[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
إن كل محاولة نهضة معاصرة لم تضع الديمقراطية في قلبها انهارت, كمن أسس بنيانه على شفا جرف هارٍ فانهار به, إن الديمقراطيات قد تتعثر وتواجه مشاكل, لكن قدرتها على استنشاق هواء الحرية وتصحيح أخطائها بتغيير القابضين على الحكم فيها بشكل دوري وحر ونزيه يجعلها قادرة على أن تبحث عن استجابات متجددة لما تواجهه من تحديات.
وهذا ليس غريبًا فالديمقراطية تعطى الفرصة لأصحاب الرأي والفكر على تنوعهم أن يقدموا اجتهاداتهم بلا خوف ومن ثم أن يسهموا في نهضة مجتمعاتهم, أما الديكتاتوريات سواء كانت ناعمة لينة تسمح للناس بحرية التعبير أو خشنة غليظة تكمم الأفواه فهي كجسد فاسد يحتفظ بكل مخلفاته وسمومه داخله ويطرد كل ما ينفعه خارجه..
ما علاقة هذه المقدمة بثورة يوليو في مصر؟ لقد ربط عدد من قراء الشروق بين مقال الأسبوع الماضي عن ثورتي يوليو في الولايات المتحدة (1776م) والأرجنتين (1816م) وبين ثورة يوليو في مصر، وكيف كانت ثورة مصر أقرب في نتائجها إلى ثورة الأرجنتين في إخفاقاتها بسبب طبيعة القيادة التي تولت السلطة فيها ومدى التزامها بالديمقراطية كمكون أصيل من مكوناتها.
إن ثورة يوليو في مصر جسدت آمال المصريين وطموحاتهم بأهدافها العظيمة لكنها وضعتنا جميعًا في مأزق تقييمها؛ لأنها تركت لنا سجلاً مختلطًا من النجاح والفشل حتى في حدود ما حددته لنفسها من أهداف.
فالهدف الأول وهو القضاء على الاستعمار وأعوانه كان موضع إجماع ولا شك، لكن الرئيس عبد الناصر أبى, حيث وجدنا الإنجليز في القناة والمقاومة مستعرة ضدهم, عند نشوب الثورة إلى الصهاينة في سيناء بعد أن ابتلعوا الجولان والضفة والقطاع بهزيمة مخزية راح ضحيتها نحو 20 ألف جندي مصري، معظمهم لم يحارب من الأصل، في مواجهة 150 جندي إسرائيلي ماتوا في معركة خذلت فيها القيادة شعبها.
والدرس المستفاد أن من يرد الخروج للقتال، فليعد له عدته دون أن ينسى أن أهم ما ينبغي أن نعده للقتال، فضلاً عن إذاعة صوت العرب، هو الجيش نفسه.
وهو الدرس الذي تعلمناه في حرب 1973م حين فوجئ الجميع، بما فيها الإذاعة، أننا قد حاربنا بل وعبرنا, تأخرنا عدة سنوات في تعلم الدرس، ويا لها من تكلفة عالية، سنظل وأمتنا العربية والإسلامية، ندفع فاتورتها لعقود طويلة قادمة.
وقد كان الهدف الثاني للثورة، أي القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، حلمًا نبيلاً لكل المصريين ولكنهم اكتشفوا أن الثورة أعلنت الهدف وما اتبعت الوسائل.
إن أدوات محاربة الاحتكار وسيطرة المصالح الخاصة لبعض ذوى النفوذ كانت تقتضى عكس كل ما أقدمت عليه الثورة من قرارات لا سيما المرتبطة بتقريب أهل الثقة واستبعاد أهل الخبرة، وما نتج عن ذلك من محسوبية أضاعت مصداقية الثورة نفسها.
لكن الدرس المستفاد هو أن مجرد إعلان الرغبة في القضاء على احتكار السلطة من قبل القلة لا يكفي وإنما لا بد لها من آليات متعارف عليها عند أهل الاختصاص؛ وإن كنا غير مستعدين للاستفادة من العلوم المختلفة في هذا المجال، فنحن كمن يعطي لابنه دواء فاسدًا فيقتله من حيث أراد أن يعالجه.
أما الهدف الثالث فهو القضاء على النظام الإقطاعي، وقد نجحت الثورة قطعًا في ضرب قوى الإقطاع التي كانت موجودة قبل الثورة, لكنها للأسف مهدت الطريق وخلقت البيئة الملائمة لظهور إقطاعيين آخرين.
فمشكلة الإقطاعيين ليست في أنهم أثرياء ولكن في أنهم يستغلون ثراءهم لظلم الآخرين وتفويت الفرص عليهم من أجل حياة أفضل، والأهم تدمير حقهم في تقرير مصيرهم ومصير من يحكمهم, وقد استبدلت القرارات الاشتراكية للثورة أرستقراطية الأعيان بأوليجاركية (أي حكم القلة) متشابكة المصالح من قيادات الجيش وكبار موظفي الدولة وسياسي الاتحاد الاشتراكي ليكتشف فقراء مصر أنهم استفادوا ماديًّا ومعنويًّا لكن ليس للدرجة التي تجعلهم قادرين على أن يحددوا مصيرهم ويختاروا من يحكمهم.
والدرس المستفاد هو أن القضاء على الإقطاع لا يكون بخلق إقطاع مضاد يكون أكثر شراسة في إساءة استغلال السلطة ويتعلم أدوات أكثر حرفية وغلظة في التمسك بالسلطة حتى لا يفقدها كما فقدها السابقون عليه.
ومع الأسف فقد ترتب على الخلل في تحقيق الأهداف السابقة ألا يحقق هدف العدالة الاجتماعية غايته المطلوبة رغمًا عن أن قطاعًا واسعًا من العمال والفلاحين انتقلوا من طبقة الفقر المدقع إلى ما هو أعلى منها، لكن استدامة هذه النقلة أتت على حساب حق المواطن في أن يكون صاحب قرار في قضايا وطنه؛ حتى الطبقة الوسطى الواسعة التي ظهرت في أعقاب الثورة كانت طبقة وسطى من موظفي الدولة والمؤتمرين بأوامرها وليست طبقة وسطى مستقلة عنها وراغبة في أن تكون الدولة في خدمة المجتمع، على نحو ما ظهر في ثورة 1919م، بما يفضي إلى عدالة أشمل من مجرد مكاسب مادية في مقابل استقالة سياسية.
أما هدف بناء جيش وطني قوي فيبدو أنه لم يكن أفضل حظًّا من الأهداف الأربعة السابقة, فالرئيس عبد الناصر حكم دولة دُمر جيشها في حرب 1948م وترك نفس الدولة بجيش مهزوم في حرب 1967م، لكن ما لا شك فيه أن مصر لم تحقق نصرًا عسكريًّا واحدًا خلال فترة حكم الرئيس عبد الناصر، وهو ما جعل البعض يشير إلى أن واحدة من أسباب انتصار مصر في عام 1973م أن الرئيس السادات تبنى استراتيجية عسكرية مختلفة تمامًا عما اعتاده الرئيس عبد الناصر من إرسال إشارات لفظية ودبلوماسية زاعقة تستفز العدو أو على الأقل تكشف له نوايانا، ولا ننسى بعد كل هزيمة أن نلقى اللوم على مؤامرات الآخرين علينا.
وهو ما لم يكن بعيدًا عن تصريحه في ٢٨/٥/١٩٦٧م، بعد إغلاق خليج العقبة: "احنا أخذنا هذه الإجراءات لإعادة الأمور إلى طبيعتها، ومستنيين دلوقت إسرائيل حتعمل إيه, إذا إسرائيل تحرشت بنا أو بأي دولة عربية أو بسوريا فاحنا كلنا مستعدين إن احنا نواجه إسرائيل، إذا أرادت إسرائيل الحرب -زي ما قلت- فأهلاً وسهلاً بالحرب", هذه ثقة نحن نعلم يقينًا أنها لم تكن في محلها.
ويبقى أخيرًا أن الديمقراطية كهدف الثورة السادس, كان أول ما ضحت به في سنينها الأولى, ومن هنا حملت الثورة داخلها الكثير من أسباب إخفاقها, والدرس المستفاد هو أول سطر في هذا المقال.
المصدر: جريدة الشروق.