[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
يومٌ من أيام الله، وفرحةٌ لا تدانيها فرحة، وخبر لو قيل لأشد الناس تفاؤلاً إنه سيقع في مثل هذه المدة الزمنية القصيرة، لاستلقى على قفاه من كثرة الضحك، ولاتّهم المتحدث به بالجنون أو الخيال، فقد فعلها المصريون، وأسقطوا النظام الاستبدادي الذي جثم على صدور البلاد لأكثر من ثلاثين سنة عجاف، وذلك في أقل من ثلاثة أسابيع.
المصريون عانوا كثيرًا من نظام استبدادي فاسد دكتاتوري بوليسي قمعي، يبطش بشعبه، يحاكي فرعون في طغيانه، يستضعف الرجال ويهين النساء ويضيع مستقبل الأبناء، فكم من قتيل مجندل في قيوده، ومتشحط في دمه، لا لشيء إلا لأنه يقول: ربي الله! وكم من أسير ضاعت سنوات شبابه وزهرة أيامه في غياهب السجون المظلمة؛ لأنه كان يبحث عن الحق والعدل! وكم من داعية وشيخ وإمام، قد كمم فاه وغلت يده وأجبر على قول ما لا يعتقد، والتغني بأمجاد الطاغية ومآثره؛ خشية الإملاق والطرد والإغلاق! وكم من غريق بلعته أمواج البحر الهادرة، وهو يحاول الهجرة إلى الخارج؛ باحثًا عن طالعه ومستقبله، بعد أن صادر أحلامه وطموحاته، حيتان الفساد وأباطرة الطغيان من رجال مبارك وأعوانه!..
وكم من شاب انحرف وركب طريق الضياع؛ لأنه لم يكد عملاً شريفًا وكريمًا شأنه في ذلك شأن قرنائه في باقي دول العالم! وكم من محجبة عفيفة لم تستطع أن تحصل على فرصة عمل لائقة؛ بسبب حجابها، خاصة المدرسات والمعلمات! وكم من مريض أنهكته الأمراض الغريبة التي لن تكن في أجدادهم، والتي تسبب فيها الفاسدون ومعدمو الضمير من رجال مبارك، الذين استوردوا الأغذية منتهية الصلاحية، والبذور المسرطنة! فكم من علف للمواشي قد أكله المصريون على أنه طعام الآدميين! وكم من شحنات طعام فاسدة قد استقرت في بطون المصريين فأورثتهم الأمراض والأوبئة! حتى تربع المصريون على صدارة التصنيف الدولي في مرضى الكبد والكلى والسرطان بأنواعه المختلفة!..
وكم من مواطن لف ودار ليل نهار من أجل الحصول على أبسط حقوقه المشروعة التي كفلها له الشرع والعرف والعقل وحتى الدساتير الوضعية، ورغم ذلك لا يتحصل عليها؛ لأن فرعون العصر قد قسم البلاد شيعًا وأحزابًا وطوائف، السعيد منهم من نال رضاه ودار في فلكه، والشقي منهم من طرد من حظوته ولم يدخل تحت سطوته، حتى أصبحت مصر مثل السجن الكبير الذي يحلم كل شاب بالخروج من وراء قضبانه؛ لينال حريته، ويستعيد كرامته وفرصته في الحياة الكريمة. ومن شدة ما عانى المصريون من هذا الطغيان والاستبداد، أصبح اليأس داءً مستشريًا في المصريين، وارتدى كثير من المصريين منظارًا أسود، وأصبح شعارهم المفضل (مفيش فايدة)، وتغنى شاعرهم بالأبيات الشهيرة:
يا قوم لا تتكلمـوا إن الكلام محـرم
ودعوا التفهم جانبا فالخير ألا تفهموا
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النُّـوم
إن قيـل هذا نهاركم ليل فقالوا مظلم
وإن قيل عسلكم مـر فقالوا علقـم
وإن قيـل ما تستحقون فقالوا نعـدم
هذا لمـن أراد أن يلقـى عيشه مكرم
ولكنهم -وللأسف الشديد- ما نالوا عيشًا مكرمًا، بل ظلم وإهانة واستبداد على البلاد والعباد. ورغم كل ما كان يلاقيه المصريون من نظامهم القمعي المستبد الذي أهدر كل حقوقهم وكرامتهم، فإن المصريين قد عانوا من قهر وظلم من نوع آخر، عانوا من ظلم إخوانهم في العروبة والدين، فأصبح المصري في الخارج يعاني من تميز واضح وإهانة مقصودة وازدراء متعمد، أصبح المصريون في العقل الجمعي عند العرب والمسلمين، مرادفًا للفساد والانحلال والفوضى والتسيب والإهمال، فَقَد المصريون تعاطفهم من إخوانهم العرب والمسلمين، وحمّلوهم أوزار نظامهم الفاسد الموالي لأعداء الأمة العربية والإسلامية..
وكأن الشعب المصري هو المسئول الوحيد عن خطايا نظامه، فالذي حاصر قطاع غزة وخنقها هم المصريون، والذي فتح قناة السويس للأساطيل الغازية للعراق هم المصريون، والذي باع الغاز لإسرائيل وتعاون معها في محاربة حماس هم المصريون. وبالجملة لم يفرق العرب والمسلمون بين النظام وبين الشعب المظلوم المقهور تحت جهاز أمني مهول تعداد من يعمل قرابة المليونين من جلاوزة النظام البائد، ورويت مئات بل آلاف القصص عن مآسي المصريين بالخارج، وكيف أن صورتهم شديدة القتامة في أعين العالم بأسره، حتى استخفى كثير من المصريين بأصولهم في الخارج، وأسرُّوا بمصريتهم خشية الإهانة والاحتقار.
واليوم أعاد المصريون كتابة التاريخ بسواعد الشباب الأطهار الذين قادوا الثورة المباركة، وأحدثوا في أقل من ثلاثة أسابيع ما لم تستطع أن تحققه الجماعات الإسلامية والأحزاب السياسية والعمليات الجهادية في عشرات السنين، اليوم المصريون يغيرون وجه العالم بأسره، ويغيرون النظام العالمي القديم، المصريون اليوم يجبرون أمريكا وإسرائيل وغيرهما من قوى الشر التي دعمت وجود الدكتاتوريات القديمة مثل بن علي ومبارك وغيرهما، على أن يغيروا قواعد اللعبة الدولية، ويتخلوا عن دعم هؤلاء الشر في منطقتنا العربية والإسلامية.
أمريكا وحلفاؤها اليوم مجبرون ومضطرون للموافقة -ولأول مرة- على رغبات شعب عربي ومسلم أراد الحياة بكرامة وعزة وشرف، وعلى الرغم من المحاولات القوية التي بذلها كل أعداء الأمة لوأد مثل هذه الثورة المباركة، إلا أنهم في النهاية لم يجدوا بدًّا من التعامل معها والاعتراف بنجاحها، والذي يسمع لخطاب أوباما الذي ألقاه عقب فرار مبارك، يشعر كأنه يستمع إلى خطيب من خطباء ميدان التحرير البلغاء الفصحاء، في مشهد لم نعهده على رئيس أمريكا، مع العلم بأن مسار هذه الثورة لو استمر على نفس المنوال فسوف يضر كثيرًا بمصالح أمريكا بالمنطقة..
الثورة المصرية المباركة، أعادت رسم المنطقة والعالم العربي والإسلامي بأسره، وتغيرت كثير من قواعد التعامل الدولي، ونهض العرب والمسلمون من كبوتهم، وأصبحت أمريكا وغيرها من دول العلم مجبرة على التعامل مع نظم جديدة وأفكار جديدة، يكون فيها الجميع على قدم المساواة، فلا إملاءات خارجية ولا ضغوط أجنبية، بل احترام متبادل وتقدير فعلي ومصالح مشتركة.
المصريون استطاعوا أن يصنعوا أروع ثورة شعبية في التاريخ الحديث، فالشعب المصري وحده هو الذي قد حسم المعركة وأجبر الطاغية على الرحيل، الشعب وحده بصموده وبقائه في مظاهرات سليمة بكل بسالة وشجاعة، يستقبل بصدره العاري زخات الرصاص المطاطي والحي، لا يبالي بمن سقط من الشهداء والأبطال من خيرة وزهرة الشباب، الشعب المصري صنع تاريخًا مجيدًا في تاريخ الكفاح السلمي فاق به كل الثورات السابقة التي كان للجيش أو العنصر الخارجي كلمة الفصل في تحديد مصيرها، بما فيها ثورة تونس المباركة؛ فالشعب المصري وحده كان اللاعب الوحيد والفاعل على الساحة، طاشت مؤامرات سليمان المخابراتية، وفشلت خطط صفوت الشريف الشيطانية، وحتى عناد وصلابة مبارك الشهيرة لم تصمد أمام العزيمة الأسطورية للشعب المصري الذي أصر على الحياة، فكان له ما أراد.
المصريون قالوا كلمتهم الأخيرة وغيروا شعار حياتهم، وغيروا معه وجه التاريخ والعالم بأسره، وبدلوا أشعارهم السابقة وأصبح شاعرهم يقول اليوم:
لا تسقني ماء الحياة بذلة *** بل اسقني بالعـز كأس الحنظـل
مـاء الحياة بذلة كجهنم *** وجهنـم بالعز أشـرف منـزل
المصدر: موقع مفكرة الإسلام.