[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
رغم أني عشت معظم حياتي في الدانمارك إلا أنني كنت أختلف عن البنات الدانماركيات الذين هم في مثل سني؛ فمعظم الشعب الدانماركي من الملاحدة أو البروتستانت، وكنت على ديانة الكاثوليك الصارمة بالنسبة للمجتمع الدانماركي المنحل.
والدي أرميني أرثوذكسي، ووالدتي بوسنيَّة مسلمة لا تعرف من الإسلام سوى اسمه، ولم تكن تعرف أنه لا يجوز زواج المسلمة بمسيحي إلا بعد أن اعتنقتُ أنا الإسلام وأفهمتها ذلك.
كنت أدرس في مدرسة خاصة هي المدرسة الكاثوليكية؛ ونظرًا لأن بيتنا لا تحكمه عقيدةٌ معينة فقد كان من السهل عليَّ أن أعتنقَ مذهب المدرسة الكاثوليكي.. تلك المدرسة التي بدأت توجهني ومن وقت مبكر لأنْ أكون مبشرة؛ نظرًا لقدرتي على تعلم اللغات واهتمامي بها من جهة، ولإتقاني بعض اللغات القديمة مثل العبرية والعربية والسريانية، وإن كان ذلك الإتقان في ذلك الوقت يحتاج إلى مزيد من دروس اللغة الخاصة ومزيد من الجهد، إلى حدٍّ أستطيع فيه فهم النصوص الدينية الخاصة بالديانات الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام.
كنت أدرس العربية عند رجل مسلم فاضل كان يعطيني من علوم العربية والقرآن ما يفتح آفاق الفضول عندي، ولم يحاول الضغط عليَّ في يوم من الأيام لكي أكون مسلمة، ولكنه كثيرًا ما كان يقول لي: (تتحطم السفن عند الشطآن ولا يشعر الربَّان بالأمان إلا عندما يبحر في عرض البحر... فأبحري هداك الله).
من جهة أخرى كان هناك رجل آخر يقوم بغسل كل ما علق من آثار درس المسلم، إضافةً إلى إعطائي دروسًا أخرى في الفلسفة والسياسة والاجتماع و... وكان ذلك الرجل من القساوسة الكاثوليك الذين طبع الله على قلوبهم فأصبحت غلفًا.
كنا نقرأ معًا كتبًا عن الإسلام والحركات الإسلامية المعاصرة وعن الملل والنحل، وكنا نبحث من خلال ذلك كله عن نقاط التشكيك في الدين العظيم الإسلام.
أثناء دراستي تلك مع ذلك القسّ تأثرت قليلاً بالديانة المورمونية التي تحرِّم المشروبات الروحية والاختلاط في الكنيسة بين الرجال والنساء.. وكان آخر كتاب أقرؤه مع ذلك القسّ استعرناه من مكتبة الجامعة اسمه (الإسلام بين الشرق والغرب) للرئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش. كان الكتاب باللغة الإنجليزية، ولكن يبدو أن أحد العرب استعاره قبلي، وكتب بقلم رصاص على أحد حواشيه آية ارتعدت لها فرائصي خوفًا.. {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
خفت كثيرًا من تلك الآية، وراجعت ترجمات القرآن بالإنجليزية والفرنسية والدانماركية والبوسنية فوجدتُ أن المعنى نفسه واحد.
قلت للقس: ألا ندرس القرآن ابتغاء الفتنة؟ قال: لا، نحن ندرسه لننقذ الناس منه.
صراع نفسي استمر شهورًا، أقبلت فيها بنهمٍ على قراءة الكتب الإسلامية والمسيحية وحيدة، حتى بتُ أشعر بالتشتت والضياع، فقررت أن أذهب إلى الله.
كنت أسكن بعيدة عن أهلي في السكن الجامعي، وكان لي غرفة لا يشاركني فيها أحد، فراودتني فكرة الانتحار لمعرفة الحقيقة..
الله نلقاه بعد الموت.
إذن يجب أن أموت لألقى الله.
كتبتُ رسالة ذكرت فيها أسباب الانتحار، وقطعتُ شرايين يدي وذهبت في غيبوبة كنت أسمع طوال الوقت الآية: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه} [آل عمران: 179].
أفقت في غرفة الإنعاش، ووجدت فوق رأسي القسّ وأبي وأمي والرجل المسلم الفاضل مدرِّس العربية.
فرحوا جدًّا لإفاقتي من الإغماء، وكان أول ما قلتُ لهم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
فسقط الأربعة مغشيًّا عليهم.
إغماؤهم كان واحدًا.
ولكن الأسباب شتى.
ويومها بدأتُ الإبحار في عرض المحيط، وبدأ الرُّبَّان يشعر بالأمان.
المصدر: كتاب (عادوا إلى الفطرة) إعداد: أبو إسلام أحمد بن علي.