[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
حقيقة إن اختيار قطر لاستضافة أكبر المنافسات والمحافل الرياضية على مستوى العالم، ونجاحها في الفوز بشرف تنظيم كأس العالم لكرة القدم عام 2022م، قد اعتبرها الكثير من العرب مصدر فخر وانتصار، خاصة وأن الملف القطري نجح في التغلب على نظيره الأمريكي في جولات الإعادة الأخيرة التي أجريت بمقر الاتحاد الدولي لكرة القدم، المعروف اختصارًا بـ"الفيفا"، في مدينة زيوريخ السويسرية.
لكن هذا الاختيار المفاجئ للجميع، بما فيهم القطريون أنفسهم حمل الكثير من الدلالات السياسية، والأبعاد الإقليمية التي يسعى النظام العالمي الجديد لإرسائها وترسيخها، مستخدمًا أخطر وأهم وسيلة من وسائل القوة الناعمة السائدة في العالم حاليًا، وهي كرة القدم، من خلال الاستعانة بأقوى الاتحادات الرياضية العالمية، والذي تفوق قوته ونفوذه أكبر وأقدم المؤسسات السياسية الدولية، ألا وهو "الفيفا".
ومما يؤكد على البُعد السياسي في اختيارات الفيفا للدول التي تستضيف فعاليات كأس العالم، هو اختيار روسيا لتنظيم تلك البطولة عام 2018م، على الرغم من وجود دول تفوقها في الإمكانيات، مثل إنجلترا وإسبانيا والبرتغال، والتي تؤهلها لاستضافة تلك البطولة، لكن البُعد السياسي كان الحاسم في اختيار روسيا، بعد تعاظم قوتها السياسية والعسكرية على المستوى الدولي، وربما يكون اختيارها للمرة الأولى جاء كمكافأة لها على دورها الإقليمي الذي تقوم به، باعتبارها قوة عظمى سابقة.
ولكي ندرك مدى تأثير هذا النوع الجديد من القوة الناعمة، يكفي أن نشير إلى أن كرة القدم أضحت في وقتنا المعاصر، سببًا في اندلاع الحروب والخلافات السياسية بين الدول بعضها مع بعض، ولعل النموذج المصري - الجزائري خير دليل على ذلك بعد أن كادت العلاقات بينهما تصل إلى حد القطيعة الكاملة بسبب مباراة في تصفيات كأس العالم، وسط تجاهل تام لتاريخ العلاقات الشعبية والثقافية والسياسية والاقتصادية بين البلدين الشقيقين. في المقابل استخدمت كرة القدم أيضًا كوسيلة لإنهاء الخلافات السياسية بين الدول، كما سبق وأن حدث بين إيران والولايات المتحدة من خلال إحدى المباريات التي أُقيمت في إحدى بطولات كأس العالم السابقة.
على كل الأحوال فقد تحولت كرة القدم من خلال "الفيفا" إلى كلمة السر السحرية التي يمكن من خلالها خلق واقع سياسي وعسكري جديد، قد يغير من صورة الخريطة الجيوسياسية في أية بقعة من بقاع العالم. وعلى ضوء القوة الناعمة التي يتحكم بناصيتها الاتحاد الدولي لكرة القدم، فإن خريطة الشرق الأوسط حاليًا مرشحة لأن تشهد تغييرًا جذريًّا في الفترة القادمة، بعد منح قطر مهمة تنظيم أكبر المحافل الرياضية على الإطلاق. ومن المتوقع أن تلعب كرة القدم دورًا ملموسًا في رسم حدودها وتضاريسها خلال فترة الاثني عشر عامًا القادمة، حتى موعد إقامة كأس العالم في قطر 2022م.
دلالات وأبعاد
ومما يؤكد مجددًا على أن قرار الفيفا باختيار قطر لاستضافة كأس العالم هو في الأساس قرار سياسي، وليس قرارًا رياضيًّا في المقام الأول حسبما يحلو للبعض ادعائه. سنسعى معًا خلال السطور القادمة رصد الدلالات السياسية والأبعاد الإقليمية لاختيار قطر لاستضافة كأس العالم القادمة، على أساس أن قرار الاختيار سياسيًّا وليس رياضيًّا بشكل مطلق.
فمن أبرز تلك الدلالات هي حتمية استبعاد اندلاع حرب جديدة في منطقة الخليج العربي، واستبعاد قيام الولايات المتحدة بشن هجوم عسكري مرتقب ضد إيران خلال الفترة القادمة، وعلى الأقل قبل ست سنوات من إقامة البطولة في 2022م. فلا يُعقَل أن تقوم قطر -التي حظيت بدعم قوى إقليمية لملفها سواء من إيران، أو من جانب "إسرائيل"- بتعريض الاستثمارات الضخمة التي سيتم ضخها خلال الفترة القادمة لإقامة الملاعب والمنشآت الرياضية والتي ستصل تكلفتها لأكثر من 20 مليار دولار للخطر، وأن تكون إمكانية إقامة مباريات كأس العالم على أراضيها والمشجعون الذين سيتدفقون على قطر من مختلف أنحاء الكون لمشاهدة تلك المباريات، مهددة بسبب حرب جديدة في المنطقة، وهو الأمر الذي يعكس تزايد الدور السياسي الذي ستقوم به قطر خلال الفترة القادمة، باعتبارها نموذجًا لدول الشرق الأوسط خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، والذي سيتسم -وفقًا للمحللين- بتفتيت الدول العربية، وتقسيمها لدويلات، بحيث لا يمكن أن تتجاوز مساحتها مساحة الكيان الصهيوني، وهي المساحة نفسها لدولة قطر.
الشرق الأوسط الكبير
أما الدلالة الثانية وراء اختيار قطر لتنظيم كأس العالم 2022م تتمثل في ترسيخ فكرة الشرق أوسطية على حساب القومية العربية؛ فقطر عند ترويجها لملفها لدى مؤسسة الفيفا، لم تذكر الدول العربية أو المنطقة العربية، بل استخدمت مصطلح الشرق الأوسط؛ ليصبح مصطلحًا أكثر شمولاً ليشمل الكيان الصهيوني، الذي لا يمكن أن يكون عضوًا في أي تجمع عربي بأي حال من الأحوال. ولعل استعانة قطر بطفل "إسرائيلي" خلال ترويجها لملفها، خير دليل على قيادة قطر لتطبيق البُعد الشرق أوسطي على حساب البُعد القومي العربي!! من أجل الفوز باستضافة المونديال الكروي 2022م، وهو الأمر الذي لا يعدو كونه مجرد إحياء قطري لمخطط صهيوني قديم كان يقوده الرئيس "الإسرائيلي" شيمون بيريز، من خلال ترويجه لفكرة الشرق الأوسط الكبير؛ لفرض مزيد من التطبيع بين الدول العربية والكيان الصهيوني.
العباءة العربية !
ولعل من أكثر الدلالات السياسية على قيادة قطر لفكرة الشرق الأوسط الكبير، هو تفضيل الشيخ حمد بن خليفة أمير دولة قطر ارتداء بذلة على الطراز الغربي، وخلعه للجلباب والعقال العربي الذي اشتهر بارتدائه، خلال حضوره حفل اختيار الدولة المنظمة لكأس العالم الذي أقامته الفيفا، بشكل كان من الصعب التعرف عليه؛ وذلك بهدف كسب المزيد من التعاطف الغربي، ولتأكيده على خروجه عن العباءة العربية، وارتدائه للعباءة الشرق أوسطية، بما يتوافق مع آليات الخريطة الجيوسياسية الجديدة في المنطقة. فالأمر ليس فقط مجرد تغيير في المظهر الخارجي والملابس، بل يحمل مغزى وبُعدًا سياسيًّا طويل الأمد.
الورقة الصهيونية
ويبدو أن اختيار قطر لاستضافة كأس العالم 2022م، والذي أصبح ممكنًا بعد موافقة ضمنية من جانب الكيان الصهيوني، قد حمل دلالة سياسية مهمة أخرى، تتمثل في إعادة فتح أبواب التطبيع بين الدوحة وتل أبيب، والتي بدورها ستساهم في المشاركة في كعكة كأس العالم القطرية، الأمر الذي سيمهد الطريق أمام اختراق الكيان الصهيوني للأسواق الخليجية والعربية. من غير المستبعد أن تكون قطر الجسر الذي ستقام على قواعده أسس جديدة للعلاقات بين إيران و"إسرائيل"، خاصة إذا ما سلمنا باستبعاد قيام "إسرائيل" أو الولايات المتحدة بشن هجوم عسكري على إيران.
وعلى ضوء ما سبق ليس مستبعدًا أن يفتح اختيار قطر لتنظيم كأس العالم أبواب التطبيع الرياضي على مصراعيه بين الكيان الصهيوني والدول العربية، بشكل يوحي بانتهاء الصراع السياسي الذي دام لأكثر من ستة عقود؛ وذلك لكي تثبت مرارًا وتكرارًا تعهدها بموافقتها على استقبال المشجعين والمنتخب "الإسرائيلي" على أراضيها.
على أية حال، الدلالات والأبعاد السياسية سالفة الذكر تؤكد -وبشكل لا يدع مجالاً للشك- أن الفترة القادمة ستشهد المزيد من التطورات السياسية المهمة ستغير من صورة الشرق الأوسط، في إطارها يبرز دور الدويلات الصغيرة على حساب دور الدول الكبرى، التي تعاني يومًا بعد يوم من شبح الفتنة والتقسيم والتحول لدويلات صغيرة؛ فشرقًا هناك العراق واليمن ولبنان، وجنوبًا السودان والصومال، وشمالاً مصر والجزائر والمغرب. فهل سيكون كأس العالم مكافأة قطر على قيادتها للدويلات العربية في 2022م تحت مسمى الشرق الأوسط بدلاً من القومية العربية؟!!
المصدر: موقع مفكرة الإسلام.
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]