[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
قد تكون تلك القصة مجهولة لكثير من المسلمين الآن لكنها تعبر وبجلاء عن النفسية الغربية عمومًا، والأوربية خصوصًا تجاه العالم الإسلامي، وكم الحقد والبغضاء والكراهية التي تملأ صدور الأوربيين وتغذيها الموروثات التاريخية والمتعاقبون على كرسي البابوية منذ مئات السنين.
- "مورو مالو" هو الاسم الذي يطلقه الأسبان على المغاربة المسلمين الساكنين لمدينتي سبتة ومليلة المحتلتين من قبل الأسبان منذ مئات السنين، وهي تسمية مأخوذة من كلمة "موريسك" التي تشير في التاريخ الإسباني إلى بقايا المسلمين من عهد سقوط الأندلس، وهي تعني باللغة الإسبانية القديمة المعروفة بالقشتالية، صاحب الوجه العابس أو الوجه الكالح؛ تحقيرًا وازدراءً للعرب والمسلمين، الذين بقوا في الأندلس بعد سقوط غرناطة سنة 897هـ/ 1492م، ثم إنهم أضافوا كلمة أخرى هي "مالو" التي تعني الشرير، ليصبح معنى عبارة "مورو مالو" هو المسلم الشرير، ليعكس هذه التسمية وهذا الوصف عن الخلفية الدينية الثابتة في النظرة الإسبانية إلى المسلمين في كل بقاع العالم وليس في المغرب وإسبانيا فقط، وتبقى مشحونةً بكل نزعات الكراهية نحو الإسلام والمسلمين.
سبتة ومليلة.. أقدم احتلال في التاريخ
- إن سبتة ومليلة، مدينتان مغربيتان ضاربتان جذورهما في عمق التاريخ العربي والإسلامي؛ فمغربيتهما ليست فقط من الناحية الجغرافية، فرغم أنهما امتدادٌ طبيعي للأراضي المغربية، إلا أنه هناك عوامل تاريخية تشهد بعروبة المدينتين وبتبعيتهما لدولة المغرب، وقضيتهما من صميم قضايا العرب والمسلمين في المنطقة، خاصة وأن الاحتلال الإسباني لهما هو الأقدم في التاريخ الحديث والمعاصر.
- تقع مدينة سبتة في أقصى شمال المغرب على الساحل، وتبلغ مساحتها 19 كيلو مترًا، وطولها من الشرق إلى الغرب 1000م، ومن الشمال إلى الجنوب 1500م، مقابل شبه جزيرة جبل طارق تمامًا، وهي تتمتع بموقعٍ استراتيجي متميز، لذلك سيطر عليها الرومان في عام 42 بعد الميلاد، وهم الذين أنشئوها على أصح الروايات، وبعد ذلك بنحو 400 عام طردت قبائل الوندال الرومان من المدينة، ثم سيطر عليها البيزنطيون ثم القوط الغربيون القادمون من إسبانيا، ثم فتحها المسلمون وانطلقوا منها إلى فتح الأندلس.
وقد ساهمت سبتة من خلال علمائها في خدمة الفكر الإسلامي، فكانت خلال القرنين السادس والسابع الهجري من أهم مراكز الحركة العلمية في السواحل المغربية، وبخاصة أن هذه المدينة أنجبت أكبر شخصية علمية مغربية هو القاضي "عياض" الذي وُلد سنة 476هـ، وقال عنه المؤرخون: لولا القاضي عياض لما ذُكر المغرب. كذلك الشريف الإدريسي المتوفى سنة 562هـ، أشهر شخصية علمية في تاريخ الجغرافيا، وهو الذي وضع أول خريطة رسم فيها العالم، ومن أهم مؤلفاته كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق".
أما مدينة مليلة فتقع على الساحل الشمالي الشرقي للمغرب على البحر المتوسط، وكانت تشتهر بإنتاج كمية كبيرة من العسل، ومنه اشتق اسمها مليلة الذي يعني العسل في لغة الأفارقة، وهناك مَن يذكر أن العسل باللغة البربرية يعني "تامنت". ومليلة تحريف عربي لكلمة تامليلت بمعنى موقع مدرج، وقد كانت مليلة مبنية على منحدر مدرج.
- لعبت المدينتان دورًا مهمًّا في تاريخ الفتوحات الإسلامية، فكانت مدينة سبتة إحدى أهم المدن التي فتحها المسلمون الأوائل، وانطلقوا منها إلى الأندلس، فعندما فتح المسلمون بلاد المغرب بقيادة موسى بن نصير وطارق بن زياد، تحوَّلت سبتة إلى قلعة للجهاد، ومنها انطلق الجيش الإسلامي نحو الأندلس، فقاد طريف بن مالك في عام 91هـ أول سرية إسلامية إلى الأندلس، وعن طريقها مر القائد المسلم طارق بن زياد للأندلس عبر الجبل الذي يحمل اسمه حتى اليوم (جبل طارق) عام 92هـ/ 711م، وبعده بعام واحد نزل موسى بن نصير أيضًا بها قبل أن يدخل الأندلس عبر الجبل الذي يحمل اسمه حتى الآن (جبل موسى).
وقد نالت مدينة سبتة حظوةً كبيرةً زمن المرابطين، وأصبحت سبتة خلال عصرهم من أهم مراكزهم الحربية، وأقام فيها يوسف بن تاشفين مدةً من الزمن، ليتمكَّن من أن يتابع بنفسه الإشراف على الجيش الإسلامي ونصرة إخوانهم في الأندلس، ومنها هبَّ يوسف بن تاشفين لإغاثة ملوك الطوائف عندما اشتدَّ عليهم قتال الصليبيين عام 430هـ/ 1083م، كما مر منها عبد المؤمن بن علي الموحدي -صاحب الفضل في توحيد المغرب الإسلامي- عام 556هـ/ 1161م، وأبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن عام 580هـ/ 1191م في طريقهما إلى الأندلس، وأقام فيها الموحدون أسطولاً بحريًّا قويًّا، ثم استمرت هذه المدينة مركز الجهاد تؤدي دورها كثغرٍ من ثغور الإسلام.
- تعود بداية سقوط المدينتين تحت الاحتلال الإسباني إلى ضعف إمارة بني الأحمر في غرناطة في القرن الخامس عشر الميلادي، حين بدأ الخلاف يدب بين أمراء المسلمين في الأندلس، وصاح فوق كل غصن ديك بتعبير لسان الدين بن الخطيب في وصف حالة الاقتتال بين الأمراء، فانتهز زعماء قشتالة -إسبانيا حاليًا- الفرصة للقضاء على الوجود الإسلامي في هذه البقاع الإسلامية، فيما سُمِّي بحروب الاسترداد، وكانت غرناطة آخر هذه القلاع التي سقطت عام 1492م.
والمعروف تاريخيًّا أنه بعد سقوط الأندلس، أطلق بابا الفاتيكان يد إسبانيا في الساحل المتوسطي للمغرب، والبرتغال في الساحل الأطلسي، وعلى حين سقطت سبتة في يد البرتغاليين عام 1415م، بقيادة الأمير هنري الملاح الذي كان يهدف إلى القضاء على نفوذ المسلمين في المنطقة ونشر المسيحية، وأحرق الأسطول البرتغالي مساجد سبتة وحوّلها إلى كنائس، وأحرقت كتب من كانت تعتبر أهم مراكز الحركة العلمية في السواحل المغربية. في حين بقيت مليلة تقاوم جيوش الأسبان حتى سقطت عام 1497م، في إطار خطة عامة للأسبان والبرتغاليين لمحاصرة أقاليم الغرب الإسلامي واحتلال أراضيه، ومن ثَم تحويلها إلى النصرانية؛ عملاً بوصية ملكة إسبانيا إيزابيلا الكاثوليكية التي كانت تعتبر نفسها ألد أعداء المسلمين، والتي نصَّت على ضرورة قيام الكاثوليك بغزو بلاد المغرب وتحويل المسلمين المغاربة إلى الدين النصراني، ورفع علم الصليب المسيحي عليه بدلاً من أعلام الهلال الإسلامي، وأصبحت المدينة إسبانية عندما تولى فيليب الثاني ملك إسبانيا عرش البرتغال عام 1580م، وبعد اعتراف إسبانيا باستقلال البرتغال تنازلت الأخيرة بمقتضى معاهدة لشبونة 1668م عن سبتة لإسبانيا.
- ومنذ احتلال المدينتين وإسبانيا تمارس حملة شرسة من أجل طمس الهوية الإسلامية والعربية لهما، بجهود لا تختلف في شيء عن تلك التي بذلها الصليبيون في كل بقعة إسلامية وضعوا أيديهم عليها، أو تلك التي يبذلها الصهاينة في فلسطين اليوم، فدُكت الصوامع وهُدمت المساجد. ويذكر المؤرخون أنه عندما سقطت مدينة سبتة كانت مآثرها تفوق مآثر القيروان، إذ كان فيها ألف مسجد ونحو مائتين وخمسين مكتبةً، ولم يبق من هذه المعالم الحضارية الإسلامية سوى مساجد قليلة لا تزيد على أصابع اليد الواحدة.
كما وضعت إسبانيا إجراءات قانونية مختلفة للحد من هجرة المسلمين نحو المدينتين؛ بهدف محو الوجود الإسلامي بالتدريج، وشجعت في المقابل الهجرة الإسبانية وهجرة اليهود الذين تزايد عددهم في الستينيات والسبعينيات، خصوصًا في مدينة سبتة، كما ضيقت على السكان المسلمين هناك ومنعتهم من تراخيص البناء وحاصرت نشاطاتهم الدينية والثقافية، وقد تم ذلك على نار هادئة وعبر مئات السنين حتى أصبح كثير من المسلمين يجهل أن ثمة احتلالاً إسبانيًّا لتلك البقاع، وطوي النسيان جراح أهلها ودرست معالم الإسلام حتى كانت انتفاضة يوم الثلاثاء 26 أكتوبر الماضي.
انتفاضة الموريسكيين الجدد
- فقد أصدرت اللجنة الوطنية للمطالبة بتحرير سبتة ومليلة والثغور المحتلة، وهي منظمة غير حكومية مغربية، بيانًا يوم 28 أكتوبر2010م، كشفت فيه أن مدينة مليلة الخاضعة للسلطات الإسبانية في الشمال المغربي، تشهد منذ الثلاثاء الماضي "انتفاضة شعبية" ضد السلطات الاستعمارية الإسبانية؛ حيث انطلقت شرارتها من طرف شبان مسلمين مغاربة، خرجوا للاحتجاج على السياسات العنصرية الإسبانية اتجاههم في مجال الشغل.
وكشفت اللجنة الوطنية للمطالبة بتحرير سبتة ومليلة والثغور المحتلة، أن المئات من المغاربة الرافضين للإقصاء الصليبي والتهميش العنصري الإسباني الذي يعيشونه في بلدهم المحتل، اشتبكوا في مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال التي قدمت من إسبانيا لتعزز وتساند القوات المتواجدة أصلاً بالمدينة المحتلة، وهذه المواجهات، بحسب المنظمة الحقوقية المغربية، أسفرت عن اعتقال العديد من مسلمي مليلة وإصابة آخرين بجروح متفاوتة.
- وكانت الانتفاضة قد اندلعت بسبب عدم ضم مسلمي المدينة إلى قوائم خطة للعمل أعدتها حكومة الاحتلال، لتوفر للعاطلين عن العمل فرصًا يعملون فيها لستة أشهر على الأقل، وتشمل الخطة، المثيرة للجدل، توفير العمل لمن وضعهم العائلي صعب جدًّا، وهو ما سبق وأعلنته مفوضية حكومة الاحتلال، في بداية العام الحالي حين قالت إنها تنوي وضع خطة جديدة تضمن تأمين العمل لأكثر من 4 آلاف شخص، فانتعش بالأمل من لا يعملون وعددهم يزيد على 10 آلاف، أي تقريبًا 15% من سكان مليلة البالغين 70 ألف نسمة، بينهم 40 ألف مسلم أصولهم مغربية، ووجد بعض هؤلاء أن اللوائح الجديدة استبعدتهم فيما تم قبول أسبان غير مسلمين، وهو ما أشعل شرارة الانتفاضة في المدينة المحتلة منذ الثلاثاء الماضي، خصوصًا في الضاحية الأشد فقرًا، وهي "هيدون" المعروفة بلقب "هيدون الموت" ذات الأغلبية المسلمة، وما زالت الأجواء مضطربة للغاية في هذا البلد الذي يعاني أشد درجات التمييز العنصري والديني واحتلاله هو الاحتلال الأقدم في العالم.
هل نخذل الأحفاد كما خذلنا الأجداد ؟
- عندما وقعت نكبة مسلمي الأندلس بسقوط غرناطة سنة 897هـ، حاول الأندلسيون أن يستغيثوا بملوك وزعماء وسلاطين المسلمين في كل مكان في العالم الإسلامي الممتد والفسيح، فأرسلوا إلى سلطان المماليك بمصر وقتها قايتباي، وإلى سلطان العثمانيين بايزيد الثاني، وإلى محمد أوزبك خان مسلمي آسيا الوسطى، وإلى ملوك بني مرين في المغرب، وبني زيان في الجزائر، وبني حفص في تونس، ولم يتركوا أحدًا من زعماء المسلمين وقادتهم حتى راسلوه؛ لينقذهم من نير الاضطهاد الإسباني الرهيب الذي أجبرهم على التنصير القسري، وينقذهم من طغيان محاكم التفتيش المرعبة التي تسببت في إبادة قرابة الخمسة ملايين مسلم أندلسي خلال خمسين سنة من الاحتلال الإسباني.
- لم تجد استغاثات الموريسكيين صدى في آذان القادة العرب والمسلمين إلا بعض الاستجابات الضعيفة والخجولة من بايزيد الثاني الذي عذره الأندلسيون لبعد المسافة بين بلاده والأندلس، في حين كان الإعراض والتجاهل، بل والتآمر في بعض الأحيان هو عنوان رد فعل المسلمين تجاه ما جرى لإخوانهم الموريسكيين، ولم يُبدِ قادة المسلمين في أنحاء العالم اهتمامًا واضحًا لمحنة الموريسكيين وآثروا الصمت المطبق على المجازر الرهيبة التي مارسها الأسبان بحق مسلمي الأندلس، وربما كانت الشعوب وقتها معذورة لانقطاع الأخبار وعدم وجود قنوات اتصال سريعة كما هو الحال في هذه الأيام، والخلاصة ضاعت قضية الموريسكيين وطويت محنتهم في سجل محن المسلمين الذي يذخر بمثله التاريخ الإسلامي.
- واليوم جاءت مثل هذه الانتفاضة لتذكرنا وتجلدنا في نفس الوقت بأن ثمة جزءًا عزيزًا من جسد الأمة ما زال يئنُّ تحت وطأة الاحتلال الإسباني، جزءًا يحتاج لأن تتبناه المؤتمرات والمحافل الدولية، وأن يدرج على سلم أولويات الأمة حكامًا ومحكومين. ولا يظن البعض أنها قضية مغربية تخص المغاربة وحدهم، بل هي قضية الأمة كلها، كما لا يظن أن المغاربة قد قصروا في الدفاع عنها أو محاولة تحريرها؛ فقد حاول المولى إسماعيل في القرن السادس عشر الميلادي، حيث حاصر المسلمون في هذه الفترة مدينة سبتة ولم يُقدَّر لهم أن يفتحوها، وكذلك محاولة المولى محمد بن عبد الله عام 1774م، محاصرة مدينة مليلة، ولم يفلح المسلمون في تخليصها من يد الأسبان. كما بذل سكان المدينتين من المسلمين جهودًا كبيرةً للتمرد على واقع الاحتلال في نهايات القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين، وبين عامي 1921م و1926م، قاد البطل المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي ثورة ضد الأسبان في الشمال المغربي، لكن إسبانيا تصدت لها بالتحالف مع دول أوربية أخرى بعد أن أشعلت ثورته شرارة الجهاد في المدينتين.
- العالم الإسلامي الآن أمام قضية مصيرية تحتاج لتوحيد الصفوف، وتوجيه الدعم لاتخاذ كافة الوسائل اللازمة والممكنة، بدءًا من الدبلوماسية انتهاء بالجهادية من أجل تحرير سبتة ومليلة، وعدم التسليم للواقع المرير والطويل للاحتلال الصليبي الإسباني لهما، بل إن العالم الإسلامي يحتاج لأن يلتفت إلى جراحه الكثيرة النازفة في عدة أجزاء من جسد الأمة الكبير والواهن، ولا يجعل جُلّ همه وجهده وإعلامه ودبلوماسيته من أجل فلسطين وحدها أو العراق وحدها، فهناك بقاع كثيرة من العالم الإسلامي يئن أهلها تحت نير الطغيان والاحتلال حتى كتابة هذه السطور، في الشيشان وفي تايلاند، وفي الفلبين وفي أفغانستان، وفي الأوجادين وفي الصومال، وفي كشمير وفي بورما، وأخيرًا في سبتة ومليلة. فأي جريمة أشد من جريمة الإهمال والنسيان لكل هذه الأحزان والآلام؟! أم أنهم فعلاً لا يستحقون التعاطف والنصرة؛ لأنهم أشرار كما يسميهم الأسبان "مورو مالو".
المصدر: موقع مفكرة الإسلام.
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]