[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
مع تأخر النصر في سوريا، وأمام قوافل الشهداء، ومناظر الأشلاء، وشلالات الدماء، وتغوُّل النظام النصيري في إجرامه ووحشيته، وانكشاف التخاذل العربي عن نصرة المستضعفين، وافتضاح التواطؤ الدولي على إجهاض الثورة السورية - أخذ اليأس يتسلل إلى القلوب، وبدأ الملل يسري إلى النفوس، ووصل الأمر بكثير من الناس إلى سوء الظن بالله، وأنه لا ينصر أولياءه، ولا ينتقم من المظلوم للظالم، وأن المسلمين محكوم عليهم بالذلة والهوان الدائم..!
لذلك فقد بتنا بأمسّ الحاجة لقراءة ما يجري وفق سنن الله وقوانينه الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير، ووجب علينا أن نجري مراجعة لحقيقة الإيمان الذي نعتنقه، ونفهم طبيعة الصراع بين الحق والباطل وموقف المؤمن منه، وحقيقة الانتصار فيه. ولعل أقرب حدث مشابه لما يجري على أرض سوريا اليوم ما قصَّه لنا القرآن مجملاً عن أصحاب الأخدود، وبينه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مفصلاً في حديث الغلام والراهب والساحر، حيث يمكننا أن نعقد بين الحدثَيْن جملة من المقارنات ونستلهم منها الدروس والعبر:
1- الدرس الأول: أنه حيث كان الإيمان كان البلاء والامتحان، كضريبة لا بد منها؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3]. وقال صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى المرء على قدر دينه».
وهكذا رأينا أصحاب الأخدود حين أعلنوا إيمانهم بالله وكفرهم بالساحر والملك يواجهون الموت حرقًا بالنار، وحين أعلن سحرة فرعون إيمانهم برب هارون وموسى كان الصلب وتقطيع الأيدي والأرجل بانتظارهم، وها هو التاريخ يعيد نفسه مع أهل الشام، فما إن أعلنوا تحررهم من العبودية لغير الله، إلاّ وقد أحاط بهم البلاء من كل جانب.
2- الدرس الثاني: أن المعركة بين المسلمين والكفار هي أولاً وأخيرًا معركة عقيدة، وإن تلبست بلبوسٍِ من أنواعٍ مختلفة، لكنها تبقى معركة عقيدة، قد يظن بعض الناس أن الخلاف بين المسلمين والكفار معركة اقتصادية، أو معركة عسكرية، أو معركة سياسية.. لا، ولا شيء من هذا.. المعركة حقيقةً بين المسلمين وأعدائهم هي معركة عقيدة، قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8].
وإلا فلماذا ذُبح المسلمون في البوسنة والهرسك وفي آسام الهندية وفي جزر الملوك، ويُذبحون اليوم في بورما وسوريا؟ ولماذا وقوف شيعة العالم كلهم باستثناء أفراد قلائل مع الطاغية الظالم ضد المستضعف المظلوم على النقيض مما يتشدقون به من ترسمهم ثورة الحسين وأنها ثورة المظلوم على الظالم، فبات عندهم النظام السوري هو المظلوم والشعب هو الظالم؟!!
3- الدرس الثالث: أخلاق الطغاة في مواجهة المؤمنين على مدى التاريخ واحدة: التهديد والوعيد والتصفية الجسدية، والإبادة الجماعية، والإحراق بالنار في صور لا تصدر حتى من الوحوش الضواري، فما يفعله طواغيت سوريا اليوم ليس غريبًا ولا جديدًا، بل هو دأب الطواغيت في مواجهة كل من يفكر أن يتخلص من العبودية لهم وإعلان العبودية لله.
4- الدرس الرابع: أوهام الطغاة واحدة، فالملك ظنَّ أن إحراق الناس بالنار يرعبهم ويردهم عن إيمانهم ويعيدهم إلى حظيرة العبودية له، لكن خاب ظنُّه وآثر الناس الموت حرقًا على العودة إلى الكفر، وأنطق الله الطفل الرضيع مثبِّتًا لأمه في المضي قدمًا على اختيار الموت حرقًا، وعدم العودة إلى الكفر..
وها هو النظام النصيري الغاشم يشق الأخاديد ويذبح الأطفال ويدفن الناس أحياء ويهدم البيوت فوق رءوس أصحابها، فما زاد ذلك الناس إلا إقدامًا على الموت، وإصرارًا على الكفر به وبحزبه.
5- الدرس الخامس: في إشادة القرآن الكريم بما فعله أصحاب الأخدود وتخليده لذكرهم إلى يوم القيامة، وتنويه النبي صلى الله عليه وسلم بما فعلته المرأة وطفلها الرضيع من اختيار الموت على العودة إلى طاعة الملك - تزكية لإصرار الشعب السوري على نيل حريته والانعتاق من حكم الطغاة الظلمة، مهما بلغت التضحيات وغلا الثمن، بل حتى لو أُبيد الشعب السوري كله، كما حلَّ بأصحاب الأخدود.
6-الدرس السادس: أن الانتصار الحقيقي هو انتصار العقيدة والدين حتى لو لم يحصل انتصار مادي على الكفار، فالفئة المؤمنة في قصة الأخدود تعرضت لإبادة جماعية، وبالميزان المادي حقق الملك نصرًا ساحقًا عليهم وظل متشبثًا بملكه، لكن بميزان الله انتصرت الفئة المؤمنة حين ثبتت على إيمانها وتوحيدها، وفازت فوزًا عظيمًا، قال تعالى في ختام القصة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 11].
إذن الفوز الكبير ليس بهزيمة الكفار الهزيمة المادية، بل بالتمسك بالتوحيد والثبات عليه وما يترتب على ذلك من الحصول على مرضات الله ودخول الجنة.
وهنا نقول لإخوتنا السوريين: إنكم انتصرتم يوم حطمتم أصنام الطواغيت، وأعلنتم الكفر بحزب البعث الملحد، ورفضتم تأليه الأسد وأسرته، بهذا وحده حققتم الهدف الذي من أجله خلقكم الله، بل وخلق له الخليقة كلها وهو عبادة الله وحده والكفر بكل ما يُعبد من دون الله.
أما قضية الانتصار المادي على الطاغوت فهذا لا شك هدف، لكنه هدف ثانوي وهو ليس بأيديكم، ولا بأيدي أي قوة في العالم، بل هو بيد الله وحده، إنْ تحقق فذاك فضلٌ من الله، وإن لم يتحقق لحكمةٍ يريدها الله، فليس في الأمر أي خسارة، ولا يضيع الله عمل عامل، قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُم} [محمد: 4-6].
فلتهنأ أم الشهيد، وليطمئن من فَقَد أحبابه، ومن أُسر ابنه، ومن هدم بيته، ومن ضاعت دنياه أنّ الله لن يضيعهم.
7- الدرس السابع: أن علينا جميعًا أن نعمل للإسلام دون انتظار للنتيجة، فهذا الغلام دلَّ الملك على طريقة قتله، واستسلم للموت طائعًا مختارًا، بل متلهفًا مشتاقًا، وكان يعلم جيدًا أنه سيموت قبل أن تقرَّ عينه بإيمان أهل البلدة، لكن حسبه أنه يبذل ما يقدر عليه، والمطلوب هنا روحه فِدًى للدين وإرضاء لله سبحانه، ويكفيه أن يفوز بالجنة التي هي قمة درجات الفوز.
وهكذا نقول لكل المجاهدين في سوريا والثائرين على نظام البغي والطغيان: لا تعملوا من أجل أن تروا النصر بأعينكم، بل اعملوا ليرضى عنكم ربكم، وارضوا بكل ما يحلّ بكم من سجن وقتل وبلاء، ما دام ذلك في سبيل الغاية العظمى وهي دخول الجنة. ثم إن أقر الله عيونك بسقوط الطاغية بشار وتحقق النصر فبها ونعمت، وإن لم يحصل ذلك فاطمئنوا أنّ ربكم الرحمن الرحيم لن يضيع جهدكم وجهادكم، ولكم في الغلام وأصحاب الأخدود أبلغ عظة وعبرة.
المصدر: موقع المسلم.