[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
سلَّطت الثورة السورية الأضواء مجددًا على المشكلة الكردية، فأكراد سوريا كانوا محط اهتمام المعارضين والسلطة وكذلك الإعلام على السواء، بينما كانوا هم يحسبون حساباتهم بعيدًا، وينظرون إلى الأمور بحذر شديد، غير متناسين ماضيهم المؤلم ومعاناتهم في ظل النظام البعثي القمعي، وغير مستسلمين لما ستسفر عنه الأمور بعد انقضاء الأزمة السورية الراهنة، سواء استمر نظام الأسد أو سقط مثلما سقط النظام في تونس ومصر ومؤخرًا ليبيا، التي تشابه الوضع فيها نوعًا ما مع الوضع في سوريا.
تعود بداية المشكلة الكردية في سوريا إلى سنوات الوحدة بين مصر وسوريا، وهي الوحدة التي قامت على أساس القومية العربية، فقبل هذه الوحدة التي لم تستمر ثلاث سنوات، كان الأكراد في سوريا جزءًا من الشعب ينتشرون في معظم أنحاء سوريا، يعيشون معًا دون تفرقة، ويشاركون بقية السوريين في كل شيء، وكان لهم دور في قيادة المعارك ضد الاحتلال الفرنسي، وممن قاد المعارك البطل الكردي إبراهيم هنانو الذي كان أحد أبطال الثورة السورية ضد "المستعمر" الفرنسي، كما كانوا يتمتعون بكافة الحقوق السياسية دون أي تمييز، حتى وصلوا إلى رئاسة الجمهورية، وممن صار رئيسًا فوزي السلو (1951-1953م)، وحسني الزعيم الذي حكم سوريا لمدة 137 يومًا عام 1949م.
عندما تعالت نعرات القومية العربية، وتمت الوحدة بين مصر وسوريا على هذا الأساس القومي، شعر الأكراد بالخطر على قوميتهم الكردية، واستدعت القومية العربية النزعة القومية لدى الأكراد في سوريا، واتخذوا موقفًا سلبيًّا من الوحدة بين مصر وسوريا؛ مما أغضب القوميين العرب في سوريا، وتشدد القوميون العرب في نظرتهم تجاه الأكراد.
وعلى الرغم من السقوط المبكر للوحدة بين مصر وسوريا بعد ثلاث سنوات فقط، إلا أن الحكومة البعثية وفي عام 1962م قامت بعمل إحصاء استثنائي، وحرمت أكثر من سبعين ألف كردي سوري من الجنسية السورية -بلغ عددهم الآن ربع مليون كردي بلا جنسية- فباتوا أجانب في بلدهم، وبرزت ظاهرة "المكتومون" أو "البدون" وهم هؤلاء المحرومون من الجنسية وذريتهم، وبالتبعية هم محرومون من حقوق التملك والتعليم والتقاضي والعمل والصحة... إلخ.
في السبعينيات نفَّذ النظام البعثي مشروع الحزام العربي، حيث تم تفريغ الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا بعمق 10 إلى 15 كم من سكانه الأكراد، وتوطين عرب بدلاً منهم؛ للفصل الجغرافي بين أكراد سوريا، والأكراد في خارج سوريا، كما استولى خلال بناء سد الفرات وتنفيذ مشروع إعادة توزيع الأراضي الزراعية على أراضي الفلاحين الأكراد وتمليكها لفلاحين عرب، رافق ذلك محاولات مستميتة لطمس الهوية الكردية، ومحاولة دمج الأكراد كأفراد ضمن التيار القومي العربي، حيث تم قمع الحركة السياسية الكردية واعتقال النشطاء الأكراد، وحرمان الأكراد من التحدث بلغتهم الخاصة، حتى إنه تم استبدال الأسماء العربية لبعض القرى والبلدات السورية بالأسماء الكردية.
هذه السياسات الدكتاتورية الممنهجة أدت إلى حدوث أزمة كبيرة مع الأكراد، حيث عانى الأكراد أشد المعاناة من وجود هذا النظام الدكتاتوري، ومع أن قمع النظام لم يكن خاصًّا بهم وحدهم، إلا أنه كان بالنسبة لهم مضاعفًا، وإذا كان الشعب السوري قد ضاق ذرعًا من المعاناة والقمع فقرر الثورة على النظام، وقدَّم ثمنًا باهظًا جدًّا لأجل إسقاطه، ولا يزال يصر على تحقيق هدفه ونيل بغيته رغم كل الجرائم التي حدثت خلال أشهر الثورة، فكيف إذن معاناة الأكراد المحرومين حتى من جنسيتهم وأبسط حقوقهم في التعليم والعلاج؟!
ومع ما تعرض له الأكراد من ظلم على أيدي النظام، إلا أن بعض الأحزاب الكردية كانت سببًا أيضًا في معاناة الأكراد، حيث تتميز هذه الأحزاب بالنزعة الانفصالية وموالاة بعض الزعماء الأكراد خارج سوريا، وبعض هذه الأحزاب يعمل داخل سوريا كتابِعٍ لأحزاب كردية أخرى في المنطقة. مثال على ذلك الحزبُ الديمقراطي التقدمي الكردي والحزب الديمقراطي الكردي اللذان يتبعان مباشرةً حزبَي مسعود البرزاني وجلال طلباني في كردستان العراق، وحزبُ الاتحاد الديمقراطي الذي يُعتَبَر الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا.
اندلعت الثورة السورية، وسقط الشهداء والجرحى، وكان المسلمون العرب السُّنَّة هم وقود هذه الثورة وحدهم، ولا يزالون هم وقودها حتى الآن، ولكن الأنظار بدأت تتجه نحو الأقليات، وخاصة الأكراد، انخرط بعض الأكراد في الثورة بعد عدة أسابيع من انطلاقها؛ أملاً في التخلص من هذا النظام، وانضمت بعض الأحزاب الكردية والتيارات الشبابية إلى قوى المعارضة السورية، حيث انضم البعض إلى هيئة "إعلان دمشق"، وانضم تيار المستقبل الكردي بزعامة مشعل تمو إلى المجلس الوطني السوري، فيما شكل آخرون "المجلس الوطني الكردي".
لم يرق للنظام السوري انضمام الأقلية الكردية التي تشكل 6% من الشعب السوري إلى الثورة؛ لأن انضمام الأقليات للثورة قد يدفع الأقلية العلوية التي ينتمي إليها إلى اللحاق بركب الثورة؛ حتى لا تجد نفسها وحيدة في مواجهة ثورة شعبية تحظى بقبول كافة الأطياف السورية. حاول نظام بشار الأسد إخراج الأكراد من الثورة، وتحييدهم في هذا الصراع بينه وبين الشعب السوري العربي السني؛ حيث بدأ في اتخاذ بعض الإجراءات لتنفيذ بعض مطالبهم، والتي يأتي في مقدمتها حصول أكثر من ربع مليون كردي على الجنسية السورية، وعندما فشل الإغراء، لجأ النظام السوري إلى لغة القوة معهم، حيث اغتال الناشط الكردي مشعل تمو الناطق باسم تيار المستقبل الكردي في مدينة القامشلي السورية، وكان اغتياله رسالة إلى الأكراد في سوريا بأن القادم أصعب، إذا لم يتراجعوا عن تأييد الثورة.
استمر الأكراد في مشاركتهم المتواضعة في الثورة السورية، ولكن الأحزاب الكردية قررت الانسحاب من التجمعات السورية المعارضة، والتوحد ضمن تكتل كردي موحد، حيث تم تشكيل المجلس الوطني الكردي؛ وذلك للتفاوض بشكل موحد مع قوى الثورة السورية المختلفة، بخصوص حقوق ومطالب الأكراد، بحيث يتم التحالف مع القوى الأكثر استعدادًا لإعطاء الأكراد حقوقهم وتنفيذ مطالبهم ومن ذلك حق تقرير المصير، على أن ينص الدستور الجديد على هذه الأمور. وتم عقد اجتماع للأحزاب السياسية الكردية في أربيل بإقليم كردستان العراق، حضره مسعود البارزاني رئيس الإقليم، وممثلون عن المجلس الوطني السوري، أكد الأكراد فيه على مشاركتهم في الثورة، وشددوا على أهمية حصولهم على حكم ذاتي في المناطق التي يمثلون أغلبية فيها.
اجتماع الأحزاب الكردية في إقليم كردستان العراق، والحديث عن حكم ذاتي في هذا الوقت الذي يسقط فيه يوميًّا أكثر من مائة شهيد مؤشر خطير، يدل على زيادة نزعة انفصالية لدى هذه الأحزاب، تسعى لاستغلال هذه الثورة للوصول إلى ذلك، والغاية الكبرى من ذلك معروفة وهي إقامة دولة مستقلة للأكراد في شمال العراق وسوريا وجنوب تركيا وإيران، وإن وجود حكم ذاتي لإقليم كردستان العراق والوجود العسكري القوي نسبيًّا لحزب العمال الكردستاني في شمال العراق وقيامه بعمليات كبيرة نسبية ضد الجيش التركي، قد يعزز هذه النزعة الانفصالية.
النظام السوري قد يلجأ إلى استغلال هذه النزعة الانفصالية لدى بعض الأحزاب الكردية السورية كسلاح ضد تركيا، بحيث يهددها بإثارة النزعة الانفصالية لدى أكراد تركيا، وإثارة العديد من المشاكل لتركيا، في حال مشاركة تركيا في أي تدخل عسكري ضد النظام السوري، وقد هدد سابقًا بحرق المنطقة بأكملها مستغلاًّ كل الأوراق التي يمكنه اللعب بها في ست ساعات فقط، وكان هذا الكلام موجهًا إلى وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، فهو اليوم لا يجد له نصيرًا سوى روسيا وإيران وحزبها في لبنان، ولا شك أنه سيلجأ إلى أي شيء قد يمكِّنه من البقاء في السلطة، حتى ولو عن طريق إغراء الأكراد بحكم ذاتي في شمال سوريا، وهو ما قد يدفع البعض للقبول بهذا العرض.
النظام السوري قد يلجأ إلى تسليح بعض الأكراد الذين يرغبون في الانفصال، وتوجيههم لتنفيذ عمليات عسكرية داخل الأراضي التركية، وقد كانت سوريا تستضيف سابقًا الزعماء الأساسيين لحزب العمال الكردستاني، ولم تطردهم سوريا إلا بعد تهديد تركيا بالتدخل العسكري، إذ تذكر التقارير الإخبارية أن ما يفوق الـ ٢٠٠٠ فرد من ميليشيات الحزب هي من سوريا وأبرز قادتها نورتين صوفي وباهوز أردال من سوريا، فقد يستغل النظام السوري هذه العلاقات الجيدة مع الحزب الانفصالي -الذي لم يطلق رصاصة واحدة ضد النظام السوري رغم معاناة الأكراد في سوريا- وتقديم الدعم له ولأكراد سوريا لتنفيذ عمليات داخل تركيا، بحيث تنكفئ على ذاتها ولا تتدخل في الشأن السوري.
يعزز من إمكانية استغلال النظام السوري لبعض الأكراد ضد تركيا، بعض التصريحات التي يدلي بها السياسيون الأكراد، فقد صرح شفكر هوفاك عضو اللجنة المركزية في الحزب الديمقراطي الكردي، حيث رفض فكرة المنطقة العازلة معتبرًا أنها مخطط تركي وإخواني يهدف إلى عسكرة المنطقة الكردية، وأنهم سيقاومون كل المخططات التركية والإخوان المسلمين، معتبرًا "أن لا مصلحة للأكراد في أن تمر هذه المنطقة العازلة من مناطقهم التي لم يدخلها جندي تركي منذ نحو مائة عام، بهدف البقاء والاحتلال أو عسكرة المنطقة الكردية". وفي نبرة تظهر النزعة الانفصالية قال: "لا تتناسب العسكرة مع القامشلي، فهناك إدلب وحماة واللاذقية أمام من يريد التدخل العسكري برًّا وبحرًا".
إن الظرف الراهن وكذلك معاناة الأكراد على نصف قرن من الزمان، تقتضي من المعارضة السورية أن تولي هذه القضية وشركاء الوطن بعضًا من اهتمامها، وتسعى لاحتضان الطائفة الكردية، واجتذابها نحو المعارضة وسحب البساط من تحت أرجل النظام لمنعه من استغلالهم، والاعتراف بأن الأكراد عانوا كثيرًا خلال العقود الخمس الماضية، أضعاف ما عاناه بقية الشعب السوري، والاعتراف بأن لهم حقوقًا يجب أن يحصلوا عليها فورًا وبمجرد سقوط النظام السوري، وأول هذه الحقوق إعادة تجنيس نحو ربع مليون كردي بالجنسية السورية، إضافةً إلى تعويضهم عن الأراضي التي تم نزعها منهم أو على الأقل الاعتراف بحقهم في ذلك ويكون التنفيذ لاحقًا، وإلغاء كافة الإجراءات والقرارات وتعديل كافة القوانين الاستثنائية ضد الأكراد.
التأكيد على مبدأ المواطنة والاعتراف رسميًّا -وبنص الدستور إن كان لذلك ضرورة- على أنهم مكون رئيسي من مكونات المجتمع السوري، وضمان مشاركتهم في كافة الإدارات والمؤسسات في الدولة بدءًا من الإدارات المحلية إلى أعلى المناصب، وكذلك حصولهم على كافة حقوقهم السياسية ضمن الحركة الوطنية السورية، بلا تمييز أو إقصاء وحسبما تقتضيه اللعبة الديمقراطية، ومحاولة دمج الأكراد في الحركة الوطنية والأحزاب السورية ليس بكونهم أكرادًا بل مواطنين سوريين.
وفي مقابل هذه الحقوق التي يجب أن يحصل عليها المواطنون الأكراد، فإن عليهم أيضًا أن يثبتوا ولاءهم الوحيد للدولة السورية، وقطع كافة العلاقات مع الأحزاب الانفصالية والميليشيات العسكرية، والابتعاد عن مطالب الانفصال والحكم الذاتي، والاندماج في المجتمع السوري كمواطنين كاملي الأهلية؛ فالخشية كل الخشية من استغلال الأكراد والأحزاب الكردية خصوصًا للديمقراطية والحرية والحقوق التي يحصل عليها الأكراد لتعزيز النزعة الانفصالية، مثلما فعل أكراد تركيا عندما انقلبوا على أردوجان بعدما أتاح لهم قدرًا من الحرية عبر مشروع الانفتاحة الكردية.
المصدر: موقع مفكرة الإسلام.