[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
أذاعت وكالات الأنباء التركية والعالمية يوم الأحد 27 فبراير 2011م الموافق 24 ربيع أول 1432هـ خبرًا آلمنا كثيرًا عن وفاة الزعيم التركي الإسلامي نجم الدين أربكان في أحد مستشفيات أنقرة بعد صراع مع المرض.
ترجّل الفارس الملقّب بأبو الإسلام السياسي في تركيا وأول رئيس حكومة إسلامي في تاريخها الحديث الذي ظل لسنوات أبرز رجل سياسي إسلامي في العالم.
وكان سر تميّز أربكان في كونه أكثر الساسة الإسلاميين جرأةً، وأكثرهم مباشَرةً في تعاطيه مع إسلاميّته، ولن نستطيع فهم هذا التميّز دون الرجوع إلى بدايات هذا الزعيم الفذ، والتعرف على طبيعة المناخ السياسي المعادي للإسلام الذي كان سائدًا في هذه الفترة الصعبة.
فقد شهدت تركيا منذ سقوط الخلافة الإسلامية على يد أتاتورك في عام 1924م محاولات حثيثة من جانب السلطة الحاكمة لإبعاد الأتراك عن الإسلام وفصلهم عن جذورهم وهويتهم الإسلامية؛ بذريعة اللحاق بركب التقدم الأوربي!!
وقد حاول الأتراك بشتى السبل الدفاع عن هويتهم أمام الهجمة الأتاتوركية العلمانية الشرسة ومقاومة الإجراءات التعسفية الهادفة لتغريب الأتراك وإبعادهم قسرًا عن تعاليم الشريعة الإسلامية، فرغم نجاح نظام أتاتورك في إقصاء الإسلام على المستوى الرسمي في الدوائر الحكومية إلا أنه فشل فشلاً ذريعًا في القضاء على العاطفة الإسلامية الجياشة لدى الشعب التركي.
وقد تلقّفت بعض الأحزاب السياسية هذه العاطفة الإسلامية واستثمرتها على استحياء في بادئ الأمر ثمّ جهارًا نهارًا في حقبة الخمسينيات والستينيات، حتى إن حزب الشعب الجمهوري -حزب أتاتورك- نفسه اضطر للتخفيف من نبرة هجومه على الإسلام، وظهر ذلك جليًّا في انتخابات 1965م، بل وبدأ يتحلل من ارتباطه بالعلمانية المتشددة.
لكن الجديد الذي حدث في نهاية الستينيات هو ظهور شخصية سياسية تنادي صراحة بعودة الإسلام كدين قادر على قيادة الحياة في تركيا، وكانت هذه الشخصية هي القائد الإسلامي الجليل نجم الدين أربكان.
ولد نجم الدين أربكان في 29 أكتوبر لعام 1926م في مدينة "سينوب" على ساحل البحر الأسود، وأنهى دراسته الثانوية سنة 1943م ثم تخرج في كلية الهندسة الميكانيكية بإسطنبول سنة 1948م، وكان الأول على دفعته فاشتغل معيدًا في نفس الكلية ثم أرسلته جامعته في بعثة علمية إلى جامعة "آخن" الألمانية وقد ابتكر عدة ابتكارات وهو يدرس في ألمانيا لتطوير محركات الدبابات.
عاد أربكان إلى تركيا وعمِل أستاذًا بجامعة إسطنبول، كما كان عضوًا بارزًا في حزب العدالة برئاسة سليمان ديميريل، وكذلك لمع اسمه كواحد من رجال الصناعة في تركيا بعدما تولى عددًا من المناصب التجارية والاقتصادية خلال عقد الستينيات من القرن الماضي، ولم يُخْفِ الرجل حينها ميوله الإسلامية -كالعادة المتبعة في هذه الفترة- التي أثارت حوله جدلاً واسعًا من قبل العلمانيين الأتراك الذين بدءوا حينها حربًا إعلامية ضده، مما جعل ديميريل يرفض إدراج اسمه على قوائم الحزب الانتخابية في انتخابات 1969م تأكيدًا على الطابع العلماني لحزب العدالة، بعدما شعر بتنامي قوة المجموعة ذات التوجه الإسلامي داخل حزبه.
أربكان يؤسس حزبه الأول :
فكان هذا الموقف من سليمان ديميريل هو بداية التحول في حياة أربكان؛ حيث رشح نفسه كنائب مستقل عن مدينة قونية، التي كانت على امتداد تاريخ تركيا الإسلامي، معقلاً إسلاميًّا، وبالفعل استطاع أربكان تحقيق نصر كبير بفوزه بأغلبية أصوات أبناء المدينة.
ولم يكتف أربكان بهذا بل بمجرد دخوله البرلمان استطاع لم شمل النواب الإسلاميين في البرلمان ليقوموا تحت زعامته في عام 1970م بإنشاء حزب جديد باسم "النظام الوطني" يعبّر ولأول مرة منذ إسقاط الخلافة عن ارتباطه الصريح بالإسلام؛ حيث ورد صراحة في بيانه التأسيسي: "أما اليوم فإن أمتنا العظيمة التي هي امتداد لأولئك الفاتحين الذين قهروا الجيوش الصليبية قبل ألف سنة، والذين فتحوا إسطنبول قبل 500 سنة، أولئك الذين قرعوا أبواب فيينا قبل 400 سنة.. وخاضوا حرب الاستقلال قبل خمسين سنة.. هذه الأمة العريقة تحاول اليوم أن تنهض من كبوتها تجدد عهدها وقوتها مع حزبها الأصيل (النظام الوطني) الذي سيعيد لأمتنا مجدها التليد، الأمة التي تملك رصيدًا هائلاً من الأخلاق والفضائل يضاف إلى رصيدها التاريخي، وإلى رصيدها الذي يمثل الحاضر المتمثل في الشباب الواعي المؤمن بقضيته وقضية وطنه".
وقد لاقى الحزب قبولاً كبيرًا من الشعب التركي، خاصة من التجار الصغار والحرفيين والرجال المتدينين في الأناضول، فتوسع الحزب في مدة قصيرة جدًّا وبدأ يشكل تهديدًا خطيرًا للأحزاب العلمانية.
بالطبع لم يحتمل العسكر طويلاً مثل هذه المستجدات على الساحة التركية فجاءت ضربة الجيش التركي عن طريق القيام بثاني انقلاب عسكري بعد أتاتورك في 12 مارس 1970م، وتم إغلاق حزب النظام الوطني بقرار من المحكمة الدستورية بتهمة دعايته للشريعة الإسلامية بما يخالف الدستور العلماني للدولة التركية!
حزب السلامة الوطني :
لم ييأس أربكان وعاد -بعد 17 شهرًا من إغلاق حزب النظام- ليؤسس حزبًا جديدًا باسم "السلامة الوطني" في 11 أكتوبر 1972م، ولكن بزعامة شخص آخر هو رفيقه في حزب النظام الوطني سليمان عارف أمره، إذ كان من الصعب تولية نجم الدين أربكان، خاصة وأن الحزب كان مُقدم على انتخابات عام 1973م، التي نجح الحزب في خوضها تحت زعامة سليمان عارف، ويحصل على 48 مقعدًا بالبرلمان التركي، ثم ليعلن عارف إخلاء موقعه لزعيم حزب السلامة الحقيقي نجم الدين أربكان.
حانت الفرصة عندما احتدم الخلاف بين الحزبين الرئيسين في البرلمان (حزب العدالة والشعب الجمهوري) فاضّطُرا للائتلاف مع حزب السلامة الوطني بزعامة أربكان، الذي استثمر هذه الفرصة ببراعة واستطاع الحصول على سبع وزارات مهمة -منها الداخلية والعدل والتجارة والصناعة- في الحكومة الائتلافية في عام 1974م، بل وتقلد أربكان منصب نائب رئيس الوزراء.
ليستطيع بذلك أربكان أن يصنع أول اختراق إسلامي حقيقي للسلطة التنفيذية في الجمهورية العلمانية منذ تأسيسها على يد أتاتورك.
ولم يمهل أربكان الحكومة طويلاً إذ ما لبث أن صوتت تركيا في الأمم المتحدة لأول مرة منذ إعلان الجمهورية لصالح الحق الفلسطيني في استرداد أرضه المغتصبة من قِبل الصهاينة، بل وزادت الحكومة بضغوط من جناح أربكان بالتصويت إلى جانب القرار الدولي الذي يعتبر الصهيونية حركة عنصرية، فضلاً عن اعتراف تركيا بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني.
استطاع أربكان كذلك أن يحقق العديد من النجاحات، مثل قيادة حملة للتنمية الصناعية، مركّزًا على الصناعات الثقيلة، إذ نجح في إقامة 70 مصنعًا خلال سنتين، وذلك فضلاً عن افتتاح 30 مدرسة دينية، كما بلغ في عهد هذا الائتلاف عدد طلاب مدارس الأئمة والخطباء ما يزيد عن خمسين ألف طالب.
كما شهدت هذه الفترة بداية ظهور الشاب رجب طيب أردوجان الذي تخرّج من مدارس الأئمة والخطباء، وتولى منصب رئيس فرع الحزب في مدينة إسطنبول، ولاقى نشاطه إعجاب الزعيم نجم الدين أربكان، ثم ليتحول بعد ذلك الإعجاب إلى احتضان ورعاية للشاب الموهوب أردوجان، الذي تنبأ له أربكان بمستقبل باهر.
وعندما شعر حزب السلامة بقوته، وبأنه صار جزءًا من الحياة السياسية في تركيا، شرع مُنَظِّرو الحزب بشن حملة إعلامية منظمة على أسس العلمانية في تركيا وبينوا للناس إن الإطار السياسي لتركيا الجديدة يناقض المبادئ الأساسية للإسلام، حيث يقضي الإسلام بتوحيد السلطات السياسية والدينية تحت سيطرة الدين، وفي هذا المعنى، فإن العلمانية، والنظام العلماني ضد الإسلام، والشريعة والدين وخاصة تطبيقها في تركيا، وإن الخونة والكذابين هم وحدهم الذين يقولون بأن الدين والسياسة شيئان منفصلان، لأن المسلمين لا يفصلون شئون الدنيا عن شئون الآخرة.
وإن خالق القوانين الإسلامية هو نفسه خالق الإنسان، لقد خلق الله الإنسان وفق هذه القوانين.. وإن الإسلام نظام يصلح لكل زمان، فهو يمثل كلاًّ من الدين والدولة، وإن القرآن لم ينزل ليقرأ في القبور أو يغلق عليه في أماكن العبادة، وإنما أنزل القرآن ليحكم.
إلى جانب مطالبة الحزب بقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وضرورة وقف التعامل بالربا، ووقف محاولات الانضمام إلى السوق الأوربية المشتركة، وتركيزه على الدعوة لإنشاء سوق إسلامية مشتركة.
وبقدوم عام 1980م كانت السماء السياسية في تركيا ملبدة بالغيوم وتنذر بالكثير من الصواعق الخطرة، فلقد نفذ صبر جنرالات الجيش التركي –حارس العلمانية- فأخذوا يتحينون الفرصة للانقضاض على حزب السلامة وزعيمه أربكان.
وكانت الشرارة عندما أقام حزب السلامة مهرجانًا جماهيريًّا في مدينة قونية بعنوان "تحرير القدس"، وحضره مائة ألف تركي، وعلته الشعارات الإسلامية، والهتافات المنادية بتأسيس دولة إسلامية، فسارع الجيش التركي بالانقلاب والاستيلاء على السلطة في 12 سبتمبر 1980م، واتخذ الانقلابيون قرارًا بحظر حزب السلامة الوطني ووجهت لزعيمه أربكان وزملائه المجاهدين تهم تدور حول حرص حزب السلامة على إعادة دولة الإسلام لتركيا والتخلص من الأفكار العلمانية والمبادئ الكمالية.
حزب الرفاه.. المحاولة الثالثة لأربكان :
بعد مرور ثلاث سنوات على الانقلاب العسكري رفعت معظم القيود عن النشاط السياسي، وسُمح للأحزاب السياسية بالتشكيل من جديد، وكان من بين الأحزاب التي شكِّلت في هذه الفترة "حزب الرفاه الإسلامي"، الذي تقدم المحامي علي توركان بطلب لوزارة الداخلية التركية في 9 أغسطس 1983م لتأسيسه، بتنسيق مع زعماء حزب السلامة، ومراعيًا أن يكون برنامجه الإسلامي أكثر غموضًا من برنامجي النظام والسلامة، وتم قبول الحزب، وما أن رُفع الحظر عن السياسيين التابعين لحزب السلامة بزعامة أربكان إلا وسارعوا بالانضمام لحزب الرفاه في سبتمبر 1987م، ليتم اختيار نجم الدين أربكان رئيسًا للحزب في 11 أكتوبر من نفس العام.
واستطاع حزب الرفاه بزعامة أربكان تحقيق فوز كبير في الانتخابات البرلمانية لعام 1991م ليعود إلى البرلمان التركي بـ 62 نائبًا، وتتوالى نجاحاته باستحواذه على نسبة 18% من إجمالي الأصوات في الانتخابات المحلية التي أجريت في مارس 1994م، ويفوز برئاسة البلديات العامة في 6 مدن كبرى على رأسها إسطنبول التي تولّى رئاستها تلميذ أربكان النجيب رجب طيب أردوجان.
ثم يكلل أربكان نجاحاته السابقة بانتصاره الأكبر الذي حققه في الانتخابات النيابية عام 1995م بنسبة 21% من إجمالي أصوات الشعب التركي، ليبلغ حزب الرفاه ذروة صعوده السياسي؛ فلأول مرة يستطيع حزب إسلامي تحقيق المركز الأول من بين أحزاب البرلمان، ليفرض حزب الرفاه نفسه حجرًا للزاوية في أي تشكيلة حكومية جديدة يراد لها الاستقرار والاستمرار، ويفتح أخيرًا المجال أمام وصول أول إسلامي إلى رئاسة الحكومة في تركيا، وذلك عن طريق الائتلاف الذي ترأسه زعيم الرفاه نجم الدين أربكان، بمشاركة حزب الطريق المستقيم في يونيو 1996م.
وقام أربكان بطرح رؤيته الاقتصادية التي لا تعالج الوضع المتدهور في تركيا فقط, بل تعتبر علاجًا لأزمات العالم أجمع، وذلك من خلال بلورته للـ"نظام الاقتصادي العادل" الذي يعالج فيه أمراض تركيا الاقتصادية والتي عدّها في خمسة أمراض هي:
1- الربا.
2- الضرائب المجحفة.
3- صك النقود بلا رصيد.
4- النظام المصرفي الجائر.
5- نظام القروض.
كما دعا أربكان من خلال رؤيته لاعتماد السوق الإسلامية المشتركة بديلاً عن السوق الأوربية المشركة.
إلى جانب ما أنجزه أربكان على الصعيد الديني حيث أقام جامع ضخم في منطقة "تقسيم" –أحد الأحياء الراقية في إسطنبول- وآخر في محيط القصر الجمهوري في أنقرة، وسماحه للموظفات بارتداء الحجاب في الدوائر الرسمية، والسماح للحجاج بالتوجه لأداء مناسك الحج كل سنة برًّا عبر الأراضي السورية توفيرًا للنفقات بدلاً من إلزامية التوجه جوًّا.
شعر الجيش التركي بالخطر على النظام الأتاتوركي العظيم فقام بتصعيد ضغوطه على حكومة أربكان من خلال مطالبتها بتنفيذ العديد من الإجراءات –بلغت 18 مطلبًا- بذريعة حماية علمانية الدولة التركية، مما وضع أربكان في وضع بالغ الحرج؛ فهو لا يستطيع قبول هذه المطالب التي تهدم ما بناه في سنوات وسنوات، مثل مطالبتهم بمنع أي دعوات مؤيدة لتطبيق الشريعة الإسلامية، وحظر ارتداء الحجاب للنساء، إضافة إلى تجريم أي نشاط سياسي له دوافع دينية، وإغلاق مدارس تعليم القرآن التابعة للإسلاميين، ووقف بناء المسجد الجديد في حي "تقسيم" بإسطنبول، فضلاً عن فصل 160 من ضباط الجيش لارتباطهم بالتيار الإسلامي، وفصل بعض حكام الولايات لانتماءاتهم الإسلامية.
ولم يكن في استطاعة أربكان تجاهل "إملاءات" الجيش التركي مما دفعه للاستقالة ليتم ما أراده الجيش في عام 1997م فيما سمّي "بالانقلاب الأبيض"، الذي اكتملت معالمه بحظر حزب الرفاه، وتقديم أربكان إلى المحاكمة العسكرية بتهمٍ كثيرة أهمها انتهاك علمانية الدولة، ليصدر قرارها بمنع أربكان من مزاولة النشاط السياسي لمدة خمس سنوات كاملة.
حزب الفضيلة.. المحاولة الرابعة لأربكان :
لم يكن قرار المحكمة الدستورية بحل حزب الرفاه مفاجئًا للإسلاميين، بل كانوا يتوقعونه في أية لحظة، وكان أربكان يخطط لمواجهة هذا الموقف عند حدوثه، فوضع مشروعًا لتأسيس حزب يخلف الرفاه في حالة حله، وبعدما مُنع أربكان من العمل السياسي أعلن إخوانه وتلامذته الذين لم يصدر بحقهم أحكام تأسيس حزب "الفضيلة"، الذي انتخب لرئاسته رجائي قوطان في ديسمبر 1998م.
خاض حزب الفضيلة الانتخابات البرلمانية التي أجريت في أبريل 1999م ليفوز بـ 115 مقعد، وتم التجديد لقوطان في انتخابات الحزب عام 2000م، بعدما نال أغلبية الأصوات بمجموع 632 صوتًا في مقابل 521 صوتًا نالها منافسه "الشاب" عبد الله جول، وكانت هذه المنافسة غير المألوفة أولى بوادر الظهور الإعلامي لجيل جديد من أبناء الحركة الإسلامية يحمل نفس القناعات ولكنه بدأ يفكر في تطوير أساليب العمل السياسي بما يتوافق مع الوضع التركي المعقد، ومحاولاً الاستفادة من الخبرات التي تكونت لدى أبناء الحركة الإسلامية التركية على مر السنين، وكان عبد الله جول ورجب طيب أردوجان من أبرز رموز هذا الجيل الشاب.
على أية حال فقد واجه حزب الفضيلة ما واجهته الأحزاب الإسلامية التي سبقته، عبر حملات شنتها الصحف ووسائل الإعلام العلمانية، في نفس الوقت حرص أركان النظام التركي على تشديد الحصار حول نجم الدين أربكان، ولم يكتفوا بالحكم الصادر بمنعه من العمل السياسي، فتم استصدار حكم في 5 يوليو 2000م من محكمة التمييز يقضي بسجن أربكان لمدة عام، بتهمة التحريض على "الكراهية الدينية والعرقية"، وحرمانه من العمل السياسي مدى الحياة!!
ثم قررت المحكمة الدستورية التركية في يونيو 2001م حل حزب الفضيلة الإسلامي، والذي كان يعتبر القوة السياسية الثالثة في البلاد، حيث وجه له الادعاء التركي تهمة تهديد النظام العلماني في البلاد، وبأنه استمرار لحزب الرفاه الإسلامي.
جاء حل حزب الفضيلة ليؤكد اقتناع جيل الشباب الذين يطلق عليهم في تركيا "المجددون المعاصرون" بحاجة الحركة الإسلامية أن تعيد ترتيب أوراقها بما يناسب الحالة التركية، ومن هنا كان تأسيس هذا الجيل الجديد لحزب جديد واختاروا له اسمًا موحيًّا وهو "العدالة والتنمية"، بينما سار "شيوخ" الحركة في اتجاه تأسيس حزب جديد باسم "السعادة" على نفس النهج الأربكاني في الأحزاب الأربعة التي سبقته.
وفي الانتخابات البرلمانية التركية التي جرت في نوفمبر 2002م استطاع حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوجان رئيس بلدية إسطنبول السابق تحقيق نصر ساحق باحتلاله لـ363 مقعدًا من البرلمان التركي، فيما أخفق حزب "السعادة" بزعامة رجائي قوطان في الدخول إلى البرلمان حيث لم يتمكن من الحصول على نسبة 10% من أصوات الناخبين!!
ترأس أربكان حزب السعادة في عام 2003م، وفي مايو 2007م بدأ الزعيم الإسلامي تطبيق عقوبة الحبس المنزلي -عقوبة تطبق في تركيا على كبار السن والشيوخ المحكوم عليهم بالحبس لمدة تقل عن 3 سنوات- لمدة سنتين وأربعة أشهر الصادرة ضده من المحكمة العليا بأنقرة في ادعاء وتهمة تبديد مبلغ يساوي مليون دولار من المخصصات الرسمية التي تمنحها الدولة للأحزاب البرلمانية، وذلك وقت أن كان رئيسًا لحزب الرفاه، وكان الحكم الصادر ضد الزعيم الإسلامي أجل تنفيذه 4 مرات؛ بسبب حالة أربكان الصحية.
وفي أغسطس 2008م صدَّق تلميذ أربكان الرئيس التركي عبد الله جول على عفو رئاسي يرفع عقوبة الحبس الصادرة ضد أربكان، ليعود الزعيم مجددًا إلى ساحة العمل السياسي ويتم انتخابه في أكتوبر 2010م رئيسًا لحزب السعادة، المنصب الذي ظل يشغله حتى وافته المنية.
وقد شيع مئات الآلاف من الأتراك الزعيم نجم الدين أربكان مؤسس التيار الإسلامي السياسي التركي في مدينة إسطنبول، وتقدم المشيعين الرئيس التركي عبد الله جول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوجان وكبار ضباط الجيش وممثلون لأكثر من ستين دولة.
وأقيمت صلاة الجنازة يوم الثلاثاء 1 مارس 2011م بمسجد الفاتح الذي شيد في القرن الخامس عشر الميلادي، بينما هتف المشيعون "الله أكبر".. لتنتهي بذلك حياة رجل عظيم ستظل إسهاماته الجليلة في الحقل الإسلامي باقية ويُنتفع بها لعقود طويلة من الزمان.. رحمه الله رحمة واسعة.
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]