[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
خلفيات الحدث
أهم مراحل تطور الأزمة المالية العالمية
لقد مرت الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية بالعديد من المحطات المهمة منذ اندلاعها في بداية 2007م في الولايات المتحدة الأمريكية ومنها انتقلت إلى أوربا.
فبراير 2007م: التوقف عن سداد أقساط الرهن العقاري (الممنوحة لمدينين لا يتمتعون بقدرة كافية على التسديد) في الولايات المتحدة؛ يتسبب في أولى عمليات إفلاس المؤسسات المصرفية المتخصصة.
أغسطس 2007م: البورصات تتدهور أمام مخاطر اتساع الأزمة، والمصارف المركزية تتدخل لدعم سوق السيولة.
أكتوبر 2007م: انخفاض كبير في أسعار أسهم عدة مصارف كبرى؛ بسبب أزمة الرهن العقاري.
22 يناير 2008م: الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي) يخفض معدل فائدته الرئيسية ثلاثة أرباع النقطة إلى 3.5 % وهو إجراء استثنائي. وسيجري بعد ذلك تخفيضه تدريجيًّا إلى 2% بين يناير ونهاية ابريل 2008م.
17 فبراير 2008م: الحكومة البريطانية تؤمم بنك «نورذرن روك».
11 مارس 2008م: تضافر جهود المصارف المركزية مجددا لمعالجة سوق التسليفات.
16 مارس: «جي بي مورجان تشيز» يعلن شراء بنك الأعمال الأمريكي «بير ستيرنز» بسعر متدن ومع المساعدة المالية للاحتياطي الفيدرالي.
7 سبتمبر: وزارة الخزانة الأمريكية تضع المجموعتين العملاقتين في مجال تسليفات الرهن العقاري «فريدي ماك» و«فاني ماي»، تحت الوصاية طيلة الفترة التي تحتاجانها لإعادة هيكلة ماليتهما، مع كفالة ديونهما حتى حدود 200 مليار دولار.
15 سبتمبر: اعتراف بنك الأعمال «ليمان براذرز» بإفلاسه بينما يعلن أحد ابرز المصارف الأمريكية، «بنك أوف أميركا»، شراء بنك أخر للأعمال في وول ستريت هو «ميريل لينش».
10 مصارف دولية تتفق على إنشاء صندوق للسيولة برأسمال 70 مليار دولار لمواجهة أكثر حاجاتها إلحاحًا في حين توافق المصارف المركزية على فتح مجالات التسليف. إلا أن ذلك لا يمنع تراجع البورصات العالمية.
16 سبتمبر: الاحتياطي الفيدرالي والحكومة الأمريكية تُؤمّمان بفعل الأمر الواقع أكبر مجموعة تأمين في العالم «ايه آي جي» المهددة بالإفلاس عبر منحها مساعدة بقيمة 85 مليار دولار مقابل امتلاك 97.9 % من رأسمالها.
17 سبتمبر: البورصات العالمية تواصل تدهورها والتسليف يضعف في النظام المالي. وتكثف المصارف المركزية العمليات الرامية إلى تقديم السيولة للمؤسسات المالية.
19 سبتمبر: الرئيس الأمريكي جورج بوش يوجه نداء إلى «التحرك فورًا» حيال خطة لإنقاذ المصارف لتفادي تفاقم الأزمة في الولايات المتحدة.
23 سبتمبر: الأزمة المالية تطغي على المناقشات خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
26 سبتمبر: انهيار سعر سهم المجموعة المصرفية والتأمين البلجيكية الهولندية «فورتيس» في البورصة بسبب شكوك حول قدرتها على الوفاء بالتزاماتها. وفي الولايات المتحدة، يشتري بنك «جي بي مورجان» منافسه «واشنطن ميوتشوال» بمساعدة السلطات الفيدرالية.
28 سبتمبر: خطة الإنقاذ الأمريكية موضع اتفاق في الكونجرس.
29 سبتمبر: مجلس النواب الأمريكي يرفض خطة الإنقاذ. وول ستريت تنهار.
29 سبتمبر: أعلنت الحكومة البريطانية رسميًا تأميم الرهون العقارية السكنية لبنك برادفورد آند بينجلي الذي يبلغ حجمه 41 مليار جنيه إسترليني (75.34 مليار دولار) بعد الإخفاق في العثور على مشتري.
وكانت البورصات الأوربية تراجعت بقوة هي الأخرى خلال نهار 29 سبتمبر في حين واصلت معدلات الفوائد بين المصارف ارتفاعها مانعة المصارف من إعادة تمويل ذاتها. وقبل رفض الخطة، وفي البرازيل، تم تعليق جلسة التداول في البورصة التي تسجل خسارة تفوق 10%.
الأول من أكتوبر 2008م: مجلس الشيوخ الأمريكي يقر خطة الإنقاذ المالي المعدلة.
9 أكتوبر: فعَّل صندوق النقد الدولي آلية طوارئ مالية خاصة لمساعدة الدول المتضررة بالأزمة التي تعصف باسواق المال العالمية.[1]
أزمة الائتمان العالمية في ضوء الشريعة الإسلامية
د.عطية فياض[2]
إسلام أون لاين 12 / 10 / 2008م
تحمل الأخبار الاقتصادية والسياسية في هذه الأيام كل يوم مزيدًا من صور الانهيار والسقوط لرموز الاقتصاد الرأسمالي من بنوك وبورصات وشركات تأمين، وغيرها من المؤسسات العملاقة التي كانت تمثل إلى وقت قريب أهم عوامل النجاح والتميز للنظام الاقتصادي الرأسمالي؛ حيث كانت مصدر مباهاة وفخر وإعجاب بقوة رأسمالها وعظم أرباحها، وكثيرًا ما قدَّمها النظام الرأسمالي على أنها الأنموذج الذي يجب أن يحتذى للمؤسسات المالية في جميع دول العالم باختلاف انتماءاتها وأيديولوجياتها، وامتلكت هذه المؤسسات آلة إعلامية وفكرية ضخمة مكَّنت لها في قلوب ونفوس كثير من أصحاب الفكر والقرار في شتى البلدان؛ مما جعلها مقصدًا لكل طالب ربح، وساعٍ لتحقيق الأمن وتقليل المخاطر.
ولا أدعي أن هذه الأزمة ستكون القاصمة لهذا النظام، والتي تؤذن بانهياره كما انهار النظام الشيوعي؛ لأن حبال الكثيرين لا تزال ممتدة إليه تنتشله من السقوط الذي هوى إليه، كما أن هناك من لبَّى بسرعة فائقة دعوات ساسة هذا النظام لتقديم يد العون والإحسان إليهم، لكن الذي يجب ألا يُغْفَل هو أن هذا النظام يملك في داخله عوامل فنائه، فإذا كان النظام الشيوعي قد سقط لمصادمته الفطرة السوية في منع التملك فضلاً عن تقنينه للظلم الذي تمثل في تأميم الممتلكات، ومصادرة الأموال، وقمع الحريات الفردية، وغير ذلك من المظالم الكثيرة التي تولى كبرها هذا النظام، فإن النظام الرأسمالي يملك الكثير من عوامل الفناء والسقوط؛ فنظام لا يقوم إلا على سلب ثروات الشعوب وخيراتها؛ بتأجيج الفتن، وإشعال الحروب، فضلاً عن تفشي الربا، والقمار، والاحتكار، والغش، والتدليس، وأكل أموال الناس بالباطل لا يمكن إلاَّ أن يلقى مصير صنوه.
حقيقة الأزمة وأسباب السقوط
بدأت الأزمة مع انتعاش سوق العقار في أمريكا في الفترة من 2001 - 2005م، وقدمت البنوك الأمريكية - التي تعج بأموال الأمريكيين وغير الأمريكيين - قروضًا للمواطنين لشراء منازل بزيادة ربوية تتضاعف مع طول المدة، مع غضِّ الطرف عن الضمانات التي يقدمها المقترض، أو الحد الائتماني المسموح به للفرد، ونشطت شركات العقار في تسويق المنازل لمحدودي الدخل؛ مما نتج عنه ارتفاع أسعار العقار، ولم تكن البنوك وشركات العقار بأذكى من محدودي الدخل الذين استغلوا فرصة ارتفاع أسعار عقاراتهم بأكثر من قيمة شرائهم لها؛ ليحصلوا من البنوك على قروض ربوية كبيرة بضمان منازلهم، التي لم يسدد ثمنها، والتي ارتفع سعرها بشكل مبالغ فيه نتيجة للمضاربات، وقُدِّمَت المنازل رهنًا لتلك القروض.
وسعد مجلس الاحتياطي الفيدرالي بهذه الطفرة؛ حيث وجد في الرهون العقارية محرِّكًا رئيسًا للاقتصاد الأمريكي؛ نظرًا لأنه كان يتم إعادة تمويل المقترض كلما ارتفعت قيمة عقاره؛ مما شجع الشعب الأمريكي على استمرار الإنفاق الاستهلاكي، وبالتالي استمرار النمو في الاقتصاد الأمريكي، إلاَّ أن ما لم ينتبه إليه الكثير هو أن هذه الطفرة لم تكن نتاج اقتصاد حقيقي، بل هي قائمة على سلسلة من الديون المتضخمة التي لم يكن لها أي ناتج في الاقتصاد الفعلي؛ حيث كانت عبارة عن أوراق من السندات والمشتقات والخيارات يتم تبادلها والمضاربة عليها في البورصات؛ ولذلك عندما عجز المقترضون عن السداد، واستشعرت البنوك وشركات العقار الأزمة قامت ببيع ديون المواطنين على شكل سندات لمستثمرين عالميين بضمان المنازل، كما حوّلت الرهون العقارية إلى أوراق مالية (سندات)، فيما يعرف بعملية التوريق وتم بيعها، وبتفاقم المشكلة لجأ الكثير من المستثمرين إلى شركات التأمين التي وجدت في الأزمة فرصة للربح؛ حيث يمكنها تملُّك المنازل فيما لو امتنع محدودو الدخل عن السداد، وبدأت شركات التأمين تأخذ أقساط التأمين على السندات من المستثمرين العالميين، وقد صاحب ذلك عملية خداع كبيرة لهؤلاء المستثمرين وأُخفي عنهم حقيقة موقف هذه السندات.
توقف محدودو الدخل عن الدفع بعد أن أرهقتهم الأقساط والزيادات الربوية مما اضطر البنوك والشركات لبيع المنازل محل النزاع، والتي رفض أهلها الخروج منها؛ مما أدى إلى هبوط أسعار العقارات، فما عادت تغطي لا البنوك، ولا شركات العقار، ولا شركات التأمين، وعندما طالب المستثمرون الدوليون بحقوقهم لدى شركات التأمين لم يكن لديها ما يغطي تلك المطالبات، ومن ثَمَّ أعلنت إفلاسها، وتبعها الكثير من البنوك والمؤسسات المالية، فمن تأميم لشركتي الرهن العقاري "فاني ماي، وفريدي ماك" إلى إفلاس مصرف "ليمان براذرز"، والذي سجَّل بإفلاسه أكبر عملية إفلاس في التاريخ الأمريكي، إلى سيطرة الحكومة الأمريكية على 80% من شركة التأمين "إيه آي جي"، مقابل قرض بقيمة 85 مليار دولار لدعم سيولة الشركة، وبعدها انهار بنك الإقراض العقاري "واشنطن ميوتشوال"، الذي تم بيعه إلى بنك "جي بي مورجان"، بعد أن سيطرت عليه المؤسسة الاتحادية للتأمين على الودائع، وهي مؤسسة حكومية تقدِّم خدمة التأمين على ودائع عملاء البنوك والمؤسسات المالية في الولايات المتحدة الأمريكية[3]، ولم تقف تداعيات الأزمة عند حدود أمريكا بل تخطَّت المحيط لتصيب بلهبها معظم دول العالم المرتبط باقتصاد أمريكا.
بالنظر في هذا الجانب الوصفي للأزمة يظهر لنا جملة من الأمور نعتبرها من خلال الضوابط الشرعية أسبابًا للأزمة، ولا يعني ذلك قصر الأزمة على هذه الأسباب
أولاً: تفشِّي الربا:
أطلق دهاقنة النظام الرأسمالي مقولة سارت بها الركبان أنه "لا اقتصاد بلا بنوك، ولا بنوك بلا فوائد". وتلقف هذه المقولة المتأثرون بالفكر الرأسمالي والمخدوعون به فرَوَّجُوا لها، وجادلوا من أجل صحتها وجدواها، وألصقوا التُّهم بمن عارضها مرة بالسذاجة الفكرية، وأخرى بالظلامية والرجعية، وثالثة بالشيوعية، ورابعة بالإرهاب.
إن المتأمل في هذه الأزمة يجد أن بدايتها هي الحث والتشجيع على الاقتراض بالربا، وإثقال كاهل الناس بالقروض الربوية؛ سواء لتأمين احتياجات أساسية كالمنازل ونحوها، أو لغيرها من الكماليات والترفيهيات، بل كانت سعادة مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وبيوت المال، والسماسرة، والمقترضين غامرة بهذه التسهيلات الربوية؛ حيث وجدوا فيها محركًا للاقتصاد، ومن ثَمَّ استمرار النمو، لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، وعجز المدينون عن السداد، ومن ثم إشهار الإفلاس.
إن الإسلام إذ يحرم الربا، ويجرِّمه، ويعدّه من السبع الموبقات -أي المهلكات- فإنه لا يمكن تصور الهلاك والدمار والخراب كجزاء أخروي فقط، إنما هو جزاء وعقوبة دنيوية، وإن الحرب التي يشنُّها الله ورسوله على الاقتصاديات الربوية هي حرب شاملة لا تقف عند حدود البنوك والبورصات، بل هي أعم من ذلك، وها هو العالم يشهد آثار هذه الحرب ويعانيها، لكن هل هناك من له قلب، أو ألقي السمع وهو شهيد؟!
لقد كذَّبت هذه الأزمة تلك النصيحة الاقتصادية التي كثيرًا ما تتكرَّر على ألسنة الاقتصاديين؛ وهي أن الاستثمار العقاري، والاستثمار في السندات الربوية هما آمن الحقول الاستثمارية من حيث حجم المخاطر والعائد، وهي نصيحة يمكن أن تكون صادقة لو خلت هذه الاستثمارات من آفة الربا والمقامرات.
إن بعضًا من عقلاء مفكري الغرب أدركوا أخيرًا هذه الحقيقة من زاوية اقتصادية بحتة مجردة عن الجانب العقدي والإيماني، ومن ذلك ما ذكرته الباحثة الإيطالية "لووريتا نابليوني" في كتاب صدر لها مؤخرًا "أن المصارف الإسلامية يمكن أن تصبح البديل المناسب للبنوك الغربية، فمع انهيار البورصات في هذه الأيام، وأزمة القروض في الولايات المتحدة فإن النظام المصرفي التقليدي بدأ يُظْهِر تصدُّعًا، ويحتاج إلى حلول جذرية عميقة". وقريبٌ من ذلك ما أعلنه الاقتصادي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد "موريس إلي"، فيما يتعلق بمعالجة أزمة المديونية والبطالة أن الخروج من الأزمة وإعادة التوازن لهما شرطان هما: تعديل الفائدة إلى حدود الصفر، ومراجعة معدل الضريبة لما يقارب 2%[4]. وهو ما يعني منع الربا، وتطبيق أحكام الزكاة.
إننا إذ نسجِّل هذه الشهادات لا نعني حاجة الشريعة إلى شهادة كفاءة أو صلاحية من مفكري الغرب ورجالاته، لكننا نقدمها لبني جلدتنا الذين لا يزالون يعتبرون النظام المصرفي الربوي هو الأمثل، بل والأقرب إلى روح الإسلام ومقاصده كما يزعمون.
ثانيا: المضاربات الوهمية والصفقات الصورية:
يقوم الاقتصاد الرأسمالي على ما يسمى بـ"المضاربة"، ولا علاقة لها بـ"المضاربة الشرعية" المعروفة في الفقه الإسلامي، إنما يُقْصَد بها: خَلْق تعامل نشط على سهم أو سند، دون أن يكون هناك تبادل فعلي حقيقي للسلع أو المنافع، مصحوبًا بالكذب، والخداع، وصورية العقود، والتآمر، ونحو ذلك مما هو من مساوئ التعامل في السوق الرأسمالية[5].
وتعد هذه المضاربات من أخطر آفات اقتصاد السوق، وقد كانت ولا تزال سببًا في الكثير من الكوارث والأزمات، حتى وصفها رئيس فرنسا السابق شيراك بأنها "وباء الإيدز في الاقتصاد العالمي". ولخطورتها أيضًا أصدرت السيدة هيلجا تسيب لاروش رئيسة معهد شيللر العالمي بيانًا بعد كارثة تسونامي بعنوان: "ما هو أجدى من المساعدات.. نظام اقتصادي عالمي عادل جديد". وجاء في هذا البيان عدة توصيات، منها: "أن المضاربات في المشتقات المالية والعملات التي وصلت مؤخرًا - وفق آخر إحصائية لبنك التسوية العالمي - إلى 2000 تريليون دولار، يجب مسحها كليًّا، وجعلها غير قانونية، عن طريق اتفاقيات بين الحكومات"[6].
ومع هذه التحذيرات للأسف لم تُجَرَّم ولم تمنع، بل تفنَّن مقامرو السوق وصانعوه في ابتكار المزيد من صورها، وللأسف أيضًا وُجِدَ مَنْ يدفع مؤسساتنا المالية لأن تحذو حذو أختها في العالم الغربي، بل قننت كثيرًا من صور المضاربة وأصبحت تشريعًا ساري المفعول في كثير من دول العالم الإسلامي.
إن هذه الأزمة الأخيرة أثبتت أن ما قدَّمته الشريعة الإسلامية من مبادئ اقتصادية (متمثلة في تحريم النجش، وبيع الإنسان ما ليس عنده، والميسر، وبيع الغرر الذي يندرج تحته صور كثيرة؛ حيث يصدق على بيع المجهول، وبيع ما لا يملك، وبيع ما لا يقدر على تسليمه وغيره) لهو الضمان الحقيقي من حدوث مثل هذه الكوارث والأزمات، وهو ما فطنت له الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية -وهي أعلى هيئة رسمية تعنى بمراقبة نشاطات البنوك- فأصدرت قرارًا يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية، واشتراط التقابض في أجل محدَّد بثلاثة أيام لا أكثر من إبرام العقد[7].
ثالثًا: بيع الديون:
من أهم فصول الأزمة الراهنة قيام البنوك بتوريق الرهون العقارية، وكذا القروض المتعثرة، وبيعها في صورة سندات؛ حيث قامت البنوك بعرض بيع خداعي لهذه الرهون العقارية شبه الممتازة على مؤسستي "فريدي ماك"، و"فاني ماي"؛ حيث قامتا بوضعها في مجمعات من الرهون العقارية، وبيعها إلى صناديق استثمارية، وإلى عامة الجمهور على كونها استثمارات رفيعة الدرجة تتميز بحد أدنى من المخاطر[8].
وهو نشاط يُعْرَف في الفقه الإسلامي ببيع الديون، وهو ممنوع شرعًا إلاَّ بضوابط تمنع الزيادة الربوية والعمليات الصورية[9]، ويُعْرَف اقتصاديًّا بالتوريق، والمقصود به: "تحويل القروض وأدوات الديون غير السائلة إلى أوراق مالية قابلة للتداول في أسواق المال، وهي أوراق تستند إلى ضمانات عينية أو مالية ذات تدفقات نقدية متوقَّعَة، ولا تستند إلى مجرَّد القدرة المتوقَّعة للمدين على السداد من خلال التزامه العام بالوفاء بالدين"[10].
وعَرَّفَتْه وزارة الاستثمار المصرية بأنه "قيام مؤسسة مالية مصرفية، أو غير مصرفية بتحويل الحقوق المالية - غير القابلة للتداول، والمضمونة بأصول - إلى منشأة متخصصة ذات غرض خاص تسمى في هذه الحالة «شركة التوريق»؛ بهدف إصدار أوراق مالية جديدة، في مقابل أن تكون هذه الحقوق المالية قابلة للتداول في سوق الأوراق المالية"[11].
وقد قُنِّنَ نشاط التوريق في كثير من الدول العربية والإسلامية، وقُدِّمَ على أنه من أدوات تنشيط حركة أسواق المال بشقَّيْه الأَوَّلِيِّ والثانويِّ، وغاب عن الكثيرين ما يحمله هذا النشاط من آفات مهلكة؛ إذ هو عبارة عن بيع دين بدين، وهي الآفة التي كانت سببًا في تفاقم الأزمة الأخيرة؛ إذ لم تكن الحركة النشطة للاقتصاد الأمريكي في الفترة الأخيرة إلاَّ سلسلة من الديون المتضخمة، التي لم يكن لها أي ناتج في الاقتصاد الفعلي؛ حيث كانت عبارة عن أوراق من السندات والمشتقات والخيارات يتم تبادلها والمضاربة عليها في السوق الثانوية، وجميع هذه الأنشطة المتقدمة ممنوعة شرعًا[12].
رابعًا: عمليات الخداع والتضليل:
أعادت هذه الأزمة إلى الأذهان ما حدث في أزمة لحقت بالاقتصاد الأمريكي، وكانت في الأساس أزمة أخلاقية؛ إذ تعرَّى النظام الرأسمالي وقتها مما يَسْتُر به نفسه من دعاوى الصدق، والأمانة، والجودة، والإتقان، وظهر بمظهره الحقيقي من الجشع، والغرور، والكذب، والاحتيالات، وهي الأزمة التي عصفت بكبرى شركات الطاقة آنئذ، وهي شركة "إنرون"[13].
ويُعِيدُ التاريخ نفسه لنجد صورًا من الخداع والتضليل صَاحَبَ تلك الأزمة من الاحتيال على المستثمرين العالميين، وحجب الحقيقة عنهم مما حدَا بمكتب التحقيقات الفيدرالي أن يفتح تحقيقًا مع أكثر من عشرين مؤسسة مالية للتحقيق في دعاوى الخداع والتضليل.
إننا إذ نقدِّم هذه الصورة للأزمة فما هو إلاَّ تأكيد على جملة أمور:
أ- الشريعة الإسلامية هي النظام الأمثل للبشرية سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا؛ وذلك لأنها كما قال ابن القيم رحمه الله: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها"[14]. وأن المستقبل لهذا الدين، والله متم نوره.
ب- إن واجب الوقت يُحَتُّم على علماء الاقتصاد الإسلامي والشريعة الإسلامية إظهار سَوْآت النظم الوضعية في مجالاتها المختلفة، وفضحها، وحسن تقديم البديل الشرعي، والدعاية له، وعدم انتظار كارثة لإظهار ما لدينا نحن المسلمين من حلول شرعية.
ج- متى يَكُفُّ المخدوعون بالنظام الرأسمالي ومؤسساته من مفكرين، وساسة، ورجالات قانون وشريعة في بلادنا عن التماس الأعذار لتلك النظم، وطمسهم معالم شريعتنا الغرَّاء، والتحايل على أحكامها، والسخرية من مبادئها؟! أمَا لهم فيما أحدثه النظام الرأسمالي من خراب عالمي عبرة وعظة؟! أمَا لهم أن يعودوا إلى شريعة الهدى والرحمة؟! قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .
كيف نفهم الأزمة المالية العالمية
د.أنس بن فيصل الحجي[15]
إسلام أون لاين – 4 / 10/ 2008م
يعيش "سعيد أبو الحزن" مع عائلته في شقة مستأجرة وراتبه ينتهي دائمًا قبل نهاية الشهر، حلم سعيد أن يمتلك بيتًا في "أمرستان" ، ويتخلص من الشقة التي يستأجرها بمبلغ 700 دولار شهريًّا، ذات يوم فوجئ سعيد بأن زميله في العمل، نبهان السَهيان، اشترى بيتًا بالتقسيط؛ ما فاجأ سعيد هو أن راتبه الشهري هو راتب نبهان نفسه، وكلاهما لا يمكنهما بأي شكل من الأشكال شراء سيارة مستعملة بالتقسيط، فكيف ببيت؟ لم يستطع سعيد أن يكتم مفاجأته فصارح نبهان بالأمر، فأخبره نبهان أنه يمكنه هو أيضًا أن يشتري بيتًا مثله، وأعطاه رقم تلفون المكتب العقاري الذي اشترى البيت عن طريقه.
لم يُصَدِّق سعيد كلام نبهان، لكن رغبته في تملك بيت حرمته النوم تلك الليلة، وكان أول ما قام به في اليوم التالي هو الاتصال بالمكتب العقاري للتأكد من كلام نبهان، ففوجئ بالاهتمام الشديد، وبإصرار الموظفة "سهام نصابين" على أن يقوم هو وزوجته بزيارة المكتب بأسرع وقت ممكن، وشرحت سهام لسعيد أنه لا يمكنه الحصول على أي قرض من أي بنك بسبب انخفاض راتبه من جهة، ولأنه لا يملك من متاع الدنيا شيئًا ليرهنه من جهة أخرى، ولكنها ستساعده على الحصول على قرض، ولكن بمعدلات فائدة عالية، ولأن سهام تحب مساعدة "العمال والكادحين" أمثال سعيد فإنها ستساعده أكثر عن طريق تخفيض أسعار الفائدة في الفترة الأولى حتى "يقف سعيد على رجليه". كل هذه التفاصيل لم تكن مهمة لسعيد، المهم ألا تتجاوز الدفعات 700 دولار شهريًّا.
باختصار، اشترى سعيد بيتًا في شارع "البؤساء"، دفعاته الشهرية تساوي ما كان يدفعه إيجارًا للشقة، كان سعيد يرقص فرحًا عندما يتحدث عن هذا الحدث العظيم في حياته؛ فكل دفعة شهرية تعني أنه يتملك جزءًا من البيت، وهذه الدفعة هي التي كان يدفعها إيجارًا في الماضي، أما البنك، "بنك التسليف الشعبي"، فقد وافق على إعطائه أسعار فائدة منخفضة، دعمًا منه "لحصول كل مواطن على بيت"، وهي العبارة التي ذكرها رئيس البلد، نايم بن صاحي، في خطابه السنوي في مجلس رؤساء العشائر.
مع استمرار أسعار البيوت في الارتفاع، ازدادت فرحة سعيد، فسعر بيته الآن أعلى من الثمن الذي دفعه، ويمكنه الآن بيع البيت وتحقيق أرباح مجزية، وتأكد سعيد من هذا عندما اتصل ابن عمه سحلول ليخبره بأنه نظرًا لارتفاع قيمة بيته بمقدار عشرة آلاف دولار فقد استطاع الحصول على قرض قدره 30 ألف دولار من البنك مقابل رهن جزء من البيت، وأخبره أنه سينفق المبلغ على الإجازة التي كان يحلم بها في جزر "الواق واق"، وسيُجْرِي بعض التصليحات في البيت، أما الباقي فإنه سيستخدمه كدفعة أولية لشراء سيارة جديدة.
القانون لا يحمي المغفلين
إلا أن صاحبنا سعيد أبو الحزن وزميله نبهان السهيان لم يقرآ العقد والكلام الصغير المطبوع في أسفل الصفحات، فهناك فقرة تقول: إن أسعار الفائدة متغيرة، وليست ثابتة. هذه الأسعار تكون منخفضة في البداية ثم ترتفع مع الزمن، وهناك فقرة تقول: إن أسعار الفائدة سترتفع كلما رفع البنك المركزي أسعار الفائدة. وهناك فقرة أخرى تقول: إنه إذا تأخر عن دفع أي دفعة فإن أسعار الفائدة تتضاعف بنحو ثلاث مرات. والأهم من ذلك فقرة أخرى تقول: إن المدفوعات الشهرية خلال السنوات الثلاث الأولى تذهب كلها لسداد الفوائد. هذا يعني أن المدفوعات لا تذهب إلى ملكية جزء من البيت، إلاَّ بعد مرور ثلاث سنوات.
بعد أشهر رفع البنك المركزي أسعار الفائدة فارتفعت الدفعات الشهرية، ثم ارتفعت مرة أخرى بعد مرور عام كما نص العقد، وعندما وصل المبلغ إلى 950 دولارًا تأخر سعيد في دفع الدفعة الشهرية، فارتفعت الدفعات مباشرة إلى 1200 دولار شهريًّا، ولأنه لا يستطيع دفعها تراكمت عقوبات إضافية وفوائد على التأخير وأصبح سعيد بين خيارين، إما إطعام عائلته، وإما دفع الدفعات الشهرية، فاختار الأول، وتوقف عن الدفع، وفي العمل اكتشف سعيد أن زميله نبهان قد طُرِدَ من بيته، وعاد ليعيش مع أمه مؤقتًا، واكتشف أيضًا أن قصته هي قصة عديد من زملائه، فقرر أن يبقى في البيت حتى تأتي الشرطة بأمر الإخلاء. مئات الألوف من 'أمرستان' عانوا المشكلة نفسها، التي أدَّت في النهاية إلى انهيار أسواق العقار.
أرباح البنك الذي قدم قرضًا لسعيد يجب أن تقتصر على صافي الفوائد التي يحققها من هذا القرض، ولكن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد؛ قام البنك ببيع القرض على شكل سندات لمستثمرين، بعضهم من دول الخليج، وأخذ عمولة ورسوم خدمات منهم، هذا يعني أن البنك كسب كل ما يمكن أن يحصل عليه من عمولات وحَوَّل المخاطرة إلى المستثمرين. المستثمرون الآن يملكون سندات مدعومة بعقارات، ويحصلون على عوائد مصدرها مدفوعات سعيد ونبهان الشهرية، هذا يعني أنه لو أفلس سعيد أو نبهان فإنه يمكن أخذ البيت وبيعه لدعم السندات، ولكن هؤلاء المستثمرين رهنوا هذه السندات، على اعتبار أنها أصول، مقابل ديون جديدة للاستثمار في شراء مزيد من السندات. نعم، استخدموا ديونًا للحصول على مزيد من الديون! المشكلة أن البنوك تساهلت كثيرًا في الأمر لدرجة أنه يمكن استدانة 30 ضعف كمية الرهن. باختصار، سعيد يعتقد أن البيت بيته، والبنك يرى أن البيت ملكه أيضًا، والمستثمرون يرون أن البيت نفسه ملكهم هم؛ لأنهم يملكون السندات، وبما أنهم رهنوا السندات، فإن البنك الذي قدم لهم القروض، بنك "عماير جبل الجن"، يعتقد أن هناك بيتًا في مكان ما يغطي قيمة هذه السندات، إلاَّ أن كمية الديون تبلغ نحو 30 ضعف قيمة البيت!
أما سحلول، ابن عم سعيد، فقد أنفق جزءًا من القرض على إجازته وإصلاح بيته، ثم حصل على سيارة جديدة عن طريق وضع دفعة أولية قدرها ألفا دولار، وقام بنك 'فار سيتي' بتمويل الباقي، وقام البنك بتحويل الدين إلى سندات وباعها إلى بنك استثماري اسمه 'لا لي ولا لغيري'، الذي احتفظ بجزء منها، وقام ببيع الباقي إلى صناديق تحوط وصناديق سيادية في أنحاء العالم كافة . سحلول يعتقد أنه يمتلك السيارة، وبنك 'فار سيتي' يعتقد أنه يملك السيارة، وبنك " لا لي ولا لغيري" يعتقد أنه يمتلك السيارة، والمستثمرون يعتقدون أنهم يملكون سندات لها قيمة؛ لأن هناك سيارة في مكان ما تدعمها، المشكلة أن كل هذا حصل بسبب ارتفاع قيمة بيت سحلول، وللقارئ أن يتصور ما يمكن أن يحصل عندما تنخفض قيمة البيت، ويطرد سحلول من عمله!
القصة لم تنتهِ بعد!
بما أن قيمة السندات السوقية وعوائدها تعتمد على تقييم شركات التقييم هذه السندات بناء على قدرة المديون على الوفاء، وبما أنه ليس كل من اشترى البيوت له القدرة نفسها على الوفاء، فإنه ليست كل السندات سواسية، فالسندات التي تم التأكد من أن قدرة الوفاء فيها ستكون فيها أكيدة ستكسب تقدير 'أأأ'، وهناك سندات أخرى ستحصل على 'ب' وبعضها سيصنف على أنه لا قيمة له بسبب العجز عن الوفاء؛ لتلافي هذه المشكلة قامت البنوك بتعزيز مراكز السندات عن طريق اختراع طرق جديدة للتأمين؛ بحيث يقوم حامل السند بدفع رسوم تأمين شهرية كي تضمن له شركة التأمين سداد قيمة السند إذا أفلس البنك أو صاحب البيت، الأمر الذي شجع المستثمرين في أنحاء العالم كافة على اقتناء مزيد من هذه السندات، وهكذا أصبح سعيد ونبهان وسحلول أبطال الاقتصاد العالمي الذي تغنى به الكاتب "توماس فريدمان" .
في النهاية، توقف سعيد عن سداد الأقساط، وكذلك فعل نبهان وسحلول، وغيرهم، ففقدت السندات قيمتها، وأفلست البنوك الاستثمارية وصناديق الاستثمار المختلفة. أما الذين اشتروا تأمينًا على سنداتهم فإنهم حصلوا على قيمتها كاملة، فنتج عن ذلك إفلاس شركة التأمين 'أي آي جي'، وعمليات الإفلاس أجبرت البنوك على تخفيف المخاطر عن طريق التخفيض من عمليات الإقراض، الأمر الذي أثَّر في كثير من الشركات الصناعية وغيرها التي تحتاج إلى سيولة لإتمام عملياتها اليومية، وبدأت بوادر الكساد الكبير بالظهور، الأمر الذي أجبر حكومة أمرستان على زيادة السيولة عن طريق ضخ كميات هائلة لإنعاش الاقتصاد، الذي بدأ يترنح تحت ضغط الديون للاستثمار في الديون، أما 'توماس فريدمان' فقد قرر أن يكسب مزيدًا من الملايين حيث سينتهي من كتابة قصة "سعيد أبو الحزن" عما قريب.
التحديات الاقتصادية أزمة تواجه الرئيس القادم
مارتن فيلد شتاين (أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة هارفاد)
الراية القطرية 25 / 9 / 2008م
الآن بات موعد انعقاد الانتخابات الرئاسية الأمريكية على بُعد أقل من شهرين، وأصبح القدر الأعظم من الانتباه مرتكزًا على حالة الاقتصاد الأمريكي، والتحديات التي ستفرضها حالة الاقتصاد على الرئيس القادم.
نحن الآن في أوج الأزمة المالية الناجمة عن سوء التسعير الخطير لكافة أشكال المجازفة، فضلاً عن انهيار فقاعة الإسكان التي نشأت أثناء النصف الأول من هذا العقد، وما بدأ كمشكلة مع قروض الرهن العقاري الثانوي انتشر الآن إلى المساكن على نحو أكثر عمومًا، علاوة على غير ذلك من مختلف فئات الأصول، إن مشكلة الإسكان تساهم في الأزمة المالية، التي تؤدي بدورها إلى انكماش الإمدادات المتاحة من أرصدة الائتمان المطلوبة لدعم النشاط الاقتصادي.
تفاقمت الأزمة المالية أثناء الأسابيع الأخيرة، وهو ما انعكس في استيلاء بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على المؤسستين شبه الحكومتين اللتين تعملان في تقديم قروض الرهن العقاري، فاني ماي وفريدي ماك ـ وهو ما قد يكلف دافعي الضرائب الأمريكيين مئات المليارات من الدولارات ـ فضلاً عن إفلاس ليهمان برذرز وبيع ميريل لينش، وهذه الإخفاقات المالية تعكس في النهاية الهبوط الحاد في أسعار المساكن والعدد المتزايد من المساكن التي أصبحت قيمتها في السوق أقل من قيمة أقساط الدين المتبقية عليها.
إن هبوط قيمة العقار عن قيمة أقساط الدين المتبقية أمر خطير؛ وذلك لأن قروض الرهن العقاري في الولايات المتحدة عمومًا قروض "مؤَمَّنة"، ففي حالة عجز مالك المسكن عن السداد، تستطيع الجهة المقرضة أن تسترد المسكن، ولكنها لا تستطيع أن تستولي على أي ملكية أو دخل آخر للمقترض للتعويض عن أي أقساط غير مدفوعة، وحتى في الولايات حيث القروض "غير مؤَمَّنة" فإن الدائن عادة لا يلجأ إلى ملاحقة أصول أو دخول الأفراد المتخلفين عن السداد.
لا أحد يستطيع أن يجزم إلى أي مدى قد تستمر أسعار المساكن في الهبوط، يقول الخبراء إن الأمر يتطلب هبوط الأسعار بمقدار 15% أخرى حتى يتسنى للسوق العودة إلى أسعار ما قبل فقاعة الإسكان. ولكن لا شيء قد يمنع استمرار الأسعار في الهبوط بمجرد بلوغها تلك النقطة، فلسوف تستمر الفجوة المتنامية بين قروض الرهن العقاري وأسعار المساكن في زيادة معدلات التخلف عن السداد، ولسوف يختار العديد من أصحاب المساكن القادرين على تسديد أقساط الرهن العقاري التخلف عن السداد والانتقال إلى مساكن مستأجرة، وتأجيل شراء المساكن إلى أن تسجل أسعارها المزيد من الهبوط.
مع تخلف المزيد من ملاك المساكن الذين تجاوزت قيمة أقساط رهنهم العقاري قيمة مساكنهم في السوق عن السداد، فإن المساكن التي يتم إخلاؤها بعد حبس رهنها العقاري تساهم في زيادة المعروض من المساكن، الأمر الذي لا بُدَّ أن يؤدي إلى المزيد من الهبوط في أسعار المساكن، وكلما انخفضت الأسعار اتسعت الفجوة بين قيمة المساكن في السوق وقيمة الأقساط المتبقية عليها، الأمر الذي يؤدي بالتالي إلى المزيد من حالات التخلف عن السداد وحبس الرهن العقاري، وليس من الواضح ما الذي قد يتمكن من إيقاف هذه الحلقة المفرغة الذاتية الدفع.
إن أسعار الإسكان المنحدرة تُـعَد السبب الرئيسي وراء الأزمة المالية، كما تشكل الوضع المتوقع للاقتصاد في المستقبل؛ وذلك لأن الأوراق المالية المدعمة بقروض الرهن العقاري، والمشتقات القائمة عليها، تشكل الأصول الأولية التي يؤدي ضعفها إلى ضعف المؤسسات المالية، وإلى أن تستقر أسعار المساكن فلن يكون بوسع أحد أن يقيم هذه الأوراق المالية بأي قدر من الثقة، وهذا يعني أن المؤسسات المالية التي تمتلكها لا تستطيع أن تثق في السيولة النقدية لدى الأطراف التي قد تتعاقد معها، أو عجز هذه الأطراف عن السداد- أو حتى في قيمة رأسمالها؛ وبدون هذه الثقة فلن تتدفق أرصدة الائتمان، وهذا يعني تقييد الأنشطة الاقتصادية.
فضلاً عن ذلك، ولأن المؤسسات المالية اشترت أصولها في الأساس بأموال مقترضة، فإن العجز في الائتمان يتفاقم بسبب احتياج هذه المؤسسات إلى تخفيض قيمة أدواتها المالية ورأسمالها المقترض، وما دام رفع رأس المال أمرًا صعبًا ومكلفًا، فإن المؤسسات المالية تلجأ إلى تخفيض نشاطها من خلال التقليل من الإقراض.
بيد أن ضعف الاقتصاد الشامل الذي تعاني منه الولايات المتحدة الآن يرجع إلى ما هو أبعد من العجز في الإمدادات من أرصدة الائتمان؛ إذ إن هبوط أسعار المساكن يؤدي إلى تقلص ثروات الأسر الأمريكية، وبالتالي انكماش الإنفاق الاستهلاكي، كما يؤدي انخفاض معدلات تشغيل العمالة إلى تقلص الأجور والدخول، ومع ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة تتقلص الدخول الحقيقية، فضلاً عن ذلك فإن انحدار النشاط الاقتصادي في بقية أنحاء العالم يعني انخفاض الطلب على صادرات الولايات المتحدة.
وفي اعتقادي أن استجابة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي كانت سليمة حين قرر تخفيض أسعار الفائدة على الصناديق الفيدرالية بصورة مفاجئة واحدة، وإنشاء مجموعة متنوعة من وسائل الائتمان الجديدة، فكان انخفاض أسعار الفائدة مفيدًا؛ لأنه جعل الدولار أكثر قدرة على المنافسة، ولكن من ناحية أخرى يبدو أن السياسة النقدية فقدت الزمام بسبب الحالة السيئة التي وصل إليها قطاع الإسكان والاختلال الوظيفي الذي تفشى في أسواق الائتمان.
أقر الكونجرس الأمريكي وإدارة بوش تخفيضًا ضريبيًّا بلغت قيمته مائة مليار دولار أمريكي سعيًا إلى تحفيز الإنفاق الاستهلاكي، وكان الذين قرروا مساندة هذه السياسة من بيننا يدركون عمومًا أن التاريخ والنظرية الاقتصادية يؤكدان أن مثل هذه التحويلات المالية التي تتم لمرة واحدة ضئيلة التأثير، ولكننا تصورنا أن هذه المرة قد تكون مختلفة، وكان دعمنا لهذه السياسة كما وصفه صامويل جونسون "انتصارًا للأمل على الخبرة".
بيد أن آمالنا خابت في النهاية؛ فقد صدرت الآن البيانات الرسمية الخاصة بالدخل الوطني عن الربع الثاني من هذا العام، ولقد أظهرت هذه البيانات أن تحفيز التخفيضات الضريبية للإنفاق الاستهلاكي كان ضئيلاً للغاية؛ حيث ادخرت الأسر الأمريكية أكثر من 80% مما استردته من رسوم ضريبية أو استخدمته في تسديد بعض ديونها، وعلى هذا فإن ما أضيف إلى معدلات الإنفاق الحالية كان ضئيلاً للغاية.
هذا هو إذًا موقف الولايات المتحدة الآن، فهي في أوج أزمة مالية طاحنة؛ حيث يشهد الاقتصاد انحدارًا شديدًا نحو الركود، بينما بلغت السياسة النقدية بالفعل أقصى حدود الارتخاء، وأصيبت التحويلات المالية بالعجز والوهن، وهو موقف غير سار على الإطلاق بالنسبة للرئيس الأمريكي القادم أيًّا كان.
الأزمة المالية بين السيئ والأسوأ
محمود مراد
صحيفة الأهرام المصرية 14/10/2008م
من الولايات المتحدة الأمريكية جاءنا الاثنين الأسود.. والسبت الأسوأ, وتدهورت في كل منهما ـ وبفاصل عدة سنوات ـ بورصة نيويورك وسوق المال الأمريكية, فتراجع الدولار وازداد العبء عنفًا وثقلاً على الأسواق العالمية، التي كانت قد طحنتها أزمة الغذاء العالمية منذ شهور, فأدَّى ذلك كله إلى آثار سلبية كئيبة على مجتمعات دول عديدة شرقًا وغربًا, إلى حد أن روسيا الاتحادية أوقفت حركة التعامل في بورصة موسكو لمدة ثلاثة أيام لمعالجة الانهيار الذي فوجئت به!
أما البورصة المصرية فبرغم ما حدث بها إلا أنها لم توقف نشاطها، والسبب لا يعود إلى حكمة القائمين عليها بقدر ما يعود إلى أن ذروة الانهيار في الأسواق المالية العالمية قد حدثت خلال إجازة البورصة بمناسبة عيد الفطر المبارك، وما أعقبه من الاحتفال بذكرى نصر أكتوبر المجيد.
ومع أن المسئولين ـ وفقهم الله وجزاهم خيرًا ـ قد خرجوا بتصريحات وردية عن أننا قد تجاوزنا الأزمة, إلا أن الحقيقة الثابتة تكشف أن ضررًا بالغًا قد حدث بمن يمكن تسميتهم صغار حملة الأسهم ـ ولا أقول المضاربين ـ في البورصة الذين خطفت أبصارهم أرباح الارتفاع في سعر السهم ـ خاصة بعد طرح أسهم شركة الاتصالات المصرية منذ نحو ثلاث سنوات, ومن ثم فقد جمعوا تحويشة العمر, وباعوا المصاغ وحملوا الحصيلة إلى شركات الأوراق المالية لشراء الأسهم التي ارتفعت أسعارها إلى الضعف خلال شهر واحد، وكان الوهم أن هذا الارتفاع سيتنامى فيتضاعف عدد المليونيرات في المحروسة!
وقد تواكب مع هذا ارتفاع أسعار الأراضي في المدن الجديدة والقديمة, وضربت الشقق كل التوقعات، وتوسعت عمليات التمويل بالرهن العقاري، وصدحت صيحات المنادين بنظرية اقتصاد السوق المفتوحة إلى مداها، وربطوا بين هذا وبين تطبيق الديمقراطية وشاع مفهوم الليبرالية بأنها تعني الحرية المطلقة.. سياسيًّا واقتصاديًّا.
ولم يكن ذلك ـ بكل المعاني ـ صحيحًا.. بل إن الرأسمالية - التي طرحوها بديلاً - ليس لها تعريف محدَّد، وليست أبدًا روشتة سحرية تعالج كل مريض، وتداوي كل داء، مع أن آدم سميث صاحبها قال: إنها تعني الحرية الاقتصادية، والحرية الاجتماعية. أي ـ بالتحليل المنطقي ـ يربط بين الحريات السياسية والاقتصادية وتوابعها وما بين العدالة الاجتماعية,؛ لأنها هي أساس بناء وتماسك المجتمع إنسانيًّا، وما يترتب عليه من بناء الهياكل الأخرى، لكن البعض للأسف الشديد أخذ بالحرية الاقتصادية ونسي وتناسي الاجتماعية!
وفي ضوء هذه النقطة, علينا البدء في بحث مستقبل ما بعد الأزمة المالية العالمية وتداعياتها علينا، وأول ما ينبغي فعله هو التخلِّي عن الأفكار الجاهزة، وضرورة الاعتقاد بأن لكل مجتمع خصوصياته النابعة من ذاتيته بمكوناتها التاريخية، وأوضاعها الحالية، والتركيبة المجتمعية لها، وأعتقد أنه يجب إفساح المجال للفكر المصري الذي يرى بأهمية صياغة رؤية مستقبلية.
ولعلنا بشكل محدَّد وعاجل, وفي إطار التعامل مع السلبيات, نطالب بعلاج ـ نعم علاج ـ صغار حملة الأسهم الذين أُضيروا في البورصة، ليس لمجرَّدِ تعويضهم - مع أن هذا أمر وارد، وقد لجأت واشنطن على غير المتوقع إلى تدخل الدولة ماليًّا لوقف الانهيار! إذن فإنه ليست هناك تابوهات محرمة - لكن أكثر من هذا فإن التعويض الذي أطالب به يستهدف إعادة الثقة لهؤلاء؛ لكي يستمرُّوا في شراء الأسهم، وإلاَّ فإنهم - خوفًا - سوف يبيعونها؛ مما يزيد من تعقيد المشكلة, فضلاً عن أنه سيمنع آخرين من توظيف أموالهم ومدخراتهم في القنوات المشروعة، وربما سيجدون أن الوسيلة الأفضل هي وضع الأموال تحت البلاطة، أو إعطائها لمن يجيدون اللعب بالبيضة والحجر، ويوهمونهم بقدرتهم على توظيف الأموال ومضاعفة الأرباح.
ثم هناك نقطة في غاية الأهمية, ولها الأولوية, وهي أنه إذا درسنا القاسم المشترك الأعظم في أسباب الانهيارات المالية قديمًا وحديثًا، والسبت الأسود، وانهيار السوق الآسيوية في التسعينيات على يد جورج سوروس، وصولاً إلى الاثنين الأسوأ.. فإننا نجد أن السبب الرئيسي هو الاعتماد في حركة السوق والانتعاش الاقتصادي النسبي على التجارة والمضاربة، وهذه إن نجحت فترة فإنها لا تستمرُّ دومًا.
ولعلِّي هنا أشير إلى ثلاث اجتماعات مهمة عقدها الرئيس حسني مبارك في يوم واحد ـ22 سبتمبر الماضي ـ الأول مع الأمانة العامة للحزب الوطني، والثاني والثالث مع رئيس مجلس الوزراء وعدد من الوزراء؛ وخلالها كان التأكيد الشديد على ربط النمو الاقتصادي بالعدالة الاجتماعية، ورعاية محدودي الدخل ـ ومكافحة الفقر ـ والتوسع في التأمين الصحي ـ وتوفير السكن لكل الشرائح ـ والعمل على تطوير مستمرٍّ للتعليم والبحث العلمي والتكنولوجيا.
لكن المشكلة في الذين يسعون إلى الربح الأسرع والأسهل؛ ولهذا فإن كثيرًا ممَّا يُطْلَقُ عليها مشروعات صناعية ليست إلاَّ استيراد قطع يتمُّ إعادة تركيبها حسب الكتالوج، وإذا حدث خطأ يستدعون الخبير الأجنبي لعلاجه، فكان أن تمت محاصرة البحث العلمي وتطبيقاته التكنولوجية, في حين أنه إذا حدث ارتباط عضوي بين العلم والإنتاج؛ فإن النتيجة تكون أفضل من حيث الكم والكيف، وصلابة الاقتصاد، والموقف المالي للدولة، فلا يهتز بشدة بمؤثرات أجنبية.
ولعلي ـ مجدّدًا ـ أطالب بتحركات أعمق وأكثر قوة وذكاء للتوسع في العلاقات الاقتصادية مع الدول العربية والأفريقية واللاتينية والأسيوية، على أن تستهدف تصدير منتجاتنا وإقامة مشروعات مشتركة، ولا تقتصر على استيراد السلع الرخيصة سعيًا وراء الربح السريع فقط؛ ولهذا يجب أن يكون التحرك سياسيًّا ثقافيًّا واعيًا، واتصالاً بهذا أتساءل في براءة! هل جرى استعداد حقيقي للقمة العربية الاقتصادية المقرر عقدها في الكويت بعد شهرين!
إن القضية مهمة ومتشعبة، وبالطبع فإنه ـ غير هذا وذاك ـ لا بُدَّ من التوسُّع في سلة العملات دون الاعتماد الأوحد على الدولار، ولا بُدَّ إذا سعينا إلى استقرار مادي أن نهتم ـ نكرر ـ بالعدالة الاجتماعية, وأن ننظر إلى خريطة مصر بكاملها؛ لنعيد اكتشاف كنوزها ـ وهي وفيرة ـ ونبحث في أفضل السبل لاستثمارها على خير وجه، هذا إذا كنا نبغي حياة سعيدة وتصبح الدنيا بمبي.. بدلاً من الأسود.. و.. الأسوأ..!!
أزمة مصرفية أم أزمة النهج الرأسمالي؟
نبيل شبيب[16]
الجزيرة نت 5 / 10 / 2008م
ما يلفت النظر في الأزمة المالية المصرفية أن درجة الأضرار والأخطار التي أصابت دولاً أخرى - عدا الولايات المتحدة - تتناسب طرديًّا مع درجة "حدَّة" تطبيق الرأسمالية فيها، ونعلم أن من أسماء "العولمة" -كما أظهرت السنوات الماضية- "الرأسمالية المتشدِّدة" القائمة على أرضية "الليبرالية الجديدة".
أزمة الرأسمالية المتشددة
الواقع أن انتشار الرأسمالية المتشددة لم يكن مع انهيار الشيوعية وتفكك المعسكر الشرقي، إنما بلغ آنذاك محطة متقدمة جديدة، أما بداية انتقال رأسمالية آدم سميث إلى مرحلة التشدد أو عودتها إلى التشدد، فكانت في أواخر السبعينيات ومطالع الثمانينيات من القرن الميلادي العشرين في عهد رونالد ريجان في الولايات المتحدة، وتزامن ذلك مع انتشار أفكار المسيحية الصهيونية والمحافظين الجدد، وقد شملت سياسته فيما شملت القضاء على بقايا قوة النقابات العمالية، والتأمينات الصحية والاجتماعية، ورفع بقايا القيود على رءوس الأموال، وتصعيد نفقات التسلح، حتى عُرِفَ ذلك النهج الاقتصادي من بعده بالسياسة "الريجانية".
آنذاك لم تكن جميع الدول الأوربية الغربية في أوضاع تسمح باتباع النهج نفسه، فكلما كانت الدولة الغربية أقرب جغرافيًّا إلى الحدود الفاصلة بين المعسكرين، كانت أكثر حذرًا في ممارسة الضغوط الرأسمالية على الطبقات الفقيرة لا سيما العمال؛ خشية ازدياد انتشار الشيوعية غربًا، والتي كانت - بغضِّ النظر عن مساوئها - متميزة بالضمانات الاجتماعية على حدٍّ أدنى شامل للسكان.
وهذا ما جعل الدول الإسكندنافية المجاورة للحدود السوفيتية السابقة معروفة بارتفاع مستوى هذه الضمانات، كما عُرف النظام الرأسمالي في ألمانيا الغربية - والمجاور مباشرة للنظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية - آنذاك باسم نظام السوق الاجتماعية (تمييزًا عن تعبير السوق الحرة).
ومع ملاحظة أن بريطانيا هي الأبعد جغرافيًّا عن الحدود الشرقية، يلاحظ أيضًا انتشار الرأسمالية المتشددة فيها مبكِّرًا، على نهج مماثل لنهج ريجان، وعُرفت به رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر، كما عرف نهجها بالسياسة "التاتشرية".
لا غرابة إذن أن تكون أشدّ الدول الأوربية تعرُّضًا لمخاطر الانهيارات المصرفية في الوقت الحاضر هي بريطانيا، وتليها إسبانيا، وهي بعد بريطانيا الأكثر ارتباطًا بشبكة المال والاقتصاد الأمريكي، وتأتي في مرتبة تالية فرنسا وألمانيا وإيطاليا.
أما فترة ما بعد الشيوعية فقد شهدت ازدياد انتشار الرأسمالية المتشددة، إلى درجة أن غالبية الأحزاب "الاشتراكية الديمقراطية" الأوربية أصبحت أحزابًا يمينية.
إنقاذ مَن؟
الأزمة بمنظورها الرأسمالي أزمة أصحاب رءوس الأموال، من مالكي المصارف المالية وشركات التأمين في الدرجة الأولى، وأصحاب الحصص الكبرى في مختلف القطاعات الاقتصادية الأخرى، حتى بلغت ثروات أقل من 5% من البشر ما يساوي ثروات أكثر من 80% من "البشر" الآخرين، هي أزمتهم ولكن ليس بمعنى انقلاب أوضاعهم من الرفاهية إلى فقر مدقع وبؤس مفزع، بل لهذه الأزمة محوران: أولهما كثافة الأخطاء التي أدَّتْ إلى تناقص الأرباح أو انقلابها جزئيًّا إلى خسائر، والثاني فقدان الثقة المتبادلة "بينهم"، والمقصود هنا هو "الثقة المالية"، بمعنى توقع تسديد ما يقرضه مصرف لمصرف آخر.
وقد كانت القاعدة الذهبية للرأسمالية منذ عهد آدم سميث تقوم على "حرية رأس المال"، بمعنى إعفائه من كل ضابط قانوني - ناهيك عن الأخلاقي - في ميدان تشغيله، وأن كل ما عدا ذلك؛ كالأسعار، أي: تكاليف الحياة على العامة، أو كسوق اليد العاملة، أي: طلب الرزق بالجهد البشري، أو كالتطوّر التقني والعلمي، أي: إيجاد خدمات ومنتجات جديدة، جميع ذلك يتحقَّق - أو يُفترض تحقيقه - من خلال التنافس بين مالكي