[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
استطاعالمسلمون بعد معركة عين التمر إخلاء المنطقة الواقعة بين الحيرة ودومة الجندل منأية قوات معادية للمسلمين من الحاميات الفارسية وغيرها, فكيف دارت معركة عين التمروالتي تعد أسرع هزيمة في التاريخ, وما أسباب هذه المعركة؟ وما النتائج والآثارالتي أحدثتها هذه المعركة؟ وما الدروس المستفادة منها؟
المكان:عين التمر - شمال غرب الحيرة - العراق.
الموضوع:جيوش الإسلام بقيادة خالد بن الوليد تقضي على الحاميات الفارسية بالعراق.
الأحداث:
بعد أن فتحالله معظم بلاد العراق للمسلمين، وذلك في أربعين يومًا فقط، وبعد أنفتحت "الحيرة" عاصمة الفرس العربية، وأهم مدينة بالعراق بعد "المدائن"،جاء الأمر من الخليفة "أبو بكر الصديق" "لخالد بن الوليد" أنيتوجه سريعًا لإنقاذ المسلمين المحاصرين في منطقة "دومة الجندل"، وكناقد عرضنا من قبل في أثناء سردنا لبداية الحملة الجهادية لفتح العراق أن الخليفة "أبابكر" قد كلف كلاً من "خالد بن الوليد" من ناحية الجنوب، و "عياضبن غنم" من ناحية الشمال، ليوجد بذلك حالة من التنافس بينهما، حيث جعل من يصلأولاً هو القائد العام، فتقدم "خالد"، وتعثر "عياض" ومن معه،وحوصروا في منطقة "دومة الجندل"، حاصرتهم أعداد ضخمة من القبائل العربيةالموالية للفرس، وكان القائد "خالد بن الوليد" تواقًا لأن يهجم علىالمدائن عاصمة الفرس، لينهي الوجود الفارسي تمامًا في العراق، ولكنه امتثل لأوامرقائده العام الخليفة "أبى بكر".
** النظام والانضباط والجدية، وطاعة أوليالأمر في غير معصية الله U من أهم عوامل النجاح، والله علمأمة الإسلام درسًا عظيمًا في عاقبة مخالفة الأوامر، وذلك يوم أحد، وبين ذلك بقوله : {أَوَلَمَّاأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْهُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].
خطر الحاميات الفارسية:
كانالقائد الحربي "خالد بن الوليد" من الطراز النادر في إدارة العملياتالحربية، بل ربما هو نسيج وحده، فقد رأى قبل التوجه لإنقاذ المسلمين المحاصرين "بدومةالجندل" ضرورة تأمين وضع المسلمين في المدن المفتوحة، خاصة في ظل وجود حامياتفارسية قوية في المناطق المحيطة بمدينة "الحيرة" أهم مدن العراق، وعاصمةالفرس العربية، والتي كان لسقوطها في أيدي المسلمين دويّ كبير في أركان البيتالفارسي، وكانت هذه الحاميات تتركز في منطقتين هما: منطقتا "الأنبار" و"عينالتمر"، وبالفعل قرر "خالد" الهجوم على تلك الحاميات، وإزالةالتهديد الفارسي للوجود الإسلامي بالحيرة.
لميكن "خالد" من القواد الذين ينتظرون المفاجآت، بل كان يعمل دائمًا علىبث عيونه واستخباراته قبل خوض أية معركة، وقد نقل له سلاح الاستطلاع أوضاع المدينةمن حيث موقعها، وموقفها التحصيني، وكانت هذه المدينة شديدة التحصين مما يجعل مسألةالسيطرة عليها أمرًا صعبًا، وذلك لعدة أسباب منها: موقع هذه المدينة على الشاطئالشرقي لنهر "الفرات"، مما يجعل بين المسلمين والفرس حاجزًا مائيًّايهابه المسلمون، ومنها وجود أسوار منيعة حول المدينة، هذا غير وجود خندق عميق متسعيحيط بالمدينة من كل ناحية، ولكن كل ذلك لم يفت في عضد المسلمين وخطتهم الجهادية،وكان معظم أهل المدينة من النصارى، وعليهم قائد فارسي اسمه "شيرازاد"،وقد جعل "خالد بن الوليد" قائدًا على هذه المعركة، وهو الصحابي "الأقرعبن حابس"، رغم أنه ليس من السابقين في الإسلام، ولكنه صاحب كفاءة حربيةممتازة.
**الحكمة تقتضي أن يتولى قيادة العمل من عنده الخبرة والكفاءة اللازمة لذلك العمل،فالأصلح قد يكون ليس هو الأفضل دينيًّا، ولقد علمهم ذلك الرسول عندما ولى "عمرو بن العاص" قيادة جيش فيه "أبو بكر" و"عمر"و"أبو عبيدة" ولم يكن مر على إسلام "عمرو" أربعة أشهر.
ذات العيون:
بدأالمسلمون زحفهم على المدينة الحصينة، فبدءوا أولاً باجتياز نهر "الفرات"على الرغم من فيضان مائه في ذلك الوقت، وعلى الضفة الأخرى كان الرعب مستوليًا علىأهل المدينة، فلم يجرؤ أحد على الخروج من المدينة لصد العبور الإسلامي، وذلكللسمعة الكبيرة للمسلمين وفتوحاتهم السريعة والهائلة في أيام معدودات، والتي جعلتالجميع مكتوفي الأيدي، وبعد أن عبر المسلمون ظهرت أولى محاولات المقاومة عندماقامت مجموعة من أهل المدينة بارتقاء أسوارها، ورشق المسلمين بالسهام، وكان هذاالرمي وبالاً عليهم، إذ اكتشف القائد الفذ "خالد بن الوليد" أن هؤلاءالمقاتلين سذج لا يعرفون شيئًا من فنون القتال والرمي، ولا خبرة لهم بالحرب.
أمر"خالد بن الوليد" كتيبة خاصة في الجيش الإسلامي مكونة من أمهر رماةالعرب برمي المحاربين رميًا واحدًا كثيفًا، ويركزون على عيون المحاربين، وبالفعلانطلقت تلك السهام كالطير الأبابيل، وأصابت هدفها بدقة بالغة، وفقأت قرابة الألفعين، فصاح أهل المدينة جميعًا: "ذهبت عيون أهل الأنبار", وسمي هذا اليومبذات العيون، وصاحوا وماجوا، وعمتهم الفوضى وخرج "شيرازاد" يسأل عنالخبر، فلما علم أسرع لعقد صلح مع المسلمين، ولكنه اشترط شروطًا لا يقرها الإسلامفي الحرب، فلم يوافق "خالد" عليها.
**ليس كل صلح يوافق عليه، وليست كل معاهدة يصدق عليها، دون النظر لأوامر الإسلام،وكم من معاهدة واتفاقية أخذت مطية لسلب الحقوق، واغتصاب الأرض المسلمة، ومااتفاقية "كامب ديفيد" و"أوسلوا" منكم ببعيد.
جسر الجمال:
كانالخندق المائي يمثل مشكلة حقيقية للمسلمين؛ لأنه عميق ومتسع، ويحيط بالمدينة من كلمكان، ولكن ذلك لم يكن ليمنع الأسد الضاري "خالد" صاحب العقلية العسكريةالفذة، حيث قام بالدوران حول سور المدينة لدراسة هذا الخندق جيدًا، حتى وقف عندنقطة معينة من الخندق وتأملها طويلاً، ثم تفتق ذهنه عن فكرة عبقرية، حيث وقف علىأضيق نقطة في الخندق، وأمر بذبح كل الجمال الهزيلة والمريضة، وإلقائها عند هذهالنقطة، فردم تلك النقطة بصنع جسر من الجمال، واستطاع المسلمون أن يعبروا بسهولة،وأصبح الجيش المسلم محيطًا بأسوار المدينة من كل مكان استعدادًا لاقتحامها، فأسرع "شيرازاد"وطلب الصلح من "خالد" بشروط الإسلام، على أن يخرج "شيرازاد" سالمًابأهله وماله إلى مكان آمن، فوفى له "خالد" ذلك الشرط، وأبلغه مأمنه،ودخل المسلمون المدينة وأمن الناس على معايشهم.
**الوفاء بالعهد أصل قرآني حافظ عليه المسلمون في كل موطن، وكان سبب إسلام كثير منالناس.
عندماعاد "شيرازاد" إلى قائد الفرس العام على العراق "بهمن جاذويه"مهزومًا من الأنبار لامه "بهمن" بشدة على مصالحة المسلمين، والتفريط فيهذه المدينة الحصينة رغم ضخامة قواته، وكان "شيرازاد" رجلاً عاقلاًفقال: "إن هؤلاء القوم -يعني أهل الأنبار- قد قضوا على أنفسهم بالهزيمة عندمارأوا جيش المسلمين، وإذا قضى قوم لأنفسهم بالهزيمة كاد هذا القضاء أن يلزمهم",ففهم "بهمن" كلامه واقتنع به.
**وصدق شيرازاد فيما قاله، فإن الهزيمة النفسية هي الهزيمة الحقيقية، هي الهزيمةالتي تحطم القلوب، وتفل العزائم، وتخور معها الهمم، فلا يستطيع صاحبها معها أنيتقدم ولو خطوة واحدة للأمام، بل يظل عمره أسير ضعفه، ورهين وهمه، فهلا تدبر ذلكالمسلمون؟!.
الغرور الصليبي:
كانتالحامية الأخرى متمركزة في مدينة عين التمر، وكانت على طريق "دومة الجندل"تراقب الأوضاع عن كثب، وكانت الحامية الموجودة "بعين التمر" مكونة منقوتين كبيرتين: قوة فارسية بقيادة "مهران بن بهرام"، وقوة عربية نصرانيةمكونة من خليط من قبائل "تغلب" و"إياد" بقيادة "عقة بنأبي عقة"، وكان أحمقًا مغرورًا، دفع ثمن هذا الحمق والغرور غاليًا، حيث طلبهذا الصليبي الحاقد المغرور "عقة" من القائد الفارسي "مهران"أن يخلي الساحة؛ ليقاتل هو المسلمين وحده دون مساعدة من الفرس، وقال له: "إنالعرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالدًا"..
ولناأن نفهم النفسية المريضة التي دفعت "عقة" لهذا الطلب الغريب، فالغروروالحقد والرغبة في الفخر والزهو، وتحقيق الأمجاد بالانتصار على المسلمين، وقائدهم "خالدبن الوليد" صاحب الراية الميمونة، والانتصارات الباهرة, كل ذلك دفع "عقة"لهذا الطلب، بل تمادى في غيه وغروره، وقرر الخروج لقتال المسلمين خارج المدينة, فيالصحراء المفتوحة، كأنه بذلك يسعى لحتفه بقدميه كما يقولون؛ لأن الصحراء المفتوحةهي أصلاً ميدان المسلمين المفضل في القتال، وعندما سمع "مهران" هذاالكلام من "عقة" قال له: "صدقت لعمري لأنتم أعلم بقتال العرب،وإنكم مثلنا في قتال العجم، دونكموهم، وإن احتجتم إلينا أعناكم"، وكان "مهران"قد بيت في نفسه أمرًا، وهو الانسحاب من أمام المسلمين لعلمه أنهم لا يقهرون، وقدانتقد قادة الفرس ذلك الأمر من "مهران" وقالوا له: "ما حملك على أنتقول هذا القول لهذا الكلب" يعنون عقة، فقال لهم "مهران": "دعوني،فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر لهم، إنه قد جاءكم من قتل ملوككم، وفل حدكم،فاتقيته بهم، فإن كانت لهم على "خالد" فهي لكم، وإن كانت الأخرى لمتبلغوا منهم حتى يهنوا، فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم ضعفاء ".
**إن أعداء الدين مهما حاول أحد خدمتهم -ولو بروحه- فلن يعدوا قدره عندهم إلا قدرالكلب، كما قالت الفرس عن أعوانهم من العرب، وهكذا وصل أعداء الإسلام لمآربهمالخبيثة قديمًا وحديثًا على أكتاف طابور طويل من الكلاب، وما أكثرهم!!
أسرع هزيمة في التاريخ:
خرج"عقة" المغرور ومن معه من العرب المتنصرة من المدينة للصدام مع المسلمين،وأوغل في الصحراء غرورًا منه لمبادرة المسلمين بالهجوم، ووصل إلى منطقة "الكرخ"وعبأ قواته النصرانية، ووصل المسلمون إلى أرض المعركة وعبأ "خالد" الجيشبسرعة، واستعد للقتال، ولم يكن "خالد" قد رأى "عقة" من قبل،ونظر إليه نظرة الفاحص الخبير بنفوس المحاربين، فعلم أن هذا الرجل شديد الغرور..
فقررالقيام بحيلة بارعة شجاعة، جريئة في نفس الوقت، وهي خطف القائد "عقة"نفسه في عملية فدائية أشبه ما تكون بعمليات الصاعقة، فانتخب مجموعة خاصة من أبطالالمسلمين، وأطلعهم على الفكرة الجريئة، فوافق عليها الجميع، فالكل أبطال، والجميع "خالد"،وبالفعل انقض "خالد" ومجموعته الفدائية على صفوف العدو -وهم يقدرونبعشرات الآلاف- كما ينقض الأسد على فريسته، وكان "عقة" مشغولاً بتسويةالصفوف، واندهش العدو من هذه المجموعة الصغيرة التي تهجم على عشرات الآلاف، ولميفيقوا من هول الصدمة وإلا و"خالد" قد أسر "عقة" وحمله بينيديه كالطفل الصغير وعاد به إلى صفوف المسلمين، وعندها تجمدت الدماء في عروق العربالمتنصرة، وركبهم الفزع الشديد، ففروا من أرض المعركة دون أن يسلوا سيفًا واحدًافي أسرع هزيمة في التاريخ.
واصلالمسلمون سيرهم بعد هذه الضربة الخاطفة حتى وصلوا إلى أسوار المدينة، وكان "مهران"وحاميته الفارسية قد عرفوا بما حل للمغرور "عقة" ومن معه، ففروا هاربينتاركين أعوانهم النصارى لمصيرهم المحتوم, عندها أسقط في يدالنصارى في المدينة فأرسلوا لطلب الصلح مع خالد، ولكن "خالدًا"علم أن هؤلاء الذين يطلبون الصلح هم المحاربون الذين انهزموا في أرض المعركة وهمبالتالي لا يستحقون الأمان والصلح، وإنما أجبرهم على ذلك قرب أجلهم، ودنوا هزيمتهم..
فرفض"خالد" الصلح معهم، إذ لا أمان مع هؤلاء الخونة الكفرة، الذين باعواأنفسهم للمشركين الأصليين عباد النار، وقاتلي بني جلدتهم وأهل كتاب مثلهم، لا لشيءإلا بدافع الحقد والحسد، أصر "خالد" على عدم الصلح حتى ينزلوا على حكمه،وهذا معناه في عرف الحروب أن يكون "خالد" مخيرًا في فعل أي شيء معهم:يقتلهم، يسبيهم، يعفو عنهم، المهم أنهم تحت حكمه وأمره، فلما يئس المتنصرة من نجدةالفرس لهم نزلوا على حكم "خالد بن الوليد"، فألقى القبض على جميع منيقدر على حمل السلاح ثم حكم في الحال بإعدام المحاربين، وبدأ بزعيمهم الأحمق "عقة"وسبى الذرية والأموال.
**ليس في ذلك قسوة ولا غدر كما يظن البعض ممن يتعاطفون مع المنهزم وينسون إجرامه،فما حدث لهم جزاء وفاقًا لهؤلاء المحاربين الذين خرجوا وفي نيتهم استئصال المسلمينبدافع من الحقد الصليبي المحض، كما أن هذا الحكم هو حكم الله كما حدث يوم أن حكم الصحابي "سعد بن معاذ" بنفس الحكم على إخوانهم فيالحقد والشقاء يهود بني قريظة، فقال الرسول r: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات".
وقدوجد المسلمون بمدينة "عين التمر" كنيسة يتعلم فيها أربعون صبيًّا الإنجيل،فلم يتعرض لهم "خالد" بالقتل، بل اعتبرهم من جملة السبي، وذلك من عدل الإسلام،فلم يأخذ هؤلاء بجريرة بني جلدتهم المقاتلين، وكان من بينهم شاب اسمه "نصير"هو أبو الفاتح الكبير "موسى بن نصير" فاتح الأندلس، وأيضا "سيرين"أبو عالم زمانه، ومفتى الأمة في عصره "محمد بن سيرين".
**وبتلك المعركة استطاع المسلمون إخلاء المنطقة الواقعة بين الحيرة ودومة الجندل منأية قوات معادية للمسلمين، وهي مساحة تقدر بخمسمائة كيلومتر مربع.
المصادر:
-تاريخ الرسل والملوك.
-تاريخ الخلفاء.
-فتوح البلدان.
-المنتظم.
-محاضرات في الأمم الإسلامية.
-الكامل في التاريخ.
-البداية والنهاية.
-موسوعة التاريخ الإسلامي.
-التاريخ الإسلامي.
-الخلفاء الراشدين.
المصدر:موقع مفكرة الإسلام.