[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
كان محمد رحيمًا بالضعفاء بشوشًا سهل المعاملة رقيق القلب[1].
من المقدر أن يرتفع عدد المسنين من حوالي ٦٠٠ مليون إلى حوالي مليارين من المسنين بحلول عام 2050م، ومن المتوقع للمرة الأولى في التاريخ، أن يصبح عدد الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم سن الستين أكثر من عدد الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن الخامسة عشرة[2].
رعاية كبار السن
مع أن كبير السن قد ازداد خبرة ودراية وحكمة، ومع أنه قد يكون قد ازداد مالاً وجاهًا، إلا أنه لا شك يعاني صورة واضحة من صور الضعف، وذلك في صحته وجسمه، وقد يكون في شكل آخر من أشكال الضعف الكثيرة، والله عز وجل ذكر ذلك تصريحًا في كتابه فقال: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54].
ولهذا الضعف أولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمية خاصة لكبار السن، وظهر ذلك في أقواله وأفعاله على حَدٍّ سواء..
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم"إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ"[3].
وهو هنا في هذه الكلمات الرقيقة يُعظِّم عند المسلمين قيمة الشيخ الكبير، حتى إنه لَيُقدِّمه على حامل القرآن، وعلى الحاكم العادل مع عظم قدرهما، وسمو مكانتهما..
صور من رحمة النبي بكبار السن
جاء شيخ ذات يوم يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فأبطأ القوم أن يُوسِّعوا له، فَرَقَّ له رسول الله ورَحِمَه، وقال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا"[4].
إنه يقول: إن الذي لا يرحم الصغير ولا يوقَّر الكبير ليس منا نحن المسلمين، أي أنه لا يتصف بصفاتنا، ولا يعمل بأعمالنا، ولا يتخلَّق بأخلاقنا..
وما أحسب أن قانونًا في العالم -غير الإسلام- قد جعل احترام الكبير وتوقيره أصلاً من أصوله..
وكانت هذه سِمَته في حياته صلى الله عليه وسلم..
وما أروع ما قاله –صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر الصديق رضي الله عنه يوم فتح مكة حين أتى بأبيه أبي قحافة، وكان شيخًا كبيرًا مسنًّا ليُسلِمَ بين يدي رسول الله في البيت الحرام، فقال : "هَلاَّ تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ"[5].
إنه القائد المنتصر الذي يدخل مكة فاتحًا، وأبو قحافة شيخ كبير تأخَّرَ إسلامه أكثر من عشرين عامًا، ومع ذلك يوقِّره رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ويرى أنه كان الأَوْلى أن يتحرك هو -وهو الرسول الزعيم المنتصر- إلى بيت الشيخ!
هذه هي منزلة كبار السن في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم .. بل إنه يرفض أن تطول الصلاة الجماعية -مع حُبِّه لها وتعظيمه لقدرها- لأن ذلك قد يشق على كبير السن وغيره من أصحاب الحاجات، وهذا دليل على نظرته الشمولية لمسألة الرحمة، ودليل على اتساع أفقه، وإدراكه لحقيقة الإسلام، وإنه في الأساس رحمة للناس وليس مشقة وعذابًا لهم..
نلحظ كل ذلك من موقف فريد رواه أبو مسعود الأنصاري[6] وفيه أن رجلاً قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة[7] من أجل فلان مما يطيل بنا، فما رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في موعظة أشدَّ غضبًا منه يومئِذٍ، ثم قال: "إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ"[8].
فيالَعَظَمَةِ هذا الموقف!!
وإذا كانت كل هذه الرحمة لعموم كبار السن، فإنها ولا شك أعظم وأجلُّ في حق الوالدين.. إن الأبوين في كثير من بلاد العالم -الذي يسمُّونه متحضرًا في زماننا- لا يجدان رعاية ولا عونًا من أبنائهم بعد أن يتقدم بهما العمر، وتضعف منهما الصحة..
لكنَّ الأمر ليس كذلك عند رسول الله ..
رحمة الرسول بالوالدين
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صَحَابَتي؟ قال: "أمك. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثم أبوك"[9].
فأحق الناس بالصحبة ليس الصديق ولا الحاكم ولا صاحب العمل ولا غير هؤلاء، إنما أحق الناس بالصحبة الأم ثم الأب، وقدَّم الأم ثلاثًا لضعفها وشدة احتياجها عند كبرها..
هذه هي رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأم والأب، ولْيُقارن أهل الأرض بين هذه الرحمة وما يحدث في العالم أجمع!.. بل إنه في موقف آخر يقول ما يتفطَّر له القلب رقةً وتأثرًا!!
لقد جاءه رجل يقول له: إني جئت أبايعك على الهجرة، ولقد تركت أبويَّ يبكيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما"[10]!
يا لَرَحْمَتِك يا رسول الله!!
فالرجل جاء يبايع على الهجرة، والأمر جد خطير، ومع ذلك فالرسول يهتم -ليس فقط برضا والديه وراحتهما- بل وبضحكهما وسرورهما!!
هذه هي رؤيته لكبار السن في أمته، وهذه هي رؤيته للواجب نحو الوالدين، وإذا كان هناك في العالم من يدَّعي أن قانونه يشبه -ولو من بعيد- قانون رسول الله ، فإنني على يقين أنه لن يوجد من يدَّعي أن هناك مَن طبَّق على أرض الواقع ما طبَّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مواقف الرحمة، ومن مظاهر الرعاية لحقوق الإنسان!! وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
[1] فلور اندريه(مستشرق ألماني): كتاب العالم الشرقي.
[2] تقرير الجمعية العالمية الثانية للشيخوخة، الصادر عن الأمم المتحدة، أبريل 2002م، المنشور على الشبكة العنكبوتية، الرابط الإلكتروني [وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
[3] أبو داود (4843)، والبخاري في الأدب المفرد (357)، وابن أبي شيبة (21922)، والبيهقي في شعب الإيمان (2685)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الرحمن بن سليمان بن أبي الجون، وَثَّقَه ابنُ حبان ودحيم وضعفه أبو داود وغيره، وبقية رجاله ثقات، وقال الألباني: (حسن). انظر حديث: (2199) في صحيح الجامع.
[4] الترمذي (1919) واللفظ له، وأحمد (6733)، والحاكم (209)، والبخاري في الأدب المفرد (358)، والطبراني في الكبير (12276)، وأبو يعلى (4242)، وقال الألباني: (صحيح). انظر حديث: (5445) في صحيح الجامع.
[5] أحمد (27001)، وابن حبان (7208)، والحاكم (4363)، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن.
[6] أبو مسعود الأنصاري: هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة، من بني الحارث بن الخزرج، كان أحدث من شهد بيعة العقبة سنًا، ومات سنة إحدى أو اثنتين وأربعين.. الإصابة الترجمة (5607).
[7] صلاة الغَدَاة: صلاة الصبح.
[8] البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود (670)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام (466)، والدارمي (1259)، وابن خزيمة (1605)، وابن حبان (2137)، والطبراني في الكبير (560)، وابن أبي شيبة (4657).
[9] البخاري: كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة (5626)، ومسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين، وأنهما أحق به (2548)، وابن ماجة (3658)، وابن حبان (434)، وأبو يعلى (6092).
[10] أبو داود (2528)، والنسائي (4163)، وابن ماجة (2782)، وأحمد (6490)، وابن حبان (7250)، والحاكم (7250)، والبزار (2409)، وزاد: وأبى أن يبايعه، وقال الألباني: صحيح.
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]