[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
خلفيات الحدث
مُنيَت الولايات المتحدة الأمريكية منذ غزت العراق في 2003م وإلى الآن بالعديد من الإخفاقات والفشل على جبهات عدَّة، مما يثير تساؤلات حول مستقبل المشروع الأمريكي؟ ودرجة تقدمه أو تراجعه؟!
والواقع يشير إلى تراجع المشروع الأمريكي، في معظم مناطق العالم، وفي الشرق الأوسط بصفة خاصة، ومن دلائل ذلك:
صعود حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إلى سدة الحكم وفوزها بحوالي 60% من مقاعد المجلس التشريعي؛ رغم التهديد والوعيد بمنع المساعدات الاقتصادية عند الانحياز إلى المقاومة، ورغم اعتبار الانتخابات التشريعية الفلسطينية في 25 يناير 2006م، نموذجًا ديمقراطيًّا فريدًا في المنطقة العربية؛ شارك فيها نحو 77% ممن يحق لهم الاقتراع بدرجة عالية من الانضباط والنزاهة حازت على إعجاب كافة المراقبين.
فصعود "حماس" يؤكد أن الشعب الفلسطيني كله ينادي بوقف الهيمنة الصهيوأمريكية على المنطقة وشعوبها، واستعادة دور الأمة الطبيعي بين الأمم.
- وقوف الشعب اللبناني ومقاومته أمام الاعتداء الصهيوني على الجنوب اللبناني في يوليو 2006م.
- تكبد الجيش الأمريكي خسائر فادحة على يد المقاومة العراقية.
- تكبد الجيش الأمريكي خسائر فادحة على يد المقاومة الأفغانية.
- استقالة الرئيس الباكستاني برويز مشرف، الحليف الأكبر لأمريكا في آسيا، بعد ضغوط رهيبة من الشعب الباكستاني.
- استئناف كوريا الشمالية العمل في مفاعل يونغ بيون النووي.
- رفض إيران الانصياع لأمريكا والتخلي عن مشروعها النووي.
- عودة روسيا للساحة العالمية؛ خاصة بعد انتصارها الساحق في حربها الأخيرة مع جورجيا في أغسطس 2008م!!
- تدمير روسيا لمطارات جورجية خططت إسرائيل ضرب إيران عبرها.
- معاناة أمريكا من أزمة مالية خانقة عبر عنها الرئيس السابق للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي آلان جرينسبان بأنها الأخطر منذ 50 عامًا.
- الإخفاقات الاقتصادية المتتالية؛ ومؤشراتها:
- هناك 37.3 مليون أمريكي يعانون من الفقر.
- 46 مليون أمريكي يفتقرون إلى خدمات التأمين الصحي.
- انهيار عشرة مصارف عام 2008م فقط، آخرها "ليمان براذرز" رابع أكبر بنك في الولايات المتحدة.
- التراجع الكبير في مؤشرات البورصات الأمريكية لدرجة لم تحدث منذ نوفمبر 2005م.
- معاناة 117 مصرفًا أمريكيًّا مشاكل كبرى خلال الربع الثاني من عام 2008م.
دلائل فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية
عادل لطيفي
لفوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية أبعاد ودلالات عدة تتجاوز الإطار الفلسطيني المباشر. فهذا الفوز، وعلى الرغم من ارتباطه الوثيق بطبيعة الظرف الفلسطيني الداخلي، لأنه أولاً وقبل كل شيء إفراز لواقع سياسي واجتماعي على الأرض الفلسطينية، تبقى له امتدادات تهم منطقة الشرق الأوسط ككل أو ربما تتجاوزها إلى فضاء أوسع من ذلك.
فليس من باب المبالغة القول إن هذا الفوز يضع المشروع الأميركي لتسويق الديمقراطية وتغيير وجه الشرق الأوسط الكبير في مأزق جدي
.
فالحرب الأميركية من أجل هذا التغيير ومن أجل القضاء على ما تقول إنه عدو للديمقراطية، أي الإسلاميين حتى من غير المنخرطين في الجهادية العالمية، أدى إلى مزيد من الراديكالية السياسية في المنطقة تحت لواء التوجهات الإسلامية.
وفوز حماس يعد في هذا السياق مؤشرا آخر على المفارقة بين نشر الديمقراطية في المنطقة لصدّ الإسلاميين وبين فوز هؤلاء في كل مناسبة انتخابية.
سياسة الاستباق الأميركي
لقد كانت الإدارة الأميركية، ومنذ سنوات واعية بمدى أهمية مؤشرات تراجع الأنظمة الشرق أوسطية التقليدية، وحتى الحليفة منها. كان الأمريكيون واعين كذلك بأن الضبابية التي تلف المشهد السياسي الشرق أوسطي قد تؤدي إلى زيادة نفوذ التيارات الإسلامية وإمكانية وصولها إلى السلطة.
ولذلك أرادت استباق الأحداث لفرض إطار تتم فيه التحولات السياسية المرتقبة في المنطقة. وفي هذا السياق جاء مشروع العراق-المختبر، الذي أريد له أن يعطي صورة ناصعة عن النموذج الديمقراطي الأمريكي بما يخدم تيارات الاعتدال في المنطقة.
لقد انطلق الأمريكيون في قراءتهم للوضع القائم في الشرق الأوسط من فكرتين أساسيتين. الأولى هي استحالة إنجاز مشروع ديمقراطي من الداخل وبالتالي لا بد من دفع خارجي قادر على تجاوز الجمود القائم.
والثانية هي أن الممارسة الديمقراطية كفيلة بمحاصرة التيارات الإسلامية بمختلف أصنافها وإفراز قوى أخرى قادرة على التواصل مع السياسة الأمريكية.
والحقيقة أن هذه النظرة انبنت على معطيات استخباراتية أكثر من اعتمادها على أسس معرفية موضوعية.
فغياب بوادر التحركات الداخلية لا يعني جمود المجتمعات العربية والشرق أوسطية. المشكل الثاني أن هذه القراءة استثنت الإسلاميين من اللعبة الديمقراطية، ربما لاعتقاد الأميركيين بأن التيارات الإسلامية ترفض الخيار الديمقراطي من منظور ديني. أما المشكل الثالث فيتمثل في عدم التفريق بين خصوصيات الحركات الإسلامية ذاتها.
فالأحزاب السياسية الإسلامية التقليدية، مثل حركة الإخوان المسلمين في مصر والنهضة في تونس والإسلاميين الأردنيين، لا تتبنى نفس مواقف ما يعرف بالجهادية العالمية التي تكفر الأنظمة القائمة وحتى الشعوب.
لهذا السبب بالذات أرادت الإدارة الأمريكية ولو بشكل غير مباشر الوقوف ضد مشاركة حماس في الانتخابات التشريعية الأخيرة في البداية، ثم حاولت، عندما اقتنعت بصعوبة الحول دون هذه المشاركة، أن تساند خصومها السياسيين من الحركات الأخرى بشكل مالي مباشر، كما كشفت عنه مصادر صحفية ورسمية.
لقد أراد الأمريكيون، ومن ورائهم الإسرائيليون، أن تكون هذه الانتخابات وسيلة للضغط على القيادة الفلسطينية التقليدية غير الجادة في إحداث تغيير قد يضعف من هيمنتها على القرار الفلسطيني.
هذا المشهد الفلسطيني بنتائجه العكسية، يذكر الأمريكيين بالنتائج العكسية "لتحرير" العراق وما تبعه من مسار انتخابي. فـ"التحرير" انتهى إلى تكوّن حركة مقاومة عنيفة، وذلك بغض النظر عن حكمنا لها أو عليها على مستوى وسائلها.
كما انتهى المسار الانتخابي إلى تأكيد موقع الأطراف الرافضة للوجود العسكري الأميركي مثل السنة والتيار الصدري، وهي تيارات إسلامية في نهاية الأمر. هذا بالإضافة إلى إضفاء صبغة شرعية على الطائفية.
إذن، ومع فوز حماس، بات الأمريكيون أكثر ذهولاً أمام منطقة تبدو عصيَّة على التدجين. فكأني بهم يتساءلون كيف يمكن للديمقراطية أن توصل إلى الحكم أطرافًا غير ديمقراطية، وكيف للحرية أن تشجع على الإرهاب؟ لقد أرادت الإدارة الأمريكية زمن بوش الابن التحرك عمليا لتغيير الوضع في الشرق الأوسط بغاية السيطرة عليه، لكنه اليوم يعطيها مشهدا غير متوقع.
فما من شك في أن فوز حماس هو إلى حد ما إحدى نتائج مسار السلام الذي رعته الولايات المتحدة منذ مؤتمر مدريد. وهي نقطة مهمة على قياديي حماس أن يولوها ما تستحق من الأهمية.
لقد أراد الساسة الأمريكيون تغيير خريطة الشرق الأوسط، ليس على مستوى الحدود بل على مستوى توجهات الأنظمة وعلى مستوى التوازنات الإقليمية الناتجة عنها، وذلك بالطبع في اتجاه خدمة المصالح الأمريكية. لكنهم وجدوا أنفسهم أمام مشهد جديد ما انفكت تؤكده الأحداث الأخيرة ومن بينها فوز حماس الانتخابي.
مشهد جديد وتوازنات جديدة
جاء هذا الفوز إذن في ظرف شرق أوسطي طغى عليه حدثان بارزان. يتمثل الأول في تأكيد المواجهة بينها وبين سوريا وإيران، والثاني في تعزز مواقع التوجهات الإسلامية.
على مستوى المواجهة مع إيران وسوريا يبدو أن الإدارة الأمريكية لم تجد بعد نفس تلك العزيمة التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر. فهي مقتنعة بمحدودية هامش التحرك ضد سوريا وضد إيران بسبب غرقها في المستنقع العراقي. ولهذا السبب فضلت التعويل على شراكة أوروبية بهدف عزل البلدين طالما يبقى كل خيار عسكري مستبعدا وخاصة في ظل غموض الوضع في العراق.
وإيران واعية تمامًا بهشاشة الموقف الأمريكي وكذلك بأهمية ورقتها العراقية والنفطية. أمَّا سوريا فهي في وضع أكثر حرجًا بسبب العزلة التي أفرزها اغتيال الحريري حتى داخل الساحة العربية.
في هذا السياق يمكننا أن نفهم البعد الإقليمي لفوز حماس. فهي ورقة جديدة لإيران بحكم التوجهات الإسلامية المشتركة، وبحكم الموقف المشترك من الدور الأمريكي. وربما سيتعزز التحالف إذا أصرت الدول الغربية على قطع مساعداتها عن الفلسطينيين، لأن إيران هي المرشح الأقوى لتعويض الدول المانحة.
كما يُعَدُّ فوز حماس ورقة مهمة بالنسبة لسوريا في إطار مواجهتها مع الأوربيين والأمريكيين؛ إذ ستعزز هذه الورقة من الموقف السوري من مسار السلام، بعد أن كانت سوريا الدولة الوحيدة المتمسكة بروح مؤتمر مدريد. كما سيزيح عنها نسبيًّا تهمة مساندة الإرهاب، لأن من تؤويهم هم في النهاية حركات سياسية تساهم في البناء الديمقراطي الفلسطيني.
على مستوى آخر سيساهم فوز حماس في تعزيز ما يمكنني تسميته "بالأسلمة الظرفية" للمنطقة؛ فقد أصبح للتوجه السياسي الإسلامي حضور لافت ينافس الأنظمة القائمة ويُحد من التدخل الأمريكي. فحماس تُعد حلقة أخرى من حلقات التشكل الإسلامي السياسي، ودورها يكمُن في تواصلها مع مختلف القوى الممثلة للتوجه الإسلامي -المقصود هنا نواب الإخوان المسلمين في مصر، التيار السني والتيار الصدري في العراق، حزب الله في لبنان ثم النخبة الراديكالية في إيران بقيادة أحمدي نجاد.
كما يمكننا أن نضيف إلى هذه الخريطة العناصر الإسلامية في البرلمان الكويتي وفي البرلمان الأردني. إنها أطراف قادرة على تشكيل جبهة رفض للسياسة الأمريكية وللقوى الحليفة لها بالمنطقة. وربما ذهبت هذه الجبهة إلى أبعد من ذلك إذا حاولت التنسيق مع دول متمردة أخرى مثل فنزويلا وبوليفيا والبرازيل.
فوز حماس، إذا ما وضعناه في سياق النجاح الانتخابي لإخوان مصر وللحزب الإسلامي في العراق وكذلك لحزب الله، سيؤدي إلى إضعاف التيارات الجهادية الأكثر تطرفًا.
فعلى الساحة الفلسطينية سيؤدي إلى عزل حركة الجهاد، كما سيؤدي في العراق إلى سحب شرعية جماعة الزرقاوي والمرتبطين به. أما على مستوى المنطقة فسيساهم في إضعاف مكانة تنظيم القاعدة.
هذا الفوز سيعطي نوعًا من الشرعية للعمل السياسي السلمي الذي أصبح أكثر إقناعاً بفاعليته. في هذه الحالة ستجد الولايات المتحدة نفسها مجبرة على التعامل مع هذه القوى لأنها أصبحت واقعاً سياسيًّا مسنوداً بشرعية شعبية، ثم لأنها تمكنها من عزل تيارات الجهادية العالمية.
الحرب الجورجية الروسية.. مقدمات وأبعاد
منير شفيق
فيما كانت روسيا تتخلى عن مواقع نفوذها الخارجي وصولا إلى المواقع التي تمس أمنها القومي مباشرة، شن حلف الأطلسي "الناتو" عام 1999 حرباً على بلغراد، أي على المعقل الصربي الأرثوذكسي الذي يعني روسيا مباشرة.
وبالفعل حاولت روسيا يلتسين الدفاع عن حليفها الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش، وهو ما منع أميركا من شن الحرب تحت مظلة هيئة الأمم المتحدة، لأن الفيتو الروسي كان بانتظارها ولهذا شنت الحرب باسم حلف الناتو.
الحرب على بلغراد كانت حدثا خطيرا، فهي الحرب الأولى التي تقع في أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومعروف لمن يدققون في الإستراتيجيات الدولية في مرحلة الحرب الباردة أن أوروبا كانت مركز الصراع بين حلفي الناتو ووارسو.
ومن ثم كانت أي حرب مباشرة أو بالوكالة تندلع لتغير الأمر الواقع لحدود الدول ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تعني التحول فورا إلى حرب عالمية نووية بين أميركا والاتحاد السوفيتي، ولهذا تجنب الطرفان اللعب بالنار في أوروبا، الأمر الذي أتاح لها سلما مديدا.
لولا الافتراء الذي عم وطمّ في روسيا في عهد الرئيس بوريس يلتسين، ولولا اختراقه بمراكز قوى مؤمركة ومصهينة داخل الدولة والمجتمع لما تجرأت إدارة بيل كلينتون وحلف الأطلسي على شن حرب ضد صربيا.
وقد أثبتت الوقائع فعلا أن تراجع يلتسين في اللحظة الحرجة وتوجهه إلى ميلوسوفيتش ليقبل عروض وقف الحرب التي حملتها الوساطة الروسية/الفنلندية وقد تضمنت شروط حلف الأطلسي، أن التقدير الغربي كان في محله من حيث استسلام يلتسين قبل استسلام ميلوسوفيتش، بل ما كان ميلوسوفيتش ليستسلم لولا استسلام يلتسين الذي اعتمد عليه وكان سنده طوال الوقت.
المقصود هنا التأكيد على أن الحرب ضد صربيا كانت استثناء بالنسبة لاندلاع حرب في أوروبا، وهو استثناء حتى في مرحلة السنوات العشر التي تلت انتهاء الحرب الباردة.
ومن هنا فقد جاء خارج السياق شن الحرب بين روسيا وجورجيا بعد أن انتهى عهد يلتسين، واستعادت روسيا قوتها وتماسكها من خلال تصفية مراكز القوى المؤمركة والمصهينة، ومن ثم تمكن فلاديمير بوتين من إعادة بناء الدولة الروسية ذات الأنياب والمخالب النووية الصاروخية وقد غدت مرة أخرى، دولة كبرى، يجب أن يحسب حسابها، أو يجب أن تصبح شريكا في النظام الدولي ما بعد انتهاء الحرب الباردة.
خلال السنوات السبع الماضية انكب الرئيس الروسي بوتين على إخراج روسيا من حالة الانهيار والتفكك، وقد استفاد استفادة قصوى من إستراتيجية المحافظين الجدد في أميركا بعد أن تخلوا عن -أو أجّلوا- إستراتيجية احتواء روسيا وتفكيكها وتجريدها من سلاحها النووي والصاروخي.
وهي الإستراتيجية التي رسمها بوش الأب، وتابعها بيل كلينتون (السعي لشراء السلاح النووي أو التعويض عن تدميره تدريجيا) وبدهي أن النصر يظل ناقصا ما بقي ذلك السلاح بيد روسيا.
وبالفعل كادت الإستراتيجية الأميركية في السنوات العشر الأولى بعد انهيار حلف وارسو وتفكك الاتحاد السوفياتي أن تذهب بروسيا إلى الانحلال السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الكامل، في عهد بوريس يلتسين الضعيف والفاسد، فكان الاستسلام في حرب صربيا والغرق في الديون علامتين لا تخطئان في الدلالة على ذلك المصير.
ولكن مجيء فلاديمير بوتين إلى الرئاسة بصفقة مع يلتسين نفسه من جهة وضمن أجواء غضب واسع، داخل الجيش والأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة الأخرى، كما داخل المجتمع عموما، على ما آل إليه وضع روسيا بطرس الأكبر، أو روسيا لينين وستالين إلى بريجنيف، من جهة ثانية ثم مجيء المحافظين الجدد بإستراتيجيتهم الطائشة التي ذهبت إلى إهمال متابعة تفكيك روسيا والضغط على الصين لتلقى المصير نفسه، (التفكيك والانهيار)، وذلك بجعلهم ما أسموه "الحرب ضد الإرهاب" وأولوية الإستراتيجية الأميركية، وكان المقصود منها كما عكسه الواقع العملي للسياسة الأميركية، إعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير "وفقا لأهداف المشروع الإسرائيلي الصهيوني".
فالمحافظون الجدد وعلى رأسهم بول وولفوفيتر كانوا وراء الإستراتيجية الأميركية، لإدارة جورج دبليو بوش، ونائبه ديك تشيني، ووزير دفاعه دونالد رمسفيلد، ورئيسة مجلس الأمن القومي في حينه كوندوليزا رايس، وهؤلاء صهاينة ما فوق الليكود في مشروعهم لتأمين مستقبل إسرائيل بما لا يدع مجالا لخطر.
بل بما يجعلها شريكة أميركا في الهيمنة المباشرة على بلدان منطقة الشرق الأوسط الكبير، بعد تفتيته وتركيعه.
فمشروع الشرق الأوسط الكبير كان يقتضي استخدام العضلات العسكرية الأميركية مباشرة إلى جانب مختلف ألوان الضغوط من أجل تفكيك بعض البلدان العربية وفرض استسلام كامل لمصلحة إسرائيل على بعضها الآخر.
وكذلك وضع أولويات متدرجة تبدأ بغزو العراق وتفكيكه ومحوه من الخريطة كدولة عراقية موحدة ذات هوية عربية إسلامية جنبا إلى جنب مع إطلاق يد شارون لإنهاء الانتفاضة والمقاومة، بل وأدنى ممانعة فلسطينية.
ثم الضغط على سوريا (الشروط التي حملها كولن باول وزير الخارجية فورا إثر احتلال العراق) ثم الانتقال لحرب شاملة على لبنان لتصفية المقاومة تليها حرب على إيران.
أما الدول العربية الأخرى، وفي المقدمة مصر والسعودية، فقد وضعت تحت الابتزاز للإخضاع والتطويع الكاملين من خلال إثارة موضوع الإصلاح وتعميم الديمقراطية.
هذه الإستراتيجية اقتضت مهادنة روسيا والصين للتركيز على هذه المهمة التي تحولت إلى ورطة، وبدت صعبة للغاية، خصوصا مع صمود الشعب الفلسطيني وتوحده في الانتفاضة والمقاومة، كما اندلاع المقاومة العراقية فورا بعد الاحتلال، ورفض سورية الخضوع للشروط التي حملها كولن باول، وتعثر السياسات الأميركية بصورة عامة.
ولهذا وجدت أميركا بوش نفسها منذ 2004 مضطرة لعقد صفقات مع روسيا والصين لتمرير أي قرار تريد استصداره من مجلس الأمن فيما يتعلق بلبنان والعراق وسوريا وإيران.
وكان الثمن في هذه الصفقات دائما هو غض النظر عما يفعله بوتين في روسيا ومن حولها، حتى لو كان الثمن ضرب قوى مؤمركة ومصهينة، وعما تفعله الصين في غزو أسواق العالم وعقد الاتفاقيات النفطية وتطوير قدراتها العسكرية والتكنولوجية.
وقد سمحت هذه الإستراتيجية الأميركية لدول أخرى بالاستفادة من تركيز أميركا على ما أسمته "الشرق الأوسط الجديد" وغرقها أو استنزافها فيه مثل الهند وعدد من بلدان أميركا اللاتينية.
وإذا بالهند تتحول إلى عملاق اقتصادي وحتى نووي، وإذا ببلدان أميركا اللاتينية تشهد موجات ثورية جديدة ضد العولمة المؤمركة والهيمنة الأميركية، وهكذا تم كل ذلك من أجل عيون "مشروع الشرق الأوسط الجديد".
ما تقدم أريد منه إظهار ما حدث من متغيرات جديدة في الوضع الدولي خلال السنوات السبع الماضية من حيث تدهور وضع أميركا واستعادة روسيا لوضعية الدولة الكبرى، فضلا عما حدث من تطورات في مصلحة الصين والهند وأميركا اللاتينية، إلى جانب ما حدث من تغيرات في موازين القوى في مصلحة قوى المقاومة والممانعة شعبيا ورسميا في المنطقة نفسها التي استهدفتها إستراتيجية المحافظين الجدد.
باختصار عندما توصف إستراتيجية المحافظين الجدد بالطائشة فلا يقال ذلك بقصد التحريض أو التنديد، وإنما لتفسير النتائج التي نجمت عنه بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
فقد دفعت هذه الإستراتيجية، الدول التي تنافس أو يمكن أن تنافس هيمنة أميركا العالمية عسكريا واقتصاديا إلى مرتبة ثانية، واضعة في أولوياتها دولا وقوى لا تنافس، ولا يمكن أن تنافس في مدى قريب أو متوسط، أو حتى بعيد تلك الهيمنة، وما كان مبعث هذا طيش جهالة، وإنما الغرض هو خدمة المشروع الصهيوني وتسخير أميركا من أجله حتى ولو لبضع سنين.
ولكن هذا "الغرض" (الغرض مرض كما يقول المثل العربي) حمل جهالة بالضرورة بمعرفة من راح يحاربهم، كما من راح يهادنهم ويغض الطرف عما يفعلون.
ولهذا فأميركا ستعض أصابعها ندما على ما أضاعته خلال السنوات السبع الماضية، أو على ما قدمته هدية لا تقدر بثمن لروسيا والصين والهند والبرازيل وإيران (وربما تركيا اقتصاديا)، فضلا عن قوى شعبية تصلبت في المقاومة والمواجهة والممانعة، ناهيك عن إيران، وسوريا، وفنزويلا، وبوليفيا.
ومن ثم وعلى ضوء هذه المعادلة، يجب أن تقرأ الحرب الجورجية/الروسية وما قد ينجم عنها من نتائج وتداعيات على أوروبا والعالم، ولا سيما بالنسبة إلى العلاقات الأميركية/الروسية.
صحيح أن المعتدي في هذه الحرب هي جورجيا –فهي التي ابتدأتها، وهي التي اجتاحت بقواتها العسكرية أوسيتيا الجنوبية رامية قفاز الحرب في وجه روسيا– وصحيح أن هذا التجرؤ على الشقيق الأكبر (الأشقاء السوفيات لمدى يزيد على السبعين عاما) ما كان ليحدث لولا التنسيق مع أميركا وتشجيعها بل تحريضها عليه.
هذا التنسيق يكشفه التسليح الأميركي/الإسرائيلي السابق للجيش الجورجي كما تدل عليه المسارعة الأميركية بنقل القوات الجورجية من العراق إلى ميدان الحرب، وما تظهره أميركا من دعم لوجستي وسياسي، وحشد إعلامي ضد روسيا.
وأخيرا فإن الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي أذكى من أن يقدم على الحرب دون تنسيق مع السيد الأميركي، ولكن السؤال ما الذي دعا إدارة بوش إلى دفع جورجيا إلى شن حرب هي الأخطر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لأنها حرب في أوروبا أولا، ولأنها حرب ضد روسيا مباشرة ثانيا، ولأن روسيا ميدفيديف وبورتين، ليست روسيا يلتسين بالتأكيد ثالثا، ولأنها حرب مواجهة بين روسيا وأميركا رابعا؟.
ردود الفعل الجورجية والأميركية على ضخامة الرد الروسي العسكري الحاسم تدل على ارتباك ووقوع بالمفاجأة، كأن روسيا هي التي شنت الحرب وليسوا هم (بوش، وساكاشفيلي، ورؤساء أوربيون آخرون).
إذا كان المعنيون وراء العدوان العسكري الجورجي على روسيا لم يقدروا أن يكون رد الفعل العسكري الروسي بهذا الحجم والحسم، فهذه مشكلتهم، لا سيما إدارة بوش التي كتب عليها قدرا أن تخطئ في كل تقدير موقف اتخذته، فمن ذا الذي يمكنه أن يخطئ في رؤية الفارق بين يلتسين، وبوتين وميدفيديف، دون التقليل من أهميته، أو بين روسيا يلتسين، وروسيا بوتين؟.
يبدو لا أحد غير جورج دبليو بوش يمكنه أن يفعل ذلك حتى غدا خبيرا اختصاصيا في ارتكاب الأخطاء أو في تخريب بيت كل من يحالفه، أو يتواطأ معه أو يسايره، بهذا القدر أو ذاك.. والأمثلة كثيرة وليس حال برويز مشرف ببعيد مثلا.
قد يذهب البعض إلى القول إن فشل إدارة بوش في التوصل إلى اتفاق بين أولمرت وعباس بالرغم مما بذل ويبذل من جهود، وما تحقق من خطوات لم تعلن، كما أن التردد في شن حرب ضد إيران بالرغم من أنها لم تزل على الأجندة وتحت الأخذ والرد، فرضا على إدارة بوش الواقعة تحت ضغط الانتخابات أن تجرب حظها ضد روسيا من أجل خدمة الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية والنصفية للكونغرس، وذلك بنقل الحرب ضد روسيا إلى حرب إعلامية، وتحويل الأنظار عن مسلسل الإخفاقات على كل صعيد.
بيد أن الرد الروسي العسكري إذا ما تكلل بنصر سياسي من خلال فرض أغلب الشروط الروسية عبر الوساطة الأوروبية، قد يقلب السحر على الساحر في الانتخابات الأميركية أيضا، فباراك أوباما واقف بالمرصاد مزايدة ضد الروس ونقدا لأخطاء إدارة بوش.
أما من جهة أخرى، وهذا هو الأهم، فإن تجربة حرب جورجيا أميركا ضد روسيا، ومهما كانت النتائج، أعادت لروسيا هيبة الدولة الكبرى عسكريا، وأين؟
في قلب أوروبا حيث يعني التدخل العسكري بهذا الحجم تصعيدا يلوي الأذرع، أو يذهب إلى الاقتراب من النووي في حال التدخل الأميركي المباشر، أو إلى بداية حرب باردة ذات نكهة(شروط وسمات) غير تلك التي كانت بين المعسكرين السوفيتي والأميركي.
خروج روسيا بحل سياسي في مصلحتها بعد ردها العسكري سيكون فاتحة لتغيير في أولويات الإستراتيجية الأميركية مع كل من ماكين وأوباما، بل إن أميركا منذ الآن بحاجة إلى صوغ إستراتيجية يتفق عليها الحزبان.
وذلك تمشيا مع التقليد الأميركي حيث لا بد من اتفاق الحزبين على الأولويات الأساسية لإستراتيجية أميركا الخارجية، وهو ما شذ عنه المحافظون الجدد حين استفردوا بوضع إستراتيجية تخطت ما كان متفقا عليه بين الحزبين، وتركوا أصحاب إستراتيجية الحزبين الجمهوري والديمقراطي يلهثون وراءهم ضاربين كفا على كف.
هذه الإستراتيجية المفترضة لا بد من أن تضع في أولوياتها محاصرة روسيا والصين، كلتيهما أو إحداهما، وضبط تطور الهند والبرازيل، واستعادة الموقع القيادي للدولار الذي أخذ يتدهور، وإنقاذ الاقتصاد من الركود والتضخم، ومن ثم إعادة علاقاتها بمختلف الدول على ضوء الإستراتيجية الجديدة.
وإذا ما صح ذلك فسوف تخبو الحملة المفتعلة النابعة من إستراتيجية المحافظين الجدد ضد الإسلام والمجتمعات الإسلامية، أو ما عرف بالإسلاموفوبيا.
فالمعيار للعلاقات بين الدول سيرتبط بالموقف من الأولوية الجديدة التي ستحدد للإستراتيجية، ولا يستبعدن أحد أن يصار إلى استخدام بعض الحركات الإسلامية والبلدان الإسلامية ضد روسيا أو الصين عندئذ.
ما حدث في الوضع العالمي حتى الآن هو أن دولا كبرى، بما في ذلك أوروبا الغربية أخذت في الصعود لتحتل موقعا قياديا في النظام الدولي الجديد الذي لم يتكون بعد انتهاء الحرب الباردة، وقد تجاوز مرحلة محاولة أميركا جعله أحادي القطبية، وأخذ يتجه رويدا رويدا منذ 1995 نحو تعدد القطبية، وقد تكرس ذلك الاتجاه اليوم بشكل صارخ مع ما حدث من تغييرات في عهد إدارتي جورج دبليو بوش، الأولى والثانية.
إن حرب جورجيا ستشكل في تداعياتها علامة لإعادة تشكل العلاقات الروسية مع كل من أوروبا وأميركا، ولكن ذلك لن يأخذ شكله المحدد والنهائي "خصوصا" أذا نجحت المساعي الأوروبية التي تقودها فرنسا، في تهدئة النزاع وإطفاء فتيل المواجهات المسلحة، إلا بعد الانتخابات الأميركية، وربما في الأشهر القليلة المتبقية من إدارة بوش المتهاوية تحت ضربات الإخفاقات والفشل.
وبهذا تعود المعادلة الدولية لتحترم موازين القوى الحقيقية والواقعية بعيدا عن أغراض المحافظين الجدد، وأيديولوجيتهم وجهالتهم في تقدير الموقف على كل صعيد.
وكلمة أخيرة، هي أن إستراتيجية المحافظين الجدد وسياساتهم، عدا ما ألحقته من كوارث بالعراق على الخصوص، لم تكن سيئة على العالم عموما حين هوت بقوة أميركا وسمعتها، وأحدثت مثل ذلك وأكثر بالكيان الصهيوني، ومن ثم أفادت آخرين كثيرا من حيث لم تقصد، فما من إمبراطورية أخذت بالتدهور إلا نتيجة أخطاء إستراتيجية ترتكبها، ومفاسد تحل بها، ابتداء من المركز ونزولا، وبالمناسبة صاحب إدارة بوش الكثير من الفساد المالي لا سيما في العراق مما فاقم خللها الإستراتيجي.
بعد الهيمنة الأمريكية.. عالم بلا أقطاب
بقلم - ريتشارد هاس
يشهد النظام الدولي حالياً العديد من التغيرات التي توحي بحدوث تحول ما في طبيعة هذا النظام، فالصعوبات التي تواجهها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق والصعود الملحوظ لبعض القوى الآسيوية مثل الصين والهند إلى جانب ما يمكن تسميته بالصحوة الروسية، كلها أمور دعت إلى إعادة النظر في صدقية الفرضية الخاصة بهيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي.
ورغم أن الكثير من المحللين يذهبون إلى أن العالم يشهد إرهاصات التحول إلى التعددية القطبية، فإن ريتشارد هاس -مدير مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية- يطرح أمرًا مختلفاً، في مقال له بعنوان: "عالم بدون أقطاب: ماذا بعد الهيمنة الأمريكية؟ " The Age of Nonpolarity: what will follow U.S Dominance"
فالعالم -طبقاً لهاس- لم يعد محكوماً بواسطة دولة أو أخرى ولكن بواسطة مجموعة من الفاعلين الذين يمتلكون ويمارسون أنواعًا مختلفة من القوة لا تؤشر على ظهور أقطاب حقيقيين بل على غياب الأقطاب.
وانطلاقاً من هذه الفرضية يطرح "هاس" العديد من التساؤلات حول مدى اختلاف شكل النظام الدولي الحالي -الذي يتسم بغياب القطبية- عن الأشكال الأخرى التي شهدها من قبل؟ وكيف يكون هذا العالم الخالي من الأقطاب؟ ما هي نتائج ذلك؟ وما هي استجابة الولايات المتحدة للتحول المتوقع في شكل القطب الواحد؟.
عصر بدون أقطاب وليس تعددية
ينتقد هاس في بداية مقاله فكرة أن العالم يشهد نوعًا من التعددية القطبية، فرغم أن القوى الكبرى –الاتحاد الأوروبي، الهند، اليابان، روسيا، والولايات المتحدة-تحتوي بمفردها على نصف عدد السكان، وحوالي 75% من الناتج القومي الإجمالي العالمي و80% من معدل النفقات العالمية على الدفاع، ولكن المظاهر قد تبدو أحيانا خادعة، فهناك العديد من مراكز القوى، والقليل من هذه الأقطاب دول قومية.
فأحد سمات النظام الدولي الحالي هو أن الدول القومية قد فقدت محوريتها واحتكارها للقوة، فالدولة تواجه تحديات من جميع الاتجاهات، سواء بواسطة المنظمات الإقليمية والدولية من أعلى، أو التنظيمات المسلحة من داخل الدولة أو منظمات المجتمع المدني المتنوعة والمؤسسات، وحسب "هاس" فإن "القوة توجد الآن بحوزة العديد من الأيادي وفي العديد من الأماكن".
وبالإضافة إلى القوى الرئيسية الستة في النظام الدولي، فهناك العديد من القوى الإقليمية والمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والشركات متعددة الجنسية التي تلعب أدوارا مؤثرة على مستوى العالم.
وفى هذا العالم تبقى الولايات المتحدة أكبر "تجميع فردي للقوة"، فهي تنفق أكثر من 500 مليار دولار سنويا على القوة العسكرية –تصبح أكثر من 700مليار دولار إذا أضيفت نفقات العمليات العسكرية في أفغانستان والعراق- إلى جانب امتلاكها قوى برية وجوية وبحرية على درجة عالية من الكفاءة، ومكانتها كمصدر رئيسي للثقافة والمعلومات والابتكار.
ولكن برغم هذا التفوق الأمريكي الواضح فإن ريتشارد هاس يشير إلى أن واقع القوة الأمريكية لا ينبغي أن يُخفي أن مكانة الولايات المتحدة في العالم في تراجع، وبهذا التراجع النسبي في مكانة الولايات المتحدة فإن هناك تراجعًا في الاستقلال والتأثير.
ويسرد الكاتب مجموعة من المؤشرات التي تثبت هذا التراجع أولها: الناتج القومي الإجمالي:
فبرغم أن معدل الناتج القومي الإجمالي الأمريكي يمثل 25% من النسبة العالمية فإنه معرض للانخفاض مع الوقت، مع الأخذ في الاعتبار التباين في معدل نمو الناتج القومي الإجمالي بين الولايات المتحدة والقوى الآسيوية الصاعدة وبعض الدول الأخرى والتي ينمو معدل الناتج القومي الإجمالي لها ضعف الولايات المتحدة مرتين أو ثلاثًا.
ولا يعتبر الناتج القومي الإجمالي المؤشر الوحيد على تراجع الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة؛ فهناك تراكم الثورات لدى العديد من الدول مثل الصين والكويت وروسيا والمملكة العربية السعودية والإمارات.
ويرجع هذا التراكم بشكل أساسي إلى صادرات النفط والغاز؛ حيث جلبت لهذه الدول حوالي 3 تريليون دولار وبمعدل نمو سنوي 1 تريليون دولار سنويا، وهو الأمر الذي يجذب الشركات الأمريكية؛ فأسعار النفط العالمية والتي ترجع إلى تزايد الطلب الصيني والهندي من المتوقع أن تستمر لبعض الوقت بمعنى أن حجم هذه التراكمات المالية سوف يزداد.
ولا يقتصر الأمر على ذلك بل تواجه الهيمنة الأمريكية-طبقًا للكاتب- تحدياً في مجالات أخرى كالفاعلية العسكرية، فالقدرة العسكرية تختلف عن معدل الإنفاق العسكري، وقد أوضحت هجمات سبتمبر 2001 كيف أن مجموعة من "الإرهابيين" بواسطة أدوات قليلة استطاعوا أن يحدثوا أضرارا بالغة في الأرواح والممتلكات بالولايات المتحدة.
كما أن الأسلحة الحديثة المكلفة نفقات باهظة قد تبدو غير مفيدة في الصراعات الحديثة؛ حيث استبدلت أراضي المعارك التقليدية بحروب المدن والتي يستطيع فيها مجموعة من الجنود المسلحين تسليحاً بدائيًّا أو تقليديًّا أن يوقفوا مجموعة قليلة من الجنود الأمريكيين المدربين تدريباً عالياً.
ويتوصل الكاتب إلى أن القوة ستزداد انفصالا عن التأثير، والدعوات الأمريكية للإصلاح ستتعرض لمزيد من التجاهل، والمساعدات الأمريكية ستقل، وفاعلية العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة ستقل؛ فالصين تمتلك التأثير على كوريا الشمالية أكثر من الولايات المتحدة، وقدرة الولايات المتحدة على الضغط على طهران بمساندة الدول الأوروبية قلت بسبب دعم كل من روسيا والصين لإيران.
كما أن السياسة الاقتصادية الأمريكية لعبت دورًا أيضاً في إرساء التحول نحو عالم بلا أقطاب، فالنفقات التي زادت نتيجة الحربين التي شنتهما الولايات المتحدة على العراق وأفغانستان قد ساهمت في تراجع مركز الولايات المتحدة المالي من فائض في الموازنة 100 مليار عام 2001 إلى عجز 250 مليارًا عام 2007م.
هذا التراجع أدى إلى مزيد من الضغط على الدولار وتحفيز التضخم والمساهمة في تراكم الثروة والقوة في أماكن أخرى من العالم.
موقف واشنطن
يرى هاس أن هذا التحول في النظام الدولي سوف يترك آثارا سلبية على الولايات المتحدة نتيجة لتعدد مراكز القوى وسعي كل منها للتأثير الأمر الذي سيؤدي إلى صعوبة الوصول إلى توافق.
فغياب أقطاب محددين سيؤدي إلى تزايد التهديدات التي تتعرض لها دولة مثل الولايات المتحدة من تنظيمات إرهابية أو دول "مارقة" ومن الدول المصدرة للنفط التي قد تخفض صادراتها للولايات المتحدة.
ولكن برغم أن غياب القطبية هو أمر حتمي فإن الولايات المتحدة تبقى حتى الآن أكثر قدرة من أي فاعل آخر على تحسين طبيعة النظام الدولي.
ولكن السؤال هو: هل ستستمر هذه القدرة إلى أمد طويل؟
ففيما يتعلق بالطاقة فإن مستويات استهلاك وواردات الولايات المتحدة الحالية من الطاقة تغذي حالة غياب القطبية وبالتالي فإن تقليل الاستهلاك سيخفف من الضغط على الأسعار العالمية وبالتالي سيقلل من حساسية الولايات المتحدة تجاه تحركات الدول المصدرة للنفط، ويقلل من التأثير على التغير المناخي وسيحدث هذا دون شك أضرارا أخرى بالاقتصاد الأمريكي.
وقضية الانتشار النووي هي الأخرى يمكن التغلب عليها من خلال إنشاء بنوك لتخصيب اليورانيوم دوليا والذي يمكن الدول من الحصول على مواد نووية حساسة، وقد يساعد المجتمع الدولي الدول على استخدام القدرات النووية لتوليد الكهرباء بدلا من القنابل.
ويطرح الكاتب في هذا الصدد إشكالية الضربات الاستباقية حيث إنها كوسيلة لمهاجمة أو إيقاف أخطار وشيكة تعد أمرا مقبولا، ولكن لا ينبغي استخدامها في حالة غياب الأخطار الوشيكة.
كما أن استخدام الضربات الاستباقية يثير التساؤلات حول المساهمة في دعم حالة غياب القطبية فهي قد تؤدي إلى زيادة الانتشار النووي من ناحية كوسيلة للردع وتسهم من ناحية أخرى في إضعاف المبدأ القائل بعدم جواز استخدام القوة العسكرية إلا في حالة الدفاع الشرعي عن النفس.
وتعتبر محاربة الإرهاب قضية مهمة أيضا ويوجد عدة طرق لإضعاف الإرهابيين، ولكن يبقى الشيء الأساسي وهو تقليل عدد المجندين في هذه التنظيمات، فالآباء ورجال الدين والقادة السياسيون عليهم أن يدينوا مثل هذه الأفعال، كما أن الحكومات عليها أن تعمل على احتواء الشباب من خلال توفير الفرص السياسية والاقتصادية.
ومن وجهة نظر الكاتب فإن الولايات المتحدة عليها أن تعظم من جهودها لمنع تحول الدول إلى دول فاشلة والتعامل مع النتائج المترتبة على ذلك من خلال زيادة القوة العسكرية وزيادة قدرتها على التعامل مع التهديدات كالتي في العراق وأفغانستان، وزيادة المساعدات الاقتصادية والعسكرية سيكون عاملا هاما في مساعدة الدول الضعيفة على تلبية مسئولياتها تجاه مواطنيها وكذلك دول الجوار.
وينصح الكاتب الإدارة بتبني التعددية والعمل من خلال المؤسسات الدولية في سياستها الخارجية للحفاظ على هيبتها العالمية.
الخلاصة بحسب هاس:
غياب القطبية يعقد من الدبلوماسية، فغياب القطبية لا يؤدي فقط إلى تعدد الفاعلين بشكل غير منظم بل إلى غياب الهياكل الثابتة والعلاقات والتي كانت تتسم بها الأحادية والتعددية والثنائية القطبية.
كما أن التحالفات في ظل غياب القطبية أيضا ستكون أكثر صعوبة، والعلاقات ستكون انتقائية وموقفية، ويصبح من الصعب تصنيف الدول كأعداء أو أصدقاء وبالتالي تختفي الثنائية الأمريكية "إما معنا أو ضدنا".
ونهاية يمكن القول إن طرح ريتشارد هاس يأتي كنتاج رئيسي للفشل الذي تواجهه الولايات المتحدة في كل من العراق وأفغانستان، وكنتيجة منطقية لصعود بعض القوى الدولية خاصة الآسيوية منها.