[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة] ديوان الإنشاء في عصر الخلافة الأموية
وفي عصر الخلافة الأموية كانت الحاجة لكُتَّاب الإنشاء أشدَّ من ذي قبل؛ حيث اتسعت رقعة الخلاقة الإسلامية، وتعدَّدت مراسلات الخليفة لعماله وولاته، فظهرت كتابة الإنشاء بشكل واضح جلي، وكان ديوان الإنشاء وقت الأمويين خليطًا من الكُتَّاب العرب وغيرهم من الموالي والأجناس الأخرى؛ فأبو الزعيزعة مولى عبد الملك بن مروان، وروح بن زنباع الجذامي كانا من كُتَّابه المقرَّبين، وبسبب المهارة الفائقة التي تمتع بها روح ابن زنباع، وجدنا عبد الملك بن مروان يصفه بإعجاب بأنه "فارسي الكتابة"[1].
وكان ديوان الإنشاء يُفَوَّض إلى كاتب يُشرف عليه ويقوم بإدارته، فكان عبد الحميد بن يحيى العامري (ت132هـ) الملقب بعبد الحميد الكاتب، من أشهر كُتَّاب الخلافة الأموية، وأشهر كُتَّاب الحضارة الإسلامية فيما بعد، فلمنزلته المرموقة في دولة بني أمية اتخذه مروان بن محمد (ت 132هـ) آخر خلفائهم بمنزلة وزير له، بجوار وظيفته الأساسية ككاتبٍ للإنشاء والرسائل.
ويُعَدُّ عبد الحميد الكاتب أول من وضع القواعد العامَّة، والسمات الرئيسة التي يجب أن تتوفَّر في كاتب الإنشاء، ولمكانته العليا في هذا الميدان قيل: "فُتِحَت الرسائل بعبد الحميد وخُتِمت بابن العميد"[2]. ولذلك فإن تلاميذه قد احتلُّوا المكانة المرموقة في الدولة لا سيما عند مؤسسة الخلافة، فكان من جملة تلاميذه يعقوب بن داود، الذي عُيِّن وزيرًا للخليفة العباسي المهدي[3].
ديوان الإنشاء في عصر الخلافة العباسية
وقد تطورت الكتابة بشكل أوسع في ظلِّ الخلافة العباسية، فمع الأشكال المعهودة من قبلُ لديوان الإنشاء وكُتَّابه، أُضيفت اختصاصات أخرى لهذا الديوان في العصر العباسي، فأهم هذه الاختصاصات كان التوقيع؛ والمراد به توقيع الخليفة بعبارات مختصرة على رقاع أصحاب الحاجات، وكل هذا يتم بعد أن يراها صاحب الديوان، فيختصر المسألة والرقعة، ويشرح أمرها للخليفة، وبعد استعراضها للخليفة، ومعرفة رأيه فيها، يُوقِّع عليها بخطِّه في الديوان، ومن ثم تُرسل للديوان المختصِّ بأمرها ومسألتها؛ كالخراج، أو الضياع، أو المال، أو النفقات.. وكان الفصل في أمر الرقعة يتمُّ على الرقعة ذاتها، توقيعًا من الخليفة أو كاتبه، وقد بلغت هذه التوقيعات أقصى ما يمكن أن تبلغه من الاختصار والبلاغة، وإظهار ذكاء مُوَقِّعِها، وقدرته على حسن الفصل وإصابة الغرض، فكان البلغاء يتنافسون في تحصيل توقيعات جعفر بن يحيى البرمكي مُسَيِّر شئون الخلافة في عهد هارون الرشيد (ت 193هـ)، ووالي ديوان التوقيع، الذي كان على درجة عالية في أساليب البلاغة وفنونها، حتى قيل: إن كل توقيع منها كان يُباع بدينار[4].
وكثيرًا ما رأينا احترام الخلفاء لكُتَّاب ديوان الإنشاء في ظلِّ الخلافة العباسية؛ فأحمد بن يوسف بن القاسم (ت 213هـ)، كان كاتبًا في ديوان الإنشاء والرسائل للخليفة المأمون، ومع تمكنه في تصريف شئون ديوانه، وقدرته على الارتقاء بهذا المنصب، فإن الخليفة المأمون قد عَيَّنه في منصب الوزارة بعد أحمد بن أبي خالد الأحول. ومما يُحكى عن قدرته في كتابة الرسائل أن الخليفة المأمون قد أمره أن يكتب لعماله وولاته في زيادة قناديل المساجد الجامعة في كل الأمصار في ليالي شهر رمضان، وقد ذكر أحمد بن القاسم أنه: "لم يكن سبق إلى هذا المعنى أحد فآخذه واستعين ببعض ما قاله، فأرّقت مُفَكِّرًا في معنى أُرَكِّبه، ثم نمت، فرأيت في المنام كأنَّ آتيًا أتاني، فقال: قل: فإن فيها أُنْسًا للسابلة، وإضاءة للمتهجدة، ونشاطًا للمتعبدين، ونفيًا لمكامن الريب، وتنزيهًا لبيوت الله عن وحشة الظُّلَم"[5]. فإعمال الفكر، والدربة على فنِّ الكتابة، والتقدُّم في هذه الصناعة كانت الأسباب الجامعة لتولية ابن القاسم لمنصب الوزارة فيما بعد.
واشتهرت الخلافة العباسية على مدى ستة قرون بكبار الكُتَّاب الذين كان لهم شأن مرموق في ظلِّ هذه الدولة العظمى؛ ولذلك تشبَّه بالعباسيين في العناية الفائقة بهذا الديوان -بوصفه جهازًا للتراسل من جهة وللإعلام من جهة أخرى- العبيديون والأيوبيون والأندلسيون، وسلاطين وأمراء الدول الإسلامية المستقلة، فأنشئوا دواوين للإنشاء مشابهة لديوان الإنشاء أو التوقيعات العباسية.
ومن أشهر الكُتَّاب: أبو عثمان الجاحظ الذي رفض الاستمرار في عمله كاتبًا موظفًا بديوان الإنشاء للخليفة المأمون، بل هجا رفاقه في هذا الديوان لمبالغتهم في الملبس وفي الكلام، وغادر بغداد عائدًا إلى البصرة ليتفرَّغ للتأليف في علم الكلام، وفنِّ الأدب، بل وفي الأحوال الاجتماعية، وأنماط البشر وأنواع الحيوان.
ديوان الإنشاء في عصر المرابطين
وفي دولة المرابطين كان ديوان الإنشاء من أهم الدوائر الحكومية، وكان يرأسه كاتب كبير، وكان المرابطون يتخيَّرون الكُتَّاب من كبار الأدباء؛ حيث كان الأسلوب الكتابي في العصور الوسطى يؤدي دورًا يفوق دور المفاوضات الشفوية، وكان لأمير المسلمين عدة كُتَّاب في آن واحد، وعلى رأسهم كاتب كبير، وهو في الواقع رئيس ديوان الرسائل[6].
ديوان الإنشاء في عصر المماليك
ولقد عني المماليك عناية فائقة في تخيُّر كُتَّاب ديوان الإنشاء، فلم يكن يتولَّى ديوان الإنشاء إلا أجلُّ كُتَّاب البلاغة، ويُخاطَب بالشيخ الأجلِّ، فكان يُسلَّم المكاتبات الواردة، فيَعرضها على الخليفة من بعده، وهو الذي يأمر بالإجابة عنها للكُتَّاب، والخليفة يستشيره في أموره، ولا يُحجب عنه متى قصد المثول بين يديه، وهذا أمر لا يصل إليه غيره، وربما بات عند الخليفة ليالي، وكان راتبه مائة وعشرين دينارًا في الشهر، وهذا مبلغ كبير يُدلل على عظم هذه الرتبة عند السلطان؛ ولذلك كان كاتب الإنشاء أول أرباب الإقطاعات، وأرباب الكسوة والرسوم والملاطفات، ولا سبيل أن يَدْخُل إلى ديوانه بالقصر ولا يجتمع بكُتَّابه أحدٌ إلا الخواص، وله حاجب من الأمراء الشيوخ، وفرَّاشون، وله المرتبة الهائلة، والمخادُّ والمسند والدواة، ويحملها أُستاذ من أُستاذي الخليفة[7].
ومن أشهر كتاب ديوان الإنشاء في هذا العصر يأتي القلقشندي، صاحب الموسوعة الجغرافية والتاريخية والإدارية "صبح الأعشى في صناعة الإنشا"، الذي ذكر فيها أهمية ديوان الإنشاء وكاتبه، وأهم الشروط والصفات التي يجب أن يتحلَّى بها هذا الكاتب، فقال: "يجب أن يكون صبيح الوجه، فصيح الألفاظ، طلق اللسان، أصيلاً في قومه، رفيعًا في حيِّه، وقورًا حليمًا، مُؤْثِرًا للجدِّ على الهزل، كثير الأناة والرفق... ينحل الملك صائب الآراء، ولا ينتحلها عليه، ومهما حدث من المَلِك من رأي صائب، أو فعلٍ جميل، أو تدبير حميد، أشاعه وأذاعه، وعَظَّمه وفَخَّمه، وكَرَّر ذِكْره، وأوجب على الناس حمده عليه وشكره، وإذا قال للملك قولاً في مجلسه أو بحضرة جماعة ممن يخدمه، فلم يره موافقًا للصواب فلا يَجْبَهه بالردِّ عليه، واستهجان ما أتى به، فإن ذلك خطأ كبير، بل يصبر إلى حين الخلوة، ويُدْخِل في أثناء كلامه ما يُوَضِّح به نهج الصواب من غير تلقٍ برَدٍّ، ولا يَتَبَجَّح بما عنده، ويكون متابعًا للملك على أخلاقه الفاضلة، وطباعه الشريفة؛ من بَسْطِ الْـمَعْدَلَة[8]، ومَدِّ رُوَاقِ الأَمَنَة[9]، ونشر جناح الإنصاف، وإغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم..."[10].
لقد كان ديوان الإنشاء والرسائل يُحَقِّق أحد أبرز مظاهر التقدم الحضاري الإسلامي، بل كان دليلاً بَيِّنًا على رقي الحضارة الإسلامية، ونظامها المحكم في التيسير على الرعية، والتأكيد على الهوية الإسلامية.
د. راغب السرجاني