[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
يدرك الباحثون في سيرة رسول الله -سواء كانوا من المسلمين أم من غيرهم- أن هناك الكثير من السمات والخصائص التي تميز بها سلوك الرسول الكريم لا عن غيره من الناس العاديين فحسب, بل عن سلوك كل عظماء التاريخ الإنساني على اختلاف مشاربهم وتعدد أجناسهم وتميز مواهبهم..
من ثَمَّ لم يجد بعضهم مفرًّا من أن يضع الرسول على رأس كل العظماء الذين سيخلدهم التاريخ الإنساني, ولقد اختار كاتب السطور أن يتوقف في هذا المقال مع سمة واحدة من السمات الطيبة والشمائل النفيسة التي تميز بها سلوك الرسول الكريم, ذلك لأن المجال يضيق عن ذكر كل ما تميز به الرسول من سلوكيات وشمائل عظيمة... من هنا فسيدور الحديث حول رؤيته للتآخي الإنساني بين الناس أجمعين.
واللافت للنظر في هذا السياق أن مفهوم التآخي يتسع في الإسلام ليشمل المسلمين وغيرهم, فالباحث في سلوك الرسول يكتشف أنه لم يكن يخص المسلمين من دون غيرهم بالتآخي, بل كان ينظر إلى الإنسان أينما كان وحيثما كان من منظور الإخوة الإنسانية, وتلك هي الرؤية التي أمره الله تعالى أن يتعامل بها مع الناس أجمعين.
من ثَم فقد كان يتعامل مع الآخرين من منطلق أنهم إخوة في الإنسانية ولهم كل حقوق التآخي البشري... وهناك الكثير من الأدلة التي تثبت أنه لم يَقصر التآخي على العلاقة بين المسلمين بعضهم ببعض فحسب, بل لقد أعطى المثل والقدوة في ضرورة, بل حتمية التعامل مع الناس من منطلق التآخي الإنساني.. وهناك بعض الأدلة التي تؤكد هذا المعنى:
1- وقف لجنازة مرت عليه, فقال له بعضهم: إنها جنازة يهودي يا رسول الله. فقال عليه الصلاة والسلام: "أليست نفسًا؟".
2- أعطى عهدًا لليهود كي يعيشوا مع المسلمين في المدينة سواء بسواء ما لم يغدروا أو يخونوا.
3- كان يبغض الدخول إلى الحروب والمعارك, وكان يستنفد كل حيل وأساليب التفاهم والتحاور كي يتجنب الدخول إلى المعارك والحروب التي يقتل فيها الإنسان أخاه الإنسان.. والدليل على ذلك موقفه يوم الحديبية, حيث وافق على شروط قريش المجحفة -برغم أن أغلب الصحابة الكرام قد اعترضوا على هذا الاتفاق- بهدف أن يجنِّب المسلمين والقرشيين النزول إلى ساحات القتال.
هكذا يتأكد لدينا إيمانه بأن الناس جميعًا إخوة خلقوا من نفس واحدة, ويتأكد لدينا هذا المعنى -أيضًا- من خلال قوله : "أيها الناس، إن ربكم واحد, وإن أباكم واحد, وكلكم لآدم وآدم من تراب".
صحيح أن القرآن الكريم قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10], غير أن ذلك يجب أن لا يفهم منه أن القرآن ينفي الإخوة والتآخي بين المسلمين وغيرهم, ويدل على صدق ما نقوله, قول الله تعالى في مطلع سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
فالقرآن الكريم ينبه المؤمنين -بل ينبه الناس جميعًا- إلى ضرورة الإيمان بالتآخي الإنساني, حيث يوضح لهم أنهم خلقوا جميعًا من نفس واحدة, وبالتالي فأصلهم واحد.. والحق أنه قد ترتب على الإيمان بهذه الرؤية الإسلامية أمور عدة نذكر منها:
1- النظر إلى الإنسان -أي إنسان- نظرة تكريم: إذ كرم الإسلام الإنسان وفضله على كثير من المخلوقات والموجودات, وذلك بنص القرآن الكريم, حيث قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70]. من هنا فقد رأينا ابن كثير (توفي سنة 774هـ) يقول في تفسيره لهذه الآية: يخبر الله تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات.
2- أصبح من الطبيعي -من وجهة النظر الإسلامية- النظر إلى الإنسان باعتباره المخلوق المميز الذي جعله الله خليفة على الأرض, ووهبه قوة وقدرات خاصة.
3- أفضى الإيمان بالتآخي الإنساني إلى القول بتحريم قتل النفس الإنسانية ما لم ترتكب إثمًا يقتضي القصاص: ولقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى بقول الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وإذا كان الرسول قد اعتمد التآخي منهجًا وأسلوبًا في تعامله مع غير المسلمين، فإن الصحابة رضوان الله عليهم قد التزموا منهجه وساروا على دربه من بعده.. فالخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كتب عهدًا للنصارى في بيت المقدس, أقر لهم فيه بحقهم في تأدية صلواتهم ودق نواقيسهم وعدم هدم كنائسهم, مقتديًا في ذلك بالرسول وبسنته الحسنة, عندما أعطى لليهود في المدينة ولنصارى نجران عهدًا مشابهًا. ولقد تعامل كل من عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- مع غير المسلمين الذين عاشوا في رحاب الدولة الإسلامية معاملة أصلها التآخي الإنساني والتراحم الديني, حيث أنفقوا على كبار السن منهم من بيت مال المسلمين, وقلدوا بعضهم الوظائف الرفيعة في الدولة الإسلامية الناشئة.
ولقد نسج كل من جاء بعدهم من الخلفاء والأمراء المسلمين على نفس المنوال, بل ما زالت هذه الأمور سائرة ومتحققة في المجتمعات الإسلامية إلى الآن... إذ يحصل غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية المعاصرة على كل الامتيازات, فيتقلدون المناصب, ويتلقون كامل الرعاية والاهتمام شأنهم شأن المسلمين سواء بسواء من دون تفرقة على أساس ديني أو عرقي.
وإذا كانت الدول الإسلامية تفعل ذلك وتمارسه فمن المؤكد أن مرجعيتهم الدينية -المتمثلة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم- هي التي أرست هذا المبدأ في فكرهم وكرسته في نفوسهم, عندما أكدت أن الناس جميعًا خلقوا من نفس واحدة, وعندما بيّن الرسول الكريم أن أصل الناس جميعًا يرجع إلى آدم وآدم من تراب, لتتأكد بذلك حقيقة أن المرجعية الإسلامية قد سبقت إعلان حقوق الإنسان الذي لم تعرفه أوربا إلا في العصر الحديث.
واللافت للنظر أن النبي لم يكتف بالتعامل مع الآخرين باعتبارهم إخوة الإنسانية, بل تجاوز ذلك إلى رفض كل أشكال العصبية الجاهلية المقيتة التي كانت تفرق بين الإنسان وأخيه الإنسان على أساس من التعصب القبلي والعشائري, حيث كانت المجتمعات تتجه جميعها وقت بعثة الرسول باتجاه التعصب للأنا والإعلاء من شأن الذات على حساب الآخرين, فكانت كل قبيلة تتغنى بأمجادها وأصولها العرقية, وتدعي أنها أشرف نسبًا من بقية القبائل والعشائر... فكلٌّ يرى نفسه الأفضل, ليس في الحسب والنسب فقط, بل في القدرة على محاربة الآخرين والقضاء عليهم وأسرهم وأخذهم كعبيد أذلاء.
وفي ظل هذه الثقافة التي كانت سائدة وقتذاك بعث الرسول فصحح المفاهيم وأكد التآخي الإنساني بين البشر جميعًا, مهما اختلفت أفكارهم وتباينت عقائدهم.. الأمر الذي يؤكد حقيقتين أساسيتين هما:
أولاً: أنه لم يكن رجلاً يطلب زعامة, كما يفتري عليه بعض المستشرقين: لأن الزعيم الذي يطلب الزعامة ويشتهيها يسعى دائمًا إلى ترضية من يرغب في تزعمهم, ولا يمكن أن تحدث الترضية -خاصة لهذا النوع من المجتمعات القبائلية والعشائرية- في الغالب إلا بمحافظة من يطلب الزعامة على التركيبة الاجتماعية للبيئة التي يريد أن يتقدم صفوفها, وأن يتلاءم مع واقع وأفكار من يريد التزعم عليهم, خاصة عِلية القوم..
فلو كان الرسول مجرد رجل يطلب الزعامة ما نادى بالتآخي الإنساني بين البشر جميعًا؛ لأنه كان يعلم أن في ذلك إغضابًا لقادة وزعماء القبائل الموجودة في مكة وخارجها, بل كان الأسهل له -لو كان هدفه كسب ودِّهم ورضاهم- أن يقول للعرب بأنهم أفضل الأمم وأرقاها وأعظمها, أو أن يقسم الناس إلى طبقات بعضها أرقى من بعض؛ كي ما يحافظ لأصحاب الحظوة على حظوتهم فيكسب ودهم وينال رضاهم..
ولقد كان من السهل قبول هذا التقسيم من الناحية الاجتماعية؛ لأن هذا الأمر كان من الأمور العادية المتعارف عليها وقتذاك... وكان الفكر الفلسفي اليوناني القديم يقول بالتقسيم الطبقي للمجتمعات, فعند أفلاطون أن المجتمع فيه طبقة السادة وطبقة العبيد.. لكنه أكد أن: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"؛ وذلك انطلاقًا من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
ثانيًا: أكد قوله بالتآخي الإنساني أنه لم يكن مجرد ناقد اجتماعي تناول الأوضاع الفاسدة في مجتمعه بالنقد والتحليل كما يزعم بعض المستشرقين؛ إذ يتوقف دور ومجهود الناقد الاجتماعي عند حدود وضع يد وذهن مجتمعه على مواطن الخلل في الأفكار والتصورات السائدة لديهم, وليس من مهمته الوقوف في وجه هذه القيم المرفوضة ومعارضتها من أجل تغييرها والقضاء عليها, وليس من جوهر مهمته الدعوة إلى دين جديد, بل يحصر هدفه في الإشارة إلى بعض العيوب المجتمعية الظاهرة له كباحث وناقد؛ لأن حمل رسالة دينية عظيمة كرسالة الإسلام هو مهمة شاقة لا يتحملها إلا أولو العزم من الأنبياء والرسل.. أولئك الذين بعثهم الله تعالى لهداية البشرية والأخذ بيدها باتجاه عبادة الله، وإصلاح حال المجتمعات الإنسانية، وتأكيد قيم العدل والمساواة.
ولقد وصلت جهود الرسل إلى غايتها وأدركت مراميها ببعثة محمد الذي لم يختص قومه بأية خصوصية، ولم يرفع من شأنهم فوق شأن الناس, ذلك لأن صاحب الخصوصية والمرفوع الشأن بين الناس -في الإسلام- ليس هو العربي ولا الأعجمي, بل هو من يفعل الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110], ينظر إلى الناس أجمعين باعتبارهم إخوة سواء كانوا في مشارق الأرض أم في مغاربها, ويؤكد أنه بُعث للناس أجمعين, وكان أهلاً لأن يقول فيه ربه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي.