[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
رحمة النبي
لعلنا نستوعب رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الجاهلين, ولكن الذي لا يستطيع أحدٌ -مهما كانت أخلاقه كريمة- أن يستوعبه هو رحمته صلى الله عليه وسلم بالمذنبين!!
فالفارق بين الجاهل والمذنب أن الأول أخطأ لأنه لا يعرف, بينما الثاني يعرف وتعمَّد الخطأ, وشَتَّانَ!!
لأن المخطئ فعل ذلك عن بصيرة وإدراك, وخاصة إذا كان يعلم عقوبة الذنب..
ولكننا اطَّلعنا في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمورٍ عجاب, قلَّ أن يجود الزمان بمثلها!
يروي أبو هريرة رضي الله عنه فيقول: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رسول الله هَلَكْتُ. قَالَ: "مَا لَكَ؟" قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟", قَالَ: لا قَالَ: "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟" قَالَ: لا فَقَالَ: "فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟" قَالَ: لا. قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيُّ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ -وَالْعَرَقُ[1]: الْمِكْتَلُ- قَالَ: "أَيْنَ السَّائِلُ؟", فَقَالَ: أَنَا. قَالَ: "خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ"؛ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا[2] -يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي, فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ: "أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ"[3].
إن الرجل قد أذنب ذنبًا عظيمًا, وجامع زوجته في نهار رمضان وهو مدرك للحُكْم, ويعلم أن ذلك يوجب كفارة, وبتعبير الرجل فإنه هلك لأنه أتى منكرًا عظيمًا, لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم -برحمته الشاملة- لم يبدُ عليه أي انفعال أو غضب, إنما أخذ يُعدد عليه وسائل الكفارة, والتي أبدى الرجل عجزه عن فعل أيٍ منها, فلم ينزعج رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ بل جاء له بتمر صدقةٍ أتاه, وقال له: خذ هذا التمر وكفِّر به عن ذنبك, وأنفقه على فقير, فقال الرجل قولاً عجيبًا, لقد قال: إنه أفقر أهل المدينة, ولذلك فهو يطمع أن يأخذ هو التمر!!!
ماذا كان رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الرجل لا يريد أن يُكفِّر عن ذنبه بأيِّ طرق الكفارة؟!
وماذا كان رد فعله عندما عرض الرجل أن يأخذ هو -وهو المخطئ المذنب- تمر الصدقة له ولأهله؟!
إنه "ضحك" حتى بدت أنيابه!! ثم أعطاه التمر, وقال: "أطعمه أهلك!!".
هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
أين من يتهمون الإسلام بالتشدد, ويصفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإرهاب؟!
هل توقع فقير في بلد من البلاد, أو في زمن من الأزمان أن يعامله حاكم بلده بهذه الطريقة الرحيمة؟!
موقف حاطب بن أبي بلتعة
وموقف آخر عجيب..
إنه موقف رجل أفشى سرًّا عسكريًّا خطيرًا للدولة الإسلامية, كان من الممكن أن يكون له أشد الأثر على أمنها واستقرارها!
إنه موقف حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه الذي أرسل رسالة إلى مشركي مكة يخبرهم فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جهَّز جيشًا لفتحها, مخالفًا بذلك أوامر القائد الأعلى للمسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم , ومُعرِّضًا جيش المسلمين لخطر عظيم!!
كيف يكون رد الفعل المناسب في أية دولة في العالم؟!
إن القتل هنا عقاب مقبول جدًّا مهما كانت ملابسات الحدث.. وهذا ما رأينا بعض الصحابة يقترحه..
لكن ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
إنه بعد أن أمسك بالخطاب الخطير, وعلم ما فيه أرسل إلى حاطب رضي الله عنه, وسأله في هدوء: "يَا حَاطِبُ, مَا هَذَا؟" قَالَ حَاطِبُ: يَا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ, وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا, وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ؛ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي, وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلا ارْتِدَادًا وَلا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلامِ؛ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لَقَدْ صَدَقَكُمْ" قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. قَالَ: "إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا؛ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شئتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ"[4].
إن المبرر الذي ذكره حاطب قد لا يقبله الكثيرون, بل إن عمر بن الخطاب وكلنا يعلم ورعه وفطنته وعدله- لم يقبله, ورأى أن يُقتَل بهذا الجُرم, فكيف يسوغ أن يحاول حماية أهله على حساب جيش كامل, ثم كيف يعصي أمرًا مباشرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
ومع كل هذا إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمه رحمة واسعة, وقبل منه عذره في صفح عجيب, وعذره, ولم يوجه له كلمة لوم أو عتاب, بل إنه رفع من قدره, وقال لعمر -وعمر يعلم ذلك: "إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا؛ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شئتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ!!".
بين العدل والرحمة
إن العدل شيءٌ, والرحمة شيء آخر..
إن العدل قد يقتضي أن يُعَاقَب حاطب بن بلتعة رضي الله عنه بصورة أو بأخرى, ولكنَّ الرحمة تقتضي النظر إلى الأمر بصورة أشمل, فنرى مَن الذي فعل الفعل, وما هو تاريخه, وما هي سوابقه المماثلة, وما هي أعماله السالفة, وهل هو من أهل الخير أم من أهل الشر, وما هي الملابسات والخلفيات لهذا الحدث..
إن الرحمة تقتضي عدم الانسياق وراء عاطفة العقاب, ولكن البحث الحثيث عن وسيلة تخرج صاحب الأزمة من أزمته..
العدل درجة عظيمة.. ولكن الرحمة أعظم!!
الفرق بين الاثنين تلحظه في قول الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45].
من العدل أن يأخذ الله عباده بذنوبهم, ومن الرحمة أن يؤخرهم إلى أجل مسمى..
تلحظ الفرق بين الاثنين في قوله تعالى أيضًا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذ هذا النهج طريقة ثابتة في حياته.. لقد كان مطبقًا لأخلاق القرآن وأوامره دون تفريط ولا تضييع.
لقد كان تمامًا كما وصفته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عندما سُئِلَتْ عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خُلُقه القرآن, أما تقرأ القرآن قول الله : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]"[5].
[1] العَرَق: السلة الكبيرة.
[2] لابتيها: مثنى لابَّة, وهي الأرض التي بها حجارة سُودٌ, والرجل يقصد المدينة المنورة.
[3] البخاري: كتاب الصوم, باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتُصُدِّقَ عليه فليُكَفِّر (1834), ومسلم: كتاب الصيام, باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان (1111), الترمذي (724), أبو داود (2390), ابن ماجة (1671), أحمد (7288).
[4] البخاري: كتاب الجهاد والسير, باب الجاسوس (2845), ومسلم: كتاب فضائل الصحابة, باب من فضائل أهل بدر (2494), الترمذي (3305), أبو داود (2650), أحمد (600).
[5] أحمد (25341), وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين, والبخاري في الأدب المفرد (308), وصححه الألباني في صحيح الجامع (4811).