[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
خبر ذو دلالات كثيرة، مر مرور الكرام في ثنايا الأحداث الملتهبة والعاصفة التي تشهدها مصر هذه الأيام، حيث الكل مشغول بتداعيات الثورة المباركة التي قادها شباب التحرير، لإنقاذ مصر من نظام سلطوي مستبد، جثم على صدور أبنائها لعشرات السنين، هذا الحادث هو مصرع النقيب عصام فتحي رئيس مباحث مركز قنا، الذي توفي الاثنين الماضي، وقد وصفت وسائل الإعلام المحلية الحادث على أنه انتحار، نتيجة اكتئاب لازم النقيب منذ أحداث الثورة المباركة..
وقد حضرت الجنازة قيادات أمنية رفيعة المستوى في وزارة الداخلية، وقد بدا على الجميع التأثر من جراء هذا الحادث، الذي يعتبر جديدًا وغريبًا علي العقلية البوليسية الاستعلائية التي تحكم عقول معظم ضباط الداخلية المصرية، والتي ترفض فكرة تأنيب الضمير ووخز الذكريات الأليمة، ولكن سرعان ما ظهرت أخبار أخرى جديدة تفسر الحادث على أنه قتل بالخطأ وليس انتحاراًَ، فقد نفى تقرير الأدلة الجنائية بمديرية أمن قنا نفيًا قاطعًا انتحار النقيب عصام فتحي رئيس مباحث مركز قنا، وجاء بالتقرير أن سبب الوفاة إصابة الضابط بطلق ناري بالرأس عن طريق الخطأ من سلاحه الرسمي حال تواجده باستراحته بشارع المعبر بمدينة قنا, وأوضح التقرير أن هناك ثلاث طلقات نارية خرجت من السلاح الرسمي الخاص بالضابط, الأولى استقرت في باب غرفة نومه والثانية استقرت برأسه وهي التي أودت بحياته على الفور والطلقة الثالثة انحشرت في ماسورة السلاح، وسياق الرواية لا يحتاج الوقوف عنده للتدليل على مدى صحتها.
وبغض النظر عن صحة هذه الرواية ومدى قربها أو بعدها عما حدث للضابط المنحور أو المنتحر، وهل تم قتله للتخلص من الكثير من الأسئلة المحرجة؟ أم انتحر فعلاً؟ فإن الأوضاع الملتهبة والأخبار المتلاحقة في مصر الآن تفرض نوعًا من التعاطي الحذر مع ما يقبل من حوادث من هذا النوع، ذلك أن ملفات الفساد في النظام السابق تعتبر من العيار الثقيل، وإذا فتح التحقيق فيها بصورة موسعة سوف تطال تقريبًا كل رجال النظام السابق، وكل رجال الحزب البائد.
الزواج المحرم:
مع أواخر القرن الماضي وتحديدًا سنة 1997م كانت الأوضاع الاقتصادية في مصر تسير بخطى بطيئة ولكنها كانت جيدة، وحدث تحسن ملحوظ في مستويات النمو الاقتصادي، وذلك تحت رئاسة الدكتور كمال الجنزوري الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء، حتى إن مصر حققت ولأول مرة نموًّا اقتصاديًّا بلغ 8 %، وشهدت الأوضاع المعيشية في مصر تحسنًا شهد له الجميع، حتى اختفى الدكتور كمال من المشهد السياسي سنة 1999م، لأسباب يعلمها جيدًا رجال الحزب الحاكم الذين كانوا يخططون مبكرًا لحقبة ما بعد مبارك الأب، لصالح مبارك الابن..
وقد تولى بعده منصب رئاسة الوزارة الدكتور عاطف عبيد، لتنطلق حملة خصخصة هوجاء ومريبة، بلا ضوابط ولا رقابة للمؤسسات العامة والمصانع الكبرى والشركات الناجحة، في مخطط استنزافي نهبت به مئات المليارات من خيرات البلاد، وأيضًا شهدت فاتحة الألفية الجديدة شراكة من نوع جديد، أشبه ما تكون بالزواج المحرم، بين السلطة ورأس المال، السلطة بكل ما تملكه من نفوذ وقوة واستبداد، مع رأس المال الاحتكاري الذي لا يبالي بمصالح البلاد والعباد.
ومع تطور الأوضاع داخل مصر ووصول مخطط التوريث لمرحلة الفكر الجديد، وتحديدًا سنة 2004م، تولى الدكتور أحمد نظيف رئاسة الوزارة الأشد ضررًا والأكثر كراهية لدى المصريين، وهي وزارة رجال الأعمال، والتي شهدت لأول مرة التخلي عن مبدأي الولاء والتكنوقراطية كشرط لتولي المنصب الوزاري، ليدخل الوزارة رجال الأعمال، والمليونيرات من القطط السمان الذي أثروا بصورة مذهلة في أيام حكومة عاطف عبيد، فماذا فعلت وزارة رجال الأعمال في مصر؟
تولى رجال الأعمال ست حقائب وزارية في مصر هم: رشيد للصناعة, والمغربي للإسكان, وجرانة للسياحة، وأباظة للزراعة, والجبلي للصحة, ومنصور للنقل، والنتيجة كانت فاجعة على مصر والمصريين، فلقد استشرى الفساد وتهالكت مقومات الدولة، وأصبح الوزراء في واد والشعب في واد آخر، وكأنهم يعملون ضد هذا الوطن، والأمثلة كثيرة، فها هو حاتم الجبلي وزير الصحة يلغي علاج الفقراء على نفقة الدولة ويسعى لتحويل المستشفيات الحكومية إلى استثمارية، وها هو رشيد محمد رشيد يلغي ازدواج طريق البحر الأحمر وهو المشروع التاريخي الذي انتظره أهالي الجنوب لعشرات السنين، وها هو وزير الزراعة أمين أباظة يرى التعديات المتكررة على الرقعة الزراعية ولا يحرك ساكنًا, رغم علمه التام بأهمية استصلاح أراض جديدة في الصحراء لتحقيق الاكتفاء الذاتي للقمح، والمغربي وزير الإسكان يصدر عقود بيع لأراضي الدولة بمساحات ضخمة وبأسعار زهيدة بل مضحكة مبكية في نفس الوقت..
تجلت توابعها في المظاهرات عندما هتف الثوار قائلين: (كيلو العدس بعشرة جنيه، ومتر الأرض في مدينتي بنصف جنيه), ومدينتي مملوكة لرجل الأعمال هشام طلعت اشتراها بنصف جنيه للمتر الواحد، وقد باعها المتر بخمسة آلاف جنيه، وما ينطبق على أراضي مدينتي ينطبق على العديد من المدن الاستثمارية الجديدة لرجال الأعمال الكبار في مصر، وجرانة وزير السياحة قفزت ثروته إلى 11 مليار جنيه بعد أن كانت شركاته متعثرة قبل توليه الوزارة، وملفات الفساد كبيرة وواسعة ومتشعبة, والأيام القادمة سوف تحمل كثيرًا من المفاجآت السارة لجموع الشعب الذي سيكتشف مدى حجم الفساد الذي كانت تغرق فيه البلاد، في ظل الزواج المحرم بين السلطة الطاغية ورأس المال الفاسد.
هل سيسقط رجال الأعمال وحدهم ؟
شهدت الأحداث التي عقبت اندلاع الثورة المباركة في مصر، قيام بقايا النظام بعملية تقديم كبش، بل كباش فداء لامتصاص غضب الجماهير الثائرة، فبدأت الخطوات بتشكيل وزارة بلا رجال أعمال، والتخلص من الوزراء الأكثر كراهية للشعب المصري، مثل وزير المالية يوسف بطرس غالي ووزير الأوقاف حمدي زقزوق ووزير الثقافة فاروق حسني، ثم تلا تلك الخطوة تحويل العديد من رجال الأعمال مثل: أحمد عز ورشيد محمد رشيد وجرانة والمغربي للتحقيقات، مع القبض على طاغية العصر حبيب العادلي وزير الداخلية وتحويله للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى، وقد كشفت التحقيقات الأولية مع هذه الأطراف وجود الكثير من الخيوط المتشابكة بين رجال الحزب الحاكم (سابقًا) ورجال الأعمال موضع الاتهام، وبدا للعيان أن سقوطهم لن يكون هينًا، وأنهم أبدًا لن يسقطوا بمفردهم.
فقد كشفت التحقيقات الأولية مع عز والمغربي وجود شراكة منافع متبادلة مع شخصيات نافذة في الحزب الحاكم وخاصة القائمين منهم على مخطط التوريث الذي تبخر وتحطمت آماله على صخرة الانتفاضة الشعبية العظيمة، وقد تكشفت عواقب هذه التحقيقات، في استقالات بالجملة في الحزب الوطني, الذي شهد عملية هروب جماعي تشبه الهروب الجماعي من السجون، للكثير من كوادره ورجاله الذين قضوا معظم حياتهم يتغنون بأمجاد الحزب ومآثره وأفضاله وإنجازاته لمصر والمصريين!
هذا الأمر سيقودنا على الأغلب لمعضلة كبرى، وهي هل سيسمح بقايا النظام والرئيس المنتظر - عمر سليمان على الأغلب- بزج أسماء من العيار الثقيل، من كبار سدنة العهد البائد، الذين كان المساس بهم من المحرمات التي لا تغتفر، في هذه القضايا الكبيرة؟ وكيف سيكون التعامل مع هؤلاء الذين قرر بقايا النظام التضحية بهم كقرابين للرضا الشعبي، إذا ما قرروا كشف المستور، وهدم المعبد على رءوس الجميع؟
برأيي أن المخرج لهذه المعضلة لن يكون إلا بإحدى سبيلين لا ثالث لهما، إما بطي هذه الملفات وإغلاق القضايا على أساس عدم كفاية الأدلة أو غيرها من المبررات التي عادة لم ولن ترضي الشعب، وهو سبيل خطير عواقبه وخيمة لأن سلوكها سيزيد الأمور توترًا واشتعالاً، وبقايا النظام يحاول لملمة الأوضاع المضطربة قدر استطاعته ليبدو أمام العالم, بالقدرة على ضبط الأمور والسيطرة على الداخل..
أما السبيل الثاني هو نشر ثقافة الانتحار بين المسئولين الفاسدين ورجال العهد البائد، وهي ثقافة غائبة عن هؤلاء ليس لاعتبارات دينية لا سمح الله، فهم أبعد الناس عن هذه الاعتبارات، ولكن لاعتبارات تتعلق بالضمير والأخلاق، والتخلص من هذه الملفات الثقيلة والمكتظة بالأسماء المدهشة بانتحار المتهم الرئيسي، وبانتحاره سوف تطوى الكثير من الأمور العالقة وتهدأ النفوس الثائرة، وسواء وافق هؤلاء على الانتحار أو لم يوافقوا، فإن غيابهم عن ساحة الأحداث بالموت هو الحل الأمثل الذي سيحل كثيرًا من المشاكل العالقة ويقود إلى الخروج الآمن للعديد من رموز النظام السابق، وبذلك يكون رجال الحزب الحاكم (سابقًا) قد أضافوا شعارًا جديدًا في الحياة السياسية المصرية وهو شعار (الانتحار هو الحل).
المصدر: موقع مفكرة الإسلام.
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]