسياسي في بلاد الأندلس، وأضحت قرطبة عروس الغرب، وحكامها خلفاء بني أمية يتمتعون بمكانة عالية، سياسيًّا وعسكريًّا وحضاريًّا، ولم يدر بخلد أحد أن هذا الصراع الذي تسامى عاليًا على عهد المنصور بن أبي عامر كان يحمل في طياته عوامل هدمه وفنائه، فما أن مات المنصور، ومن بعده ابنه عبد الملك، حتى ثار القرطبيون على عبد الرحمن بن المنصور، وبدأت سلسلة من الأحداث الدامية أدَّت في النهاية إلى تمزُّق هذه الدولة تمزقًا يؤلم الصدور..
وقامت في جوانبها خلافات وممالك وسلطنات لا حول لها ولا قوة، بل إن قواها قد وجهت ضد بعضها بعضًا حتى أنهكت القوى واضمحلت الأندلس كما يقول الأستاذ محمد عبد الله عنان: "الصرح الشامخ، الذي انهارت أسسه وتصدع بنيانه، وقد انتقضت أطرافها، وتناثرت أشلاؤها، وتعددت الرياسات في أنحائها، لا تربطها رابطة، ولا تجمع كلمتها مصلحة مشتركة، لكن تفرق بينها، بل على العكس منافسات وأطماع شخصية وضيعة، وحروب أهلية صغيرة تضطرم بينها".
وفي كل ناحية من نواحي الأندلس، قامت دويلة أو مملكة هشة، اتخذ أصحابها ألقاب الخلافة ورسوم الممالك، دون أن يكون لهم من ذلك حقيقته أو معناه، وقال الشاعر واصفًا هذه الحالة المؤسفة:
مما يزهدني في أرض أندلس *** أسمـاء معتضـد فيها ومعتمـدِ
ألقابُ مملكة في غير موضعها *** كالهرِّ يحكي انتفاخًا صورة الأسدِ
وكان تمزق الأندلس على هذا الشكل المأساوي ضرب لكيان الدولة الإسلامية لم تفق منها أبدًا، بل إنها كانت البداية الحقيقية لانحلال الدولة الإسلامية رغم ما انتابها في بعض الأحيان من صحوات ويقظة مدَّتْ في عمرها هنا مئات الأعوام.
واكب هذا الضعف الأندلسي تولي الملك ألفونسو السادس عرش قشتالة، الذي عمل جهده للاستفادة من هذا التدهور الذي أحاط بالدولة الإسلامية هناك، فبدأ باستغلال الصراع الدائر بين هذه الممالك، وأخذ يضرب بعضها ببعض، ويفرض عليها الإتاوات والغرامات حتى يستنفد طاقتها، ومن ثَمَّ تسقط في يده كالثمرة الناضجة.
سقوط طليلطة
مدينة طليطلة، من أهم المدن الأندلسية، تتوسط شبه الجزيرة تقريبًا، وكانت عاصمة القوط قبل الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة، ومن هنا كانت أهميتها البالغة، وبالتالي أصبحت مطمعًا لآمال ألفونسو السادس، وخاصة أن حال المدينة كانت سيئة جدًّا على عهد ملوكها من الطوائف.. وهم أسرة ذي النون.
دبر ألفونسو خطته لغزو المدينة، وأرهب ملوك الطوائف الآخرين وتوعدهم إن قاموا بإنجادها، وحاصرها حتى اضطرها إلى التسليم. ومما يؤسف له وجود قوات ابن عباد ملك إشبيلية ضمن قوات الملك الإسباني، وضد المدينة التي حاولت الصمود أمام مصيرها المؤلم في خريف سنة 477هـ/1085م.
وسقطت طليطلة بأيدي ألفونسو السادس، ونقل إليها عاصمة ملكه، واستتبع سقوطها استيلاءُ الأسبان على سائر أراضي مملكة طليطلة، واستشعر الشاعر فداحة المأساة فهتف يقول:
حثوا رواحلكم يا أهل أندلس *** فما البقـاء بها إلا من الغلـط
الثوب ينسل من أطرافه وأرى *** ثوبَ الجزيرةِ منسلاً من الوسطِ
مَن جاورَ الشَّرَّ لا يأمنُ عواقبَه *** كيف الحياة مع الحيَّاتِ في سفطِ
لقد كان أسوأ ما في مأساة طليطلة أن ملوك الطوائف المسلمين لم يهبوا لنجدتها أو مساعدتها، بل على العكس، لقد وقفوا موقفًا مخزيًا، فاغرين أفواههم جبنًا وغفلة وتفاهةً. بل إن عددًا منهم كان يرتمي على أعتاب ألفونسو السادس، طالبًا عونه، أو عارضًا له الخضوع.. حتى قيل فيهم:
أرى الملوكَ أصابتهم بأندلس *** دوائرُ السوءِ لا تُبقي ولا تذر
وأطمع ذلك الملك ألفونسو السادس بباقي ممالك الطوائف، وانتشت أحلامه بالقضاء عليها الواحدة بعد الأخرى، وتجبر عليهم، وعلا وطغى.. فقام بنقض عهوده التي كان قد قطعها لأهل طليطلة، وحول مسجد طليطلة إلى كنيسة بقوة السلاح، وحطم المحراب ليقام الهيكل مكانه، ويقول ابن بسام في "الذخيرة":
"وعتا الطاغية أوفونش (ألفونسو) قصمه الله، لحين استقراره بطليطلة واستكبر، وأخلّ بملوك الطوائف بالجزيرة وقصر، وأخذ يتجنى ويتعتب، وطفق يتشوق إلى انتزاع سلطانهم والفراغ من شأنهم ويتسبب، ورأى أنهم قد وقفوا دون مداه، ودخلوا بأجمعهم تحت عصاه".
وبدأ ألفونسو في تنفيذ خططه بالإيغال في إذلال الطوائف، وخاصة المعتمد بن عباد أكبر ملوك الطوائف وأشدهم بأسًا، حيث أراد أن يمعن في إذلاله كأقوى أمراء الطوائف، فأرسل إليه رسالة يطلب فيها السماح لزوجته بالوضع في جامع قرطبة وفق تعليمات القسيسين، وقد أثارت هذه الرسالة ابن عباد حتى قيل: إنه قد قتل رسل الملك القشتالي وصلبهم على جدران قرطبة؛ مما أثار غضب ألفونسو السادس وصمم على الانتقام، وبدأت جيوشه في انتساف الأرض في بسائط إشبيلية وفي الأراضي الإسلامية.
الاستنجاد بالمرابطين
تعالت الأصوات في الأندلس تطالب بالارتفاع فوق الخلافات الشخصية، وتناسي المصالح الذاتية، والاستنجاد بالمرابطين الذين نمت قوتهم في ذلك الوقت على الضفة الأخرى من البحر المتوسط.
قام أبو الوليد الباجي وغيره من فقهاء الأندلس بالدعوة إلى التوحُّد، وضرورة الاستعانة بإخوة الإسلام الأفارقة من المرابطين، ولقيت الدعوة صدى عند أمراء الأندلس بسبب ازدياد عنف ألفونسو، ورغم كل التحذيرات التي وجهت إلى المعتمد بن عباد، وتخويفه من طمع المرابطين في بلاد الأندلس، إلا أن النخوة الإسلامية قد استيقظت في نفسه، فأصَرَّ على الاستنجاد بالمرابطين، وقال قولته التي سارت مثلاً في التاريخ: "لأَنْ أكون راعي جمال في صحراء إفريقية خير من أن أكون راعي خنازير في بيداء قشتالة".
وتقول بعض الروايات إن ألفونسو قد وصل في بعض حملاته إلى الضفة الأخرى من الوادي الكبير لإشبيلية. وأرسل رسالة سخرية إلى المعتمد بن عباد يقول فيها: "لقد ألمّ بي ذبابكم بعد أن طال مقامي قبالتكم، واشتد الحر، فهلاّ أتحفتني من قصرك بمروحة أروح بها عن نفسي، وأبعد الذباب عن وجهي؟". وردّ ابن عباد على الرسالة بقوله: "قرأتُ كتابك، وأدركت خيلاءك وإعجابك، وسأبعث إليك بمراوح من الجلود المطلية، تريح منك لا تروح عليك". ويقال إنه كان يقصد بذلك الجيوش المرابطية، ودعوتها إلى الأندلس.
عبور المرابطين
بدأت الجيوش المرابطية العبور من سبتة إلى الجزيرة الخضراء، ثم عبر أميرهم يوسف بن تاشفين في يوم الخميس منتصف ربيع الأول 479هـ/ يونيو 1086م، ثم تحركت العساكر إلى إشبيلية، وعلى رأسهم ابن تاشفين، ونزل بظاهرها، وخرج المعتمد وجماعته من الفرسان لتلقيه، وتعانقا، ودعوَا اللهَ أن يجعل جهادهما خالصًا لوجهه الكريم.
استقر الجيش أيامًا في إشبيلية للراحة، ثم اتجه إلى بطليوس في الوقت الذي تقاطرت فيه ملوك الطوائف بقواتهم وجيوشهم.
سار هذا الموكب من الجيش الإسلامي إلى موضع سهل من عمل بطليوس وأحوازها، ويسمى في المصادر الإسلامية بالزلاقة على مقربة من بطليوس.
معركة الزلاقة
لم تكن أعين الملك القشتالي غافلة عن تحرك الجيوش الإسلامية؛ ولذلك رفع حصاره عن مدينة سرقسطة الإسلامية، وكاتبَ أمراء النصرانية في باقي أنحاء إسبانيا وجنوبي فرنسا يدعوهم لمساعدته، وقدم إلى أحواز بطليوس في جيش كثيف، يقال بأنه حين نظر إليه همس: بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء.
اختلفت الآراء حول عدد الجيشين، لكنها اتفقت جميعها على تفوق ألفونسو السادس في عدد جيشه وعدته، وكانت كل الظروف في صالحه.
جرت الاستعدادات في المعسكرين بكل أشكالها، وبالبحث على الحرب والصبر فيها، وقام الأساقفة والرهبان بدورهم، كما بذل الفقهاء والعباد كل جهودهم.
حاول ألفونسو خديعة المسلمين، فكتب إليهم يوم الخميس يخبرهم أن تكون المعركة يوم الاثنين؛ لأن الجمعة هو يوم المسلمين، والسبت هو يوم اليهود، والأحد يوم النصارى.
أدرك ابن عباد أن ذلك خدعة، وفعلاً جاءت الأخبار بالاستعداد الجاري في معسكر النصارى، فاتخذ المسلمون الحذر، وبات الناس ليلتهم على أهبة واحتراس بجميع المحلات، خائفين من كيد العدو. وبعد مضي جزء من الليل انتبه الفقيه الناسك أبو العباس أحمد بن رميلة القرطبي، وكان في محلة ابن عباد، فرحًا مسرورًا، يقول: إنه رأى النبيَّ ، فبشره بالفتح والشهادة له في صبيحة غد، وتأهب ودعا، ودهن رأسه وتطيَّب.
فلما كان صباح الجمعة الثاني عشر من رجب سنة 479هـ، زحف ألفونسو بجيشه على المسلمين، ودارت معركة حامية، ازداد وطيسُها، وتحمَّل جنودُ الأندلس من المسلمين الصدمة الأولى، وأظهر ابنُ عباد بطولة رائعة، وجرح في المعركة، واختل جيش المسلمين، واهتزّت صفوفه، وكادت تحيق به الهزيمة، وعندئذ دفع ابن تاشفين بجيوشه إلى أتون المعركة، ثم حمل بنفسه بالقوة الاحتياطية إلى المعسكر القشتالي، فهاجمه بشدة، ثم اتجه صوبَ مؤخرته فأثخن فيه وأشعل النار، وهو على فرسه يرغب في الاستشهاد، وقرْعُ الطبول يدوي في الآفاق، قاتل المرابطون في صفوف متراصة ثابتة، مثل بقية أجنحة المعركة.
ما أن حل الغروب حتى اضطر الملك القشتالي -وقد أصيب في المعركة- إلى الانسحاب حفاظًا على حياته وحياة من بقي من جنده، وطُورِدَ الفارُّون في كل مكان حتى دخل الظلام، فأمر ابنُ تاشفين بالكفِّ. استمرت المعركة يومًا واحدًا لا غير - وقد حطم اللهُ شوكة العدو الكافر، ونصرَ المسلمين، وأجزل لديهم نعمه، وأظهر بهم عنايته، وأجمل لديهم صنعه.
وتُجمِع المصادر الإسبانية على أن الملك القشتالي ألفونسو السادس قد نجا بأعجوبة في حوالي خمسمائة فارس فحسب، من مجموع جيوشه الجرارة التي كان سيهزم بها الجن والإنس والملائكة.
سَرَتْ أنباء النصر المبين إلى جميع أنحاء الأندلس والمغرب، وسرى البشرُ بين الناس، وأصبح هذا اليوم مشهودًا من أيام الإسلام، لا على أرض شبه الجزيرة فحسب، وإنما على امتداد الأرض الإسلامية كلها، ونجح ذلك اليوم في أن يمدّ في عمر الإسلام والمسلمين على الأرض الإسبانية ما يقرب من أربعة قرون من الزمان.
نصر مبين.. ونتائج أقل
يعلق يوسف أشباخ في كتابه "تاريخ الأندلس على عهد المرابطين والموحدين" على موقعة الزلاقة بقوله: إن يوسف بن تاشفين لو أراد استغلال انتصاره في موقعة الزلاقة، لربما كانت أوربا الآن تدين بالإسلام، ولَدُرِّس القرآن في جامعات موسكو، وبرلين، ولندن، وباريس.
والحقيقة أن المؤرخين جميعًا يقفون حيارى أمام هذا الحدث التاريخي الهائل الذي وقع في سهل الزلاقة، ولم يتطور إلى أن تتقدم الجيوش الإسلامية لاسترداد طليطلة من أيدي النصارى، خاصة وأن الملك الإسباني كان قد فَقَد زهرة جيشه في هذه المعركة، ولا يختلف أحد في الرأي بأن الطريق كان مفتوحًا تمامًا وممهدًا؛ لكي يقوم المرابطون والأندلسيون بهذه الخطوة.
إن ما حدث فعلاً هو عودة المرابطين إلى إفريقية، وعودة أمراء الأندلس إلى الصراع فيما بينهم، وكأن شيئًا لم يقع، وقد أعطى ذلك الفرصة مرة ثانية للملك ألفونسو السادس أن يستجمع قواه، ويضمد جراحه، ويعمل على الانتقام من الأندلسيين، وكان حقده شديدًا على المعتمد بن عباد، فعاد إلى مهاجمة بلاده، وركز غاراته على إشبيلية، وتمكن من الاستيلاء على حصن لبيط؛ مما اضطر ابن عباد إلى العودة مرة ثانية إلى الاستنجاد بالمرابطين.
وذهب المرابطون للمرة الثانية إلى الأندلس، لكنهم في هذه المرة لم يجدوا مساعدة من معظم أمراء الطوائف المسلمين، حيث تغلبت عليهم شهواتهم وأهواؤهم الشخصية، وخلافاتهم الضيقة؛ مما اضطر أمير المسلمين أن يستفتي الفقهاء في خلعهم، وضم بلاد الأندلس إلى طاعة المرابطين، والعودة مرة ثالثة إلى الجهاد ضد الأسبان.
دروس مستفادة من معركة الزلاقة
- ليس من نافلة القول بأن الانقسام ضعف والوحدة قوة؛ فممالك الطوائف في الأندلس شربت المرارة والمذلة في تفرقها، وأحست بالعزة والنصر في اتحادها.
- ليس بالعدد والعُدَّة فقط تكتسب المعارك، وإنما بالإيمان بالهدف والإعداد له، والتنبه للخصم، والارتفاع إلى مستوى الأحداث.
- قد يكون إحراز النصر شاقًّا ومضنيًا، لكن الأكثر عسرًا وإجهادًا هو استغلال هذا النصر، وتطويعه لصالح الإسلام والمسلمين.
وهذا هو درس التاريخ.
المصدر: مجلة الفسطاط التاريخية.