[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
معركة فيينا وقعت في (20 رمضان 1094هـ/ 12 سبتمبر 1683م)، وبعد محاصرة الإمبراطورية العثمانية فيينا لمدة شهرين، كسرت المعركة أسبقية الإمبراطورية العثمانية في أوربا, حيث انتصرت القوات البولندية والألمانية والنمساوية بقيادة ملك بولندا يوحنا الثالث سوبياسكي على الجيش العثماني بقيادة الصدر الأعظم (الوزير) قرة مصطفى قائد القوات العثمانية.
العثمانيون وفيينا
احتلال فيينا كان حلمًا طالما راود السلاطين العثمانيين؛ لما تمثِّله من أهمية استراتيجية للسيطرة على خطوط التجارة والمواصلات في القلب الأوربي؛ فقد كان العثمانيون في كل مرة يكتفون بالعودة من أسوار فيينا غانمين الأموال، وربما غنموا أجزاء جديدة من أوربا الشرقية أو الوسطى بموجب اتفاقات مع الإمبراطورية النمساوية.
فقد كان الحصار الأول في زمان سليمان القانوني قبلها بقرن ونصف، وذلك بعد أن توغَّل في أوربا بعدما انتصر على المجريين في معركة موهاكس الرهيبة, ودخلت جيوش القانوني عاصمة المجر بودابست في (3 ذي الحجة 932هـ/10 سبتمبر 1526م)؛ لتجعل من (مجرستان) ولاية عثمانية أخرى وتكرس السيطرة المطلقة للعثمانيين في وسط وشرق أوربا، وقد استطاع العثمانيون احتلال بودابست بجزأيها الشرقي والغربي عام (1541م).
وفي عام (1683م) حاصر الأتراك فيينا للمرة الثانية، ولكن استطاع جراف شتارهمبرج في معركة عند جبل الكالينبرج رد الأتراك, وبعد ذلك استردُّوا بودابست من الدولة العثمانية عام (1686م)، بعد حوالي 145 عامًا من السيطرة العثمانية على بودابست.
قبل المعركة
كانت ألمانيا تنافس العثمانيين في مناطق المجر وسلوفاكيا، وكانت فكرة توجيه ضربة قوية لألمانيا لكفّ يدها عن التدخل في شئون المجر تُسيطر على الصدر الأعظم العثماني، فاستطاع قرة مصطفى باشا إقناع السلطان العثماني محمد الرابع والديوان الهمايوني (مجلس الوزراء) بإعلان الحرب على ألمانيا، فتحرَّك الصدر الأعظم أحمد باشا كوبريللي من أدرنة، ووصل إلى المجر على رأس جيش كبير، يبلغ نحو مائة وعشرين ألف جندي، ومزوَّد بالمدافع والذخائر المحملة على ستين ألف جمل وعشرة آلاف بغل..
ودخل سلوفاكيا ضاربًا كل الاستحكامات العسكرية التي كانت في طريقه، متجهًا إلى قلعة نوهزل، وهي تقع شمال غرب بودابست، على الشرق من فيينا بنحو 110 كم، ومن براتسلافيا بنحو 80 كم، وقد حصَّنها الألمان، وجعلوها فائقة الاستحكام؛ لكي تُصبح أقوى قلاع أوربا، وبدأ الجيش العثماني في حصارها في (13 محرم 1074هـ/ 17 أغسطس 1663م).
واستمرَّ حصار العثمانيين للقلعة 37 يومًا؛ مما اضطر قائد حامية القلعة إلى طلب الاستسلام، ووافق الصدر الأعظم على ذلك؛ بشرط جلاء الحامية عن القلعة بغير سلاح ولا ذخائر، وقد أحدثت هذه الحملة دويًّا هائلاً في أوربا، وأدخلت الرعب والهلع في قلوب ملوكها عامة. وبعد استسلام هذه القلعة العظيمة، استسلمت حوالي 30 قلعة نمساوية للجيش العثماني.
وترتب على هذا الفتح العظيم أن تَقَدَّم أحمد كوبريللي بجيوشه فاتحًا إقليمي مورافيا (في تشيكوسلوفاكيا)، وسيليزيا في وسط أوربا.
مجلس الحرب
جمع الصدر الأعظم قرة مصطفى باشا مجلس الحرب في جيشه، وأعلن أنه سيستولي على فيينا، وأنه سيُملي شروطه على ألمانيا في هذه المدينة؛ لأن الاستيلاء على "يانق قلعة" المدينة التي تُعتبر مفتاح فيينا، وتقع على بعد 80 كم شرقي فيينا على الضفة الغربية لنهر راب، لا يمكن أن يُخضع ألمانيا ويجعلها تكفّ يدها عن شئون المجر.
أثار قرار قرة مصطفى باشا حيرة الوزراء وجدلهم، واعترض عليه الوزير إبراهيم باشا، الذي أكَّد أن رغبة السلطان محمد الرابع هي الاستيلاء على "يانق قلعة"، ومناوشة أوربا الوسطى بواسطة كتائب الصاعقة العثمانية، وأن الحملة على فيينا يحتمل أن تكون في العام المقبل..
فأجابه قرة مصطفى باشا بأنه من الصعب أن يتجمع جيش مرة ثانية بمثل هذه الكثافة والقوة، وهذا الأمر يقتضي إنزال ضربة قوية قاضية بالألمان، وإلاّ فإن الحرب ستطول معهم، خاصة أن ألمانيا عقدت صلحًا مع فرنسا، وأصبحت آمنة من الجانب الغربي، وأن الإمبراطور "ليوبولد" اتفق مع الملك البولوني سوبياسكي على استعادة منطقة بادوليا، وأن البندقية لا بُدَّ أن تكون ضمن هذا الاتفاق. وبالتالي ستنضمُّ روسيا وبقية الدول الأوربية لهذا التحالف المسيحي إلى جانب ألمانيا، وهذا يقتضي كسره وتحطيم هذا التحالف الوليد في ذلك العام، وإلا فإن الحرب ستطول إلى أجل غير معلوم.
موقف أوربا
تداعت الدول الأوربية بأقصى سرعة لنجدة فيينا من السقوط، وأعلن بابا روما الحرب الصليبية على العثمانيين، وأمر ملك بولندا سوبياسكي بنقض عهده مع العثمانيين، وأمر -أيضًا- أمراء ساكسونيا وبافاريا الألمان -وهم أقرب أمراء أوربا- بالتوجُّه إلى فيينا بأقصى سرعة ممكنة، فتجمَّعت الجيوش الأوربية من بولندا وألمانيا والنمسا حتى وصل تعدادها إلى 70 ألف جندي, وترك دوق لورين القيادة العامة لملك بولندا يوحنا الثالث سوبياسكي، واكتملت استعداداتهم يوم الجمعة الموافق 11 سبتمبر، بعدما شعروا أن سقوط فيينا ليس أمامه إلا أيامًا قليلة.
لذلك أقدم الأوربيون على عبور جسر الدونة، الذي يُسيطر عليه العثمانيون بالقوة، مهما كلفهم من خسائر؛ حيث لم يكن بالإمكان إيصال الإمدادات إلى فيينا دون عبور هذا الجسر.
الخيانة
كان قرة مصطفى قد وضع قوة عثمانية كبيرة يقودها أمير القرم مراد كراي حاكم القرم عند جسر الدونة، وهو الطريق الوحيد المُؤَدِّي إلى فيينا من ناحية الغرب؛ ليمنع تقدُّم الأوربيين، وأمر مراد كراي بنسف الجسر إذا اقتضت الضرورة.
وهنا حدث ما لم يكن في حسبان أحد، لا من العثمانيين ولا من الأوربيين، إذ قام مراد كراي بخيانة عظمى للإسلام والمسلمين؛ وذلك بأنه سمح للأوربيين بالعبور من الجسر دون قتال؛ وذلك بسبب كراهيته وعداوته لقرة مصطفى؛ فقد كان مصطفى باشا يكره مراد كراي، ويعامله معاملة سيئة. أما مراد فكان يعتقد أن فشل مصطفى باشا في فيينا سيُسقطه من السلطة ومن منصب الصدارة، ولم يخطر ببال هذا القائد الخائن أن خسارة العثمانيين أمام فيينا ستُغَيِّر مجرى التاريخ العالمي؛ لذلك قرَّر مراد أن يظلَّ متفرجًا على عبور القوات الأوربية جسر الدونة، ليفكُّوا الحصار المفروض على فيينا، دون أن يُحَرِّك ساكنًا.
يضاف إلى ذلك، أن هناك وزراء وبكوات في الجيش العثماني كانوا لا يرغبون في أن يكون قرة مصطفى باشا هو فاتح فيينا، التي فشل أمامها السلطان سليمان القانوني.
المعركة الفاصلة
في يوم السبت (20 رمضان 1094هـ/ 12 سبتمبر 1683م) تقابل الجيشان أمام أسوار فيينا، وكان الأوربيون فرحين لعبورهم جسر الدونة دون أن تُسكب منهم قطرة دم واحدة، وكان الجيش العثماني في حالة من الذهول لرؤيتهم الأوربيين أمامهم بعد عبور جسر الدونة، إلا أن مصطفى باشا شنَّ هجومًا مضادًّا بمعظم قواته، وأجزاء من النخبة الإنكشارية لغزو المدينة، وكان القواد الترك ينوون احتلال فيينا قبل وصول يوحنا الثالث سوبياسكي، ولكن الوقت نفد..
ففي الوقت الذي أعدَّ المهندسون العسكريون تفجيرًا كبيرًا ونهائيًّا لتوفير إمكانية الوصول إلى المدينة, وبينما أنهى الأتراك على عجلٍ عملهم فقاموا بوضع المتفجرات في نفق، وتم إغلاقه لجعل الانفجار أكثر فعالية، اكتشف النمساويون موضعه في فترة ما بعد الظهر, فدخل أحدهم النفق، وأبطل مفعول التفجير في الوقت المناسب تمامًا.
وحدثت خيانة عظمى أخرى من جانب أوغلو إبراهيم قائد ميمنة الجيش العثماني؛ إذ انسحب من القتال، وكان لهذا الانسحاب الأثر الأكبر في هزيمة العثمانيين، وقد استطاع قرة مصطفى أن ينسحب بصورة منظَّمة من أرض المعركة، وفي طريق العودة قام قرة مصطفى بإعدام كلٍّ من مراد كراي وأوغلو إبراهيم، ولكن لم يشفع ذلك له عند السلطان محمد الرابع الذي أمر بقتله.
قُتل من العثمانيين حوالي 15 ألف رجل في القتال، وقُتل من الأوربيين ما يقرب من 4 آلاف قتيل، وأخذ الجيش العثماني معه أثناء الانسحاب 81 ألف أسير, وانتهى الحصار الذي استمرَّ 59 يومًا.
نتائج المعركة
كانت هزيمة العثمانيين عند أسوار فيينا نقطة تحوُّل فاصلة في التاريخ العثماني والأوربي، فقد فَقَدَت الدولة العثمانية بهزيمتها أمام فيينا ديناميكية الهجوم والتوسع في أوربا، وكانت الهزيمة نقطة توقُّف في تاريخ الدولة العثمانية، وتحرَّكت بعد ذلك جيوش التحالف المسيحي لاقتطاع بعض الأجزاء من الأملاك العثمانية في أوربا على مرِّ القرون اللاحقة.
المصدر: أيام لا تنسى صفحات مهمة من التاريخ الإسلامي تأليف تامر بدر.