[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
الفتح الإسلامي أكبر لغز من ألغاز العبقرية، وأروع أحْجيَّة من أحاجي النبوغ، وأجلّ مظهر من مظاهر العظمة في تاريخ البشر. ولقد مرت عليه إلى اليوم قرون طويلة، وأعصار مديدة، ارتقى فيها فن الحرب، وتقدم فيها البشر أشواطًا في كل ميدان من ميادين الحضارة، وغاص المؤرخون في أعماق الحوادث التاريخية، فكشفوا أسرارها وعرفوا أسبابها، فبدت لهم هيِّنة ضئيلة، بعد أن كانوا يرونها لغزًا لا يحل، ولكنهم لم يستطيعوا أن يكشفوا سر الفتوحات الإسلامية ولم يدركوا كنهها. وستمر قرون أخرى وأعصار قبل أن يكشف ذلك السر، وقبل أن يرى تاريخ البشر حادثًا أعجب وأعظم من (الفتح الإسلامي).
إن الحوادث العظيمة في التاريخ على اختلاف مظاهرها وتنوع أشكالها، لا تعدو أن تكون واحدة من ثلاث: إمَّا أن تكون عظمتها فيما أورثت الإنسانية من حضارة وعمران، وما رفهت من عيش الناس، وما أفادتهم من رغد ونعمة وترف. وإما أن تكون هذه العظمة فيما خدمت به العقل البشري، وأمدته بأسباب القوة والنضج، ورفعت من تفكير الناس، وأدنتهم من المثل العليا التي يطمحون إليها، بما فتحت عليهم من أبواب الثقافة وسبل المعرفة. وإما أن تكون عظمة الحادث التاريخي في ذاته، وفيما ينطوي عليه من بطولة نادرة، وقدرة عجيبة، وجلال لا يعرفه التاريخ إلا قليلاً؛ أي أن العظمة إما أن تكون عظمة الحادث التاريخي في ذاته، وفيما ينطوي عليه من بطولة نادرة، وقدرة عجيبة، وجلال لا يعرفه التاريخ إلا قليلاً. أي أن العظمة إما أن تكون عظمة حضارة وعمران، أو علم وفكر، أو بطولة وحرب.
والفتح الإسلامي أعظم الحوادث التاريخية كلها، في أبواب العظمة كلها، لا يدانيه في ذلك حادث في تاريخ الشرق والغرب، القديم منه والحديث.
أما في الحروب فإن التاريخ يعرف كثيرًا من الفاتحين، منذ عهد الإسكندر ومن قبل الإسكندر، إلى عهد نابليون ومن بعد نابليون، ولكنه لم يعرف فتحًا أوسع ولا أسرع من (الفتح الإسلامي) الذي امتد في اثني عشر عامًا فقط من طرابلس الغرب إلى آخر بلاد العجم، وحاز مصر وسورية وفارس كلها... على أن ميزة الفتح الإسلامي ليست في السعة والسرعة وحدهما، ولكن ميزته الكبرى أنه فتح أبديّ، فلم يعرف عن المسلمين أنهم دخلوا بلادًا وخرجوا منها؛ ذلك أنهم لا يفتحون البلاد بسيوفهم شأن كل الفاتحين، ولكنهم يفتحون القلوب والعقول، بعدلِهم وعلمهم، فلا تلبث البلاد المفتوحة أن تندمج بالمسلمين، وتصبح أغيرَ على الإسلام من المسلمين الفاتحين..
بينما ترى البلاد التي فتحها غيرهم تبقى خاضعة لهم ما بقي السيف مصلتًا فوق رءوس أهلها، فإذا أحسوا من الفاتحين غرة، وآنسوا منهم ضعفًا وثبوا عليهم فطردوهم، وعادوا إلى ما كانوا عليه، حتى إن أمريكا على رغم أنها كانت خالية إلا من قبائل لا شأن لها، وليس فيها دين يناوئ دينًا، أو عادات تصادم عادات، وعلى رغم أن أهلها الذين استعمروها إنجليز كالإنجليز الحاكمين، فإنهم وثبوا عليهم وحاربوهم حتى نالوا استقلالهم؛ ولا تجد اليوم أمريكيًّا واحدًا يريد الانضمام إلى إنجلترا (الأم الكبرى)، بينما تجد كل مسلم في الصين أو الهند أو جاوا أو القسطنطينية -كل مسلم صحيح- يتحسر على الوحدة الإسلامية ويسعى إليها ولا يقبل بها بديلاً، على رغم ما أحدثوا لهم من كذبة وبدعة الوطنيات، وما أقاموا بين الإخوان من سدود، وما فصلوا به بينهم من حدود، وما مر على هذه التفرقة من سنين وأعوام؛ ذلك لأن الفتح الإسلامي فتح أبدي، مستقر في القلوب، لا تقوى قوة بشرية على انتزاعه، وهذه هي ميزته التي امتاز بها على كل فتح في التاريخ.
أما في العلم والثقافة، فقد كان الفتح الإسلامي أكبر حادث علمي؛ لأنه حمل إلى البلاد التي فتحها علم السماء والأرض، فحرر عقولها بالتوحيد، وأعتقها من عبودية الأحجار والأشجار،، والنيران والأخشاب، والقسس والأشراف. ثم وضع في أيديها القرآن الذي يأمر بالتفكر في خلق السموات والأرض، ويحفز إلى البحث والنظر والاستدلال، والسُّنَّة التي ترغب في العلم وتدعو إليه، وتجعل طلبه فريضة على كل مسلم. وكان الفاتحون أنفسهم علماء، فما إن فرغوا من الحروب حتى وضعوا السيف وحملوا القلم، وألقوا الدروع وأخذوا الكتب، وجلسوا في المساجد يدرسون ويقرئون ويبحثون، فكان من تلاميذهم المفسرون والمحدثون، والفقهاء والأصوليون، والأدباء والنحويون، والقصاص والمؤرخون، والفلاسفة والباحثون، والأطباء والفلكيون، أولئك الذين تصدروا بعد للتدريس في جامعات الشرق، وجامعات الأندلس، فجلس بين أيديهم الباباوات، والملوك ملوك أوربا، وكانوا أساتذة العالم الحديث.
فكان من ثمرة الفتح أن هذه البلاد الأعجمية -التي كانت تئن في ظلام الجهل والظلم- لم تلبث أن ظهر منها علماء فحول، كان لهم الفضل على العقل البشري، ولا تزال أسماؤها خالدة، تضيء في جبين الدهر.
ومن لعمري ينسى البخاري والطبري والأصبهاني والهمداني والشيرازي والسرخسي والمروزي والرازي والخوارزمي والنيسابوري والقزويني والدينوري والسيرافي والجرجاني والنسائي، وغيرهم وغيرهم ممن لا يحصيهم عدٌّ؟! ألا يشعر كل مسلم بأن هؤلاء وأمثالهم هم علماء الملة وأعلامها؟ ألا نحل كتاب البخاري أسمى محل من نفوسنا، ونتخذه حجة بيننا وبين الله؟ ألا يؤلف هؤلاء العلماء صلة من أوثق الصلات بيننا وبين فارس لا يستطيع أن يفصم عُراها مائة حكومة من مثل الحكومة الحاضرة، التي تستن في فارس سنة (هذا الآخر...) في تركيا.
أما في الحضارة والعمران؛ فللفتح الإسلامي أكبر الأثر في نشر الحضارة وتوطيد العمران، والعمران طبيعة في العربي المسلم، فلم يمض على فتح المسلمين بلاد العراق إلا سنوات حتى أسسوا مدينتين كبيرتين كان لهما الفضل والمنة على الحركة العلمية والأدبية في العالم كله، فضلاً عن أنهما كانتا قاعدتين حربيتين من أكبر القواعد الحربية؛ وما استقرت أقدامهم في البلاد حتى شرعوا في بناء المدن الكبيرة، والقصور العظيمة، وإنشاء أروع آثار البناء، حتى كانت بغداد وسُرَّ من رأى، وكانت دمشق من قبل، والقاهرة ومدن الأندلس من بعد، أعجوبة في فن العمران، وها إن أثرًا صغيرًا من آثار العرب -ليس بأعظمها ولا أكبرها- لا يزال إلى اليوم محط ركاب الرحال من أهل العلم ورجال الأدب، ولا يزال مصدرًا ماليًّا لحكومة من كبار حكومات أوربا تعيش إلى اليوم بفضل العرب، وهي حكومة إسبانيا. ولقد حاول الإنجليز على قوتهم وغناهم -في هذا العصر الذي تيسرت فيه أسباب كل شيء- أن ينشئوا مثل (الحمراء) فأنشئوا قصرًا في سيدنهام يعدُّ من أعظم المباني العصرية وأجملها، ولا يزال دون الأصل بمراحل، فكيف بمن بَنَى الأصل في ذلك العصر الغابر؟
إنه ما من شك لدى المنصفين من المؤرخين، أنه لولا قيام الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى وازدهارها في الشرق حين كانت أمم الغرب في ظلمات بعضها فوق بعض، لم تقم الحضارة الحاضرة، ولم يتمتع البشر اليوم بثمراتها.
فالفتح الإسلامي إذن أعظم حادث في البطولة والفكر والعمران. وهو لغز غامض حير نابليون (نابغة العصر الحديث في فن الحرب)، وحيَّر المؤرخين كلهم؛ ذلك أن العرب على ما امتازوا به من الكرم والشجاعة والوفاء والعزة والإباء، كانوا في جاهليتهم بداة متفرقين، وجاهليين وثنيين، منقسمين على أنفسهم، مختلفين فيما بينهم، لا يعرفون إلا جامعة القبيلة، ووحدة العشيرة، فإذا فخروا فبها يفخرون، وإن دافعوا فعنها يدافعون... إذا وجد العربي من القبيلة قافلة من غير قبيلته، كان في حل من انتهاب مالها، وقتل رجالها، لا حكومة تنظم أمورهم، ولا دين يردعهم، إلا دينًا مضحكًا سخيفًا، دين من يتخذ ربًّا من التمر، فإذا جاع أكله، أو من ينحت من الصخر صنمًا ثم يعكف عليه عابدًا داعيًا، أو من يعبد الشجر والحجر..
وكانوا يخشون كسرى، ويرهبون قيصر، وكان ملوكهم في الحيرة والشام تبعًا للفرس والروم وجندًا لهما، يضربون بعضهم ببعض؛ ليذهبوا هم بالغنم ويعود العرب بالغرم. وكان اتحاد قبيلتين اثنتين كبكر وتغلب في طاعة كليب، أو قيس والسَّكون في جيش قيس بن معدي كرب حادثًا عجيبًا يكسب صاحبه فخر الأبد، وأمرًا نادرًا يلبث حديث الناس أيامًا وليالي... فكيف يتحد العرب كلهم، عدنانيهم وقحطانيهم، ويسيرون في صف واحد، يقدمهم رجل واحد، حتى يواجهوا جيوش كسرى وقيصر التي يرهبونها، ثم يضربونها الضربة القاصمة للظهر، فإذا انجلى غبار المعركة نظرت فإذا المعجزة قد ظهرت على أتمها، وإذا الأرض قد بدلت غير الأرض، وإذا فارس الوثنية، وسورية النصرانية، ومصر الرومانية، قد محيت كلها محوًا، وقامت مكانها أمم إسلامية في فارس وسورية ومصر، كأنما هي لإخلاصها للعربية والإسلام لم تكن يومًا من الأيام على غير الإسلام؟!
أكان هذا الانقلاب ما بين ليلة وضحاها...؟ أكان هذا التبدل الذي تغلغل في صميم الأمة العربية فغيَّر كل شيء فيها وأنشأها إنشاءً جديدًا لأن رجلاً قام في مكة، يتلو كتابًا جاء به؟ أيقوى رجل مهما كان شأنه على مثل هذا العمل ويكون له في تاريخ العالم ومستقبل البشرية هذا التأثير؟
هذا هو اللغز الذي حيَّر المؤرخين من الغربيين، ولم يعرفوا له حلاًّ معقولاً!
على حين أن الأمر واضح والسبب ظاهر، ذلك أن هذا الأمر لم يكن عمل رجل عظيم من عظماء الناس، ولكنه عمل الله جلت قدرته، أظهره على يد سيد أنبيائه، وخاتم رسله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ذلك أن (الفتح الإسلامي) معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم.
هذا وإن من الخطأ أن نعدَّ الفتح الإسلامي، مثل ما نعرف من فتوح الأمم المختلفة في الأعصار المتباينة؛ لأن للفتح الإسلامي طبيعة خاصة به تجعله ممتازًا عن سائر الفتوح، وتنشئ له في التاريخ بابًا خاصًّا، ذلك أن كافة الفتوح إنما كانت الغاية منها ضم البلاد المفتوحة إلى أملاك الفاتحين، والانتفاع بخيراتها ومواردها، لا نعرف فتحًا يخرج عن هذا المبدأ إلا الفتح الإسلامي، فلم تكن الغاية ضم البلدان إلى الوطن الإسلامي، وامتصاص دماء أهلها وأموالهم، واستغلال مواردها الطبيعية وخيراتها، ولكن غايته نشر الدين الإسلامي والسعي لإعلاء كلمة الله، وإذاعة هدي القرآن في الأرض كلها..
فكانوا كلما وطئوا أرضًا عرضوا على حكومتها وشعبها الإسلام، فإن قبلوا به واتبعوه ونطقوا بكلمة الشهادة انصرفوا عنهم وعدُّوهم إخوانهم لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لا فرق بين أمير المؤمنين وآخر مسلم في أقصى الأرض؛ كلهم سواء في الحقوق الواجبات، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. وإن لم يقبلوا بالإسلام عرضوا عليهم الجزية، وهي أقل بكثير مما كانوا يدفعونه إلى ملوكهم وأمرائهم، وسموهم ذميين لهم ذمة المسلمين، وأعطوهم الحرية في أمور دينهم ودنياهم، وتعهدوا لهم بالأمن الداخلي والخارجي. وإن أبوا أن يعطوا الجزية حاربوهم... ثم لم يُكرِهوا أحدًا على الإسلام؛ لأن في صحة الإسلام وفوائده في الدنيا والآخرة ما يغني في الدعوة إليه عن السيف.
وما (دين محمد دين السيف) كما يهتف العامة والجاهلون، ولكنه دين العقل والمنطق والعلم، والمسلمون عامة دعاة مرشدون، ولكنهم دعاة أقوياء يحملون القرآن بيد، والسيف بالأخرى، فمن قَبِل فما كانوا ليحاربوه، ومن أَبَى وحاربهم أدبوه حتى يرجع إلى الحق، ويجنح إلى السلم.
ثم إن معاملة المسلمين للذميين، ووفاءهم بعهودهم، وصدق وعودهم وكرمهم وتسامحهم الذي شهد به الأصدقاء والأعداء، وصار أشهر من أن يذكر ما يؤكد طبيعة (الفتح الإسلامي) ويرفعه عن أن يقاس به فتح آخر!
وهذه هي التواريخ فاستقروها واحكموا.
المصدر: موقع الدرر السنية، نقلاً عن كتاب (فكر ومباحث) للشيخ علي الطنطاوي.