[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
كان الكثيرون يعلِّقون آمالاً عريضة على الانتخابات الرئاسيَّة النيجيريَّة الأخيرة لإعادة الهدوء والاستقرار لأكبر بلد إفريقي من حيث عدد السكان وإنهاء الاحتقان بين الغالبيَّة المسلمة في شمال ووسط البلاد والأكثرية المسيحيَّة في الجنوب، إلا أن النتائج المثيرة للجدل التي شهدتها هذه الانتخابات والتفوق الكاسح لمرشح حزب الشعب الديمقراطي الحاكم جوناثان وما شاب الانتخابات من اتِّهامات بالتزوير أحبط أي آمال بقدرة هذه الانتخابات على العبور بالبلاد لبرّ الأمان..
في ظل خوض الحزب الحاكم كأنها معركة حياة أو موت بعد النتائج المخيِّبة التي حقَّقَها في الانتخابات التشريعيَّة وخسارته لعدد مقاعد مهمَّة لصالح حزبي المعارضة الرئيسيين العمل ومؤتمر التغيير الديمقراطي.
وزاد من حالة الاحتقان تحقيق جودلاك المنحدر من دلتا النيجر الجنوبي ما يقرب من 20.8 مليون صوت في مقابل حصول حاكم نيجيريا السابق الجنرال محمد بهاري على 10 ملايين صوت بشكلٍ دعَا عددًا من المراقبين ومن بينهم مسئولون رسميون وسابقون للتأكيد بأن مناطق الجنوب بشكلٍ عام لم تشهد اقتراعًا نزيهًا، بل لم يتجاوز الأمر تزويرًا فاضحًا تورّط فيها الحزب الحاكم وسط ما تردَّد عن قيام طائرات الجيش النيجيري بنقل ملايين من استمارات التصويت من العاصمة أبوجا للمناطق الجنوبية مجهزًا سلفًا لصالح جودلاك.
تلاعب واسع :
بل إن تقارير ذات مصداقيَّة أكَّدت أن الكثير من المدن والولايات الشماليَّة المسلمة شهدت كذلك عملية تلاعب واسعة بفضل اختيار جودلاك لحاكم لولاية كادونا الشماليَّة السابق نامادي سامبو نائبًا له، فضلاً من قيام حكام جميع ولايات الجنوب بتزوير جميع نتائج الانتخابات الرئاسيَّة لصالح الرئيس المسيحي في ظلِّ انتمائه لمنطقة دلتا النيجر، والتي لعبت الدور في محاولة تقسيم نيجيريا في سبعينيات القرن الماضي عبر تأسيس دولة بيافرا بدعم من الكيان الصهيوني وهو ما تكرر في الجنوب الشرقي باستثناء ولاية أوشن التي يرأسها حاكم مسلم، وهو ما أثار غضب وحنق الأغلبيَّة المسلمة.
وما يعزِّز من احتمالات دخول نيجيريا نفقًا مظلمًا على إثر نتائج هذه الانتخابات ما شهدته مناطق وولايات الشمال النيجيري ذات الأغلبية مثل كانو وكادونا وغيرها من أحداث عنف واحتجاجات موسعة على ما اعتبره المسلمون تزويرًا فاضحًا لنتائج الانتخابات يكرِّس تهميشهم وإبعادهم عن دوائر صنع القرار في البلاد منذ عام 2000م بالتزامن مع وصول المسيحي المتعصب أوليسجون أوباسانجو لسدَّة الحكم وقيادته مخططًا لتمكين الأقلية المسيحيَّة من جميع مفاصل البلاد, وفتح الأبواب أمامهم لتبوؤ أرقى المناصب في الجيش والسلك الدبلوماسي والدوائر الحكوميَّة.
نفوذ أوباسانجو :
ويرى المراقبون أن حالة الصمت التي أبدتها الأغلبيَّة المسلمة على محاولات تهميشهم طوال السنوات الماضية لن تستمرَّ، خصوصًا أن وصول جودلاك المسيحي لسدة الحكم قد قضى على الاتفاق غير المكتوب بتناوب السلطة بين شخصيات مسلمة ومسيحيَّة داخل الحزب الحاكم، باعتبار أن الرئيس الراحل عمر يارادو لم يتمّ ولايته الأولى في الحكم بشكلٍ يستوجب اختيار شخصية مسلمة لاستكمال هذه الولاية، وهو ما حال نفوذ أوباسانجو داخل الحزب الحاكم دون تحقيقه، بل ودفعه بجودلاك للسطو على السلطة مستغلاً حالة التشرذم السائدة داخل الصفّ المسلم.
ولا يستطيع أي مراقب أن ينكر أن نتائج هذه الانتخابات ستعزِّز ما يمكن أن يطلق الفرز الطائفي داخل البلاد؛ فالأغلبية المسلمة تدرك أن وصول جودلاك لا يعدو كونه حلقة في مسلسل انفراد الأقليَّة المسيحيَّة بالهيمنة على البلاد مؤيدين من جهات استخباراتيَّة غربيَّة وإرساليات تنصيرية رصدت ميزانيات مفتوحة لتنفيذ هذا المخطط، والذي بدأ منذ تسعينات القرن الماضي عبر محاولات تصفية واغتيال عدة رموز مسلمة وتمهيد السبيل لهيمنة شخصيات مسيحية على الحزب الحاكم.
مخطط تذويب :
واستغلَّت هذه القوى سيطرة الأقليَّة التنصيرية على مفاصل البلاد وهيمنتها على المؤسسات التعليميَّة والخدميَّة والصحية والإعلاميَّة، لدرجة أنهم يمتلكون أكثر من 20 معهدًا إعلاميًّا في حين لا يسيطر المسلمون إلا على معهد واحد، في حين يشكِّل الطلاب المسيحيون أكثر من 80% من طلاب الجامعات الحكوميَّة، فيما لا تتجاوز نسبة المسلمين فيها 20% وهو ما يكشف عن حجم الأوضاع المزرية التي تواجه المسلمين، والتي شكلت عامل إغراء لاستغلال مأساتهم لتذويب هويتهم وإقناعهم بالارتداد عن الإسلام باعتباره المسئول عن مشاكلهم ليس في المناطق الجنوبية التي يشكِّلون فيها أقلية بل في معاقلهم الشماليَّة.
ولا شك أن انحدار جودلاك من مناطق الجنوب وبالتحديد منطقة دلتا النيجر الغنية بالنفط لم يأتِ بالصدفة، بل جاء كمؤشر على ضرورة هيمنة الجنوب المسيحي على عائداته، بل واستغلالها في تنمية هذه المناطق، وهو ما سيعيد للأذهان الأزمة التي اندلعت في أواخر الستينات من القرن الماضي بسبب رفض الأغلبيَّة المسلمة سيطرة الجنوبيين على هذا القطاع وقصر استخدام عائداته على مناطقهم، مما أدى لانفصال بيافرا بشكل مؤقت عن نيجيريا قبل استسلام قادة الانفصال لحكام البلاد وإقرارهم بتقسيم موارد النفط على ولايات نيجيريا الـ 36 ويخشى أن يسعى جودلاك لمحاولة تكرار هذا السيناريو، وإن كان بشكلٍ أقلّ فجاجة.
فرز طائفي :
ويعتبر جناح واسع في أوساط المسلمين أن فوز جودلاك يفتح الباب أمامه لوضع يديه على مليارات الدولارات من عائدات النفط واستخدامها في إرضاء مناصريه خصوصًا في دلتا النيجر المستاءين بشدة من عدم استفادتهم بقسط كبير من هذه العائدات، بل ووقوع مناطقهم ضحية لشركات النفط العالميَّة وعدم التزام الأخيرة بضخّ ولو جزء يسير من أرباحها في هذه المنطقة المهمَّشة رغم غناها بالنفط، وهو أمر سيحرك النزعات العرقية والطائفية خصوصًا أن أي تمييز لمعقل جودلاك يعد مخالفًا لاتفاق 1973م والذي ضمن قسمة عادلة للموارد النفطيَّة لكل الولايات.
ومن مفارقات الموقف الراهن أن جودلاك ورغم انتمائه لدلتا النيجر عجز خلال العامين الماضيين عن تثبيت اتفاق الهدنة الهش في المنطقة الغنية بالنفط والذي لعب الرئيس الراحل عمر يارادو الدور الأكبر في توقيعه؛ إذ بدا جودلاك عاجزًا عن تبني سياسات ترضي مليشيات المقاتلين والراغبين بقوة في استغلال الثروة في تحسين الأوضاع الاقتصاديَّة، خصوصًا أن الرئيس المنتخب لا يحكم سيطرته على مؤسَّسات صنع القرار وفي مقدمتها الحزب الحاكم والمؤسسة العسكرية الراغبة في عدم تصعيد التوتر بين مناطق البلاد والعمل على تمرير هادئ لسيناريو هيمنة الجنوبيين المتدرجة على البلاد.
خطوة خطوة :
ولكن الأوضاع قد لا تسير وفق رغبات هذه الجهات, فالمسلمون الشماليون يدركون منذ فترة أن البساط يسحب من تحت أقدامهم وفقًا لاستراتيجيَّة الخطوة خطوة، ومع هذا فإن الجناح المعتدل بين أوساطهم لا زال يسيطر على القرار، وهو ما سيتعرض لاختبار صعب خلال المرحلة القادمة حيث لم يعد هذا الجناح يمتلك الحجج والمبررات؛ لتفسير المجازر المتتالية في صفوفهم في الشمال والوسط والجنوب على يد العصابات المدعومة من الإرساليات التنصيريَّة بشكلٍ قد يفتح الباب أمام استرداد التيار الأكثر تشددًا لزمام المبادرة, وتصاعد احتمالات عمليات انتقام واسعة ضد أهداف حكوميَّة ومسيحيَّة في جميع بقاع نيجيريا قد يرد عليه الجيش النيجيري بقوَّة؛ مما يفتح الأبواب أمام انزلاق البلاد لحرب أهليَّة قد يصعب التنبؤ بتداعياتها على وحدة واستقرار البلاد.
السيناريو العاجي :
ويستحضر حجم الاحتجاجات الدموية على فوز جودلاك المثير السيناريو العاجي لصدارة المشهد النيجيري، لا سيَّما في حالة استمراره واكتسابه زخمًا بشكلٍ قد يجبر القوى الدوليَّة على التدخل لإيجاد تسوية لهذه الأزمة في إطار سعي هذه القوى للحفاظ على مصالحهم النفطيَّة، إلا أن مراقبين يرون فروقًا واضحًا، فالصلات والعلاقات الدولية التي يمتلكها الرئيس العاجي الحسن واتارا لا تتوفر لمرشح الرئاسة الجنرال بوهاري الذي تطلق عليه وسائل الإعلام الغربيَّة لقب الديكتاتور، وهو ما يفسر حالة الصمت الغربيَّة على حجم التزوير الذي شاب الانتخابات وتضاؤل احتمالات تدخل دولي قوي باستثناء العمل على استرضاء الشماليين ببعض المناصب الرفيعة.
صراع طائفي :
والواقع أن نتائج الانتخابات النيجيريَّة وما شابها من احتجاجات دموية وأعمال انتقاميَّة متبادلة بين الشمال والجنوب قد تضع وحدة واستقرار البلاد على المحكّ، فالشماليون لن يقفوا مكتوفي الأيدي تجاه محاولات تهميشهم سياسيًّا واقتصاديًّا، والجنوبيون لن يدعموا استمرار تقاسم النفط بين الولايات في ظلّ استحواذ مناطقهم على أغلب الثروة النفطيَّة، وهو سيناريو مكرَّر للصراع بين شطري السودان..
ولكن سيناريو التقسيم بين الشمال والجنوب النيجيري لا يحظى بدعمٍ وتوافق دولي، مما يفرضُ حالة من الغموض على استمرار التعايش بين جنوب مسيحي مدعوم غربيًّا وشمال ووسط ذي أغلبيَّة مسلمة يقف وحده محرومًا من دعم إقليمي أو حتى من أبناء جلدته العرب والمسلمين، بل يسوده انقسام، وإلى أن يحدث تطور جَذري في معدلات القوى يبقى الوضع النيجيري مرشحًا للتصاعد وربما الانفجار.
المصدر: موقع الإسلام اليوم.