[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
ربما يظن بعض ضعاف النظر والذين لا يرون إلا تحت أقدامهم, أن النظام القمعي السوري يعبر عن قوته ويخيف شعبه ويستعرض عضلاته أمام العالم, وأنه سوف يستطيع بآلته العسكريَّة أن يعيد الأمور إلى مربع ما قبل الثورة وأن يخمد هذه الانتفاضة الشعبية الكبرى, وهذه رؤية ضيقة وخاطئة وفاشلة بكل تأكيد.
فالتاريخ والسياسة والخبرة وكل شيء يؤكد أن عقارب الساعة لا ترجع إلى الوراء أبدًا, ويؤكد أيضًا أن النظم القمعيَّة لا تواجه شعبها بآلتها العسكريَّة الكاملة (الدبابات والطائرات والبارجات البحرية والمدفعية الثقيلة والشبيحة) إلا بعد أن تيْئَس تمامًا فتقرر أن تخوض معركتها الأخيرة.
والتاريخ أيضًا يؤكد أن الحكام الطغاة الذين خاضوا هذه المعركة الأخيرة ضد شعوبهم, والذين أعملوا في شعوبهم آلة القتل, لم تنفعْهم أسلحتهم ولا معاركهم الأخيرة, وإنما كانت النهاية المحتومة هي سقوط أنظمتهم القمعية, لكنها سُنَّة من سنن الله في الكون, أن الطغاة لا يستفيدون من دروس التاريخ ولا يعتبرون بعِبَرِه.
كان النظام السوري يستتر بأوراق كثيرة ويخيّل على السوريين والعرب بخيالات وأكاذيب كثيرة, تخفي تركيبته الاستبدادية الديكتاتورية الإجرامية, لكن ثورة الشعب السوري العظيمة كشفت هذا النظام وعرته وفضحته أمام العالم, كشفته حينما واجه المتظاهرين السلميين الذين لا يملكون إلا حناجرهم وهتافاتهم التي تطالب بالحرية والعدالة.. بالآلة العسكرية الباطشة وبالقناصة والشبيحة.
فضحت الثورة السورية نظام بشار الأسد؛ لأنه نظام قمعي استبدادي عسكري يقوم على حزب واحد فاسد يستأثر بكل شيء ويمنع السوريين من كل شيء, فحينما اشتعلت المظاهرات لم يستطع أن يجري حوارًا وطنيًّا حقيقيًّا يتعرف من خلاله على مطالب الشعب السوري ويحاول تحقيقها, وإنما أجرى حوارًا زائفًا لم يؤد إلى شيء.
كانت المظاهرات الليليَّة تكتسب زخمًا كبيرًا يومًا بعد يوم, فلم تعد تخرج يوم الجمعة فقط, بل أصبحت تخرج أغلب أيام الأسبوع, أدرك النظام البائس أن دخول شهر رمضان سيحمل معه مظاهرات أضخم كل ليلة عقب صلاة التراويح, فاستعدَّ لذلك وأغلق المساجد وأطلق قوات أمنه تعتقل الناس, لكن الخوف وقلة الضمير وانعدام الوطنية كانت أكبر بكثير مما توقع الناس, فإذا بالنظام البعثي الهمجي يقوم بقصف المدن بعد الإفطار مباشرة لمنع التظاهرات التي تخرج بعد صلاة التراويح, ثم يتطور الأمر للاحتلال الكامل للمدن والقرى وإعمال آلة القتل والهدم والتخريب والاعتقال, وأصبح مشهد عشرات الدبابات والسيارات المصفحة التي تستعد لدخول المدن مرعبًا, وكان أبشع بكثير من الحملات الصهيونية التي تستهدف القرى والمدن الفلسطينيَّة.
ولا بد هنا من الإشارة إلى موقف الجيش السوري, الذي لم يفعلْ كما فعل الجيش المصري إذ وقف بجانب الشعب, نظرًا لارتباطه الوثيق بالنظام الحاكم, رغم وجود بعض الانشقاقات الصغيرة في الجيش, وهو ما يؤكد أهمية وضرورة أن يزال هذا النظام وأن يقام مقامه نظام ديمقراطي يعبر عن السوريين جميعًا ويبني جيشًا وطنيًّا لا يدين بالولاء إلا للوطن والدستور ومصالح البلاد العليا.
الثورة السورية فضحت نظام بشار القمعي الإرهابي حينما شاهد العالم أجمع وقرأ ما فعلته قوات هذا النظام في مدينة اللاذقية, وكأن العالم يشاهد قوات الإرهابي الصهيوني شارون وهو يحاصر مخيم "جنين", فالقصف يأتي من البر والبحر والجو, والكهرباء والاتصالات والمياه مقطوعة, الشبيحة في الشوارع يطلقون النار ويسرقون المحلات, والعشرات من القتلى والجرحى في مخيمات اللاجئين في المدنية وفي حي الرمل, والنيران تطلق على النساء والأطفال وهم يحاولون الفرار من أحياء سكنتوري والرمل, وحركة النزوح الكثيفة شاهدة على أن ما يحدث جريمة لا تحدث في التاريخ إلا قليلاً.
سفن البحرية تنضم للهجوم على اللاذقية وتطلق مدافعها في اتجاه الأحياء السكنية, والسوريون يوثقون ذلك وينشرونه على الإنترنت ليراه العالم أجمع, لكن النظام البعثي الإرهابي ومعه التلفزيون الحكومي ينفى حدوث أي قصف للاذقية, ويتبجح ويكذب ويقول إن قوات الأمن تتصدى لجماعات مسلحة أقامت متاريس داخل المدينة وشرعت تطلق النار من فوق أسح المنازل, وهو الكذب الذي يثير الضحك والغثيان.
المشهد الذي نتوقف عنده هنا هو إعلان وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" أن أكثر من خمسة آلاف لاجئ فلسطيني فرّوا من مخيم الرمل في مدينة اللاذقية, وهو ما يفضح هذا النظام الذي كثيرًا ما خدع الناس بموقفه من قضية فلسطين, فاقتحام القوات السورية وقصفها لمخيم الرمل الفلسطيني في اللاذقية وتهجير سكانه ليس جريمة ضد الفلسطينيين فقط, بل هو جريمة ضدّ الإنسانيَّة.
ويزداد الموقف وضوحًا وفضحًا لنظام بشار حينما تؤكد التقارير نزوح ما يزيد على مائة عائلة سورية يوميًّا من القصير وهيت والبويت والسماقيات وغيرها من البلدات السورية, إلى بلدات أكروم والنصوب وحلواص والمونسة وحنيدر والكنيسة ووادي خالد اللبنانية, غروب كل يوم بسبب الحصار الذي يفرض بشكل شبه يومي من الساعة الثامنة مساء إلى ما بعد صلاة الفجر, مع ما يتخلل ذلك من مداهمات وتفتيش للمنازل واعتقال من يعثر عليه من الشباب والرجال ممن هم دون الخمسين سنة.
ورق التوت الذي سقط لم يكشفْ نظام بشار فقط, وإنما كشف أيضًا دور "حزب الله" اللبناني في قمع الاحتجاجات السورية, فقد سبق لقوى 14 آذار اللبنانية أن اتهمت الحزب بقمع الاحتجاجات في سوريا, الحزب يقوم بإرسال قناصة إلى سوريا لسحق المتظاهرين من أعلى البنايات, كما تقوم إيران بدعم النظام سياسيًّا وترسل خبراء في قمع الاحتجاجات لمساعدة الجيش السوري.
ورغم النفي الإيراني المستمر للتقارير التي تتحدث عن تقديم دعم للجيش السوري لمواجهة الاحتجاجات السلميَّة ضد النظام, إلا أن عضوًا سابقًا في الشرطة السرية لنظام بشار الأسد كشف عن أن هناك قناصة إيرانيين في سوريا يشاركون بنسبة كبيرة في الحملة الوحشية التي يشنها الأسد ضد المعارضين للنظام, ونقلت صحيفة "الديلي تليجراف" البريطانيَّة مؤخرًا عن الضابط, الذي اشترط عدم ذكر اسمه تجنبًا لأي عمل انتقامي من جانب النظام ضده, أنه عبر إلى الحدود التركية بعدما تلقى أوامر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين وقتلهم إلى جانب بعض الأعمال الوحشيَّة التي مورست خلال الشهور الخمس الماضية من بدء المظاهرات والاحتجاجات, وقال: "إنه كان على بينة خلال الشهريين الماضيين من وجود عناصر إيرانيَّة داخل صفوف الجيش السوري, وهو ما أكده كبار الضباط إلى جانب فريقه في العاصمة السورية".
بات مؤكدًا أن نظام بشار القمعي يواجه أيامه الأخيرة, وأن الحصار الدولي بدأ يخنق هذا النظام البائس, وهناك دول قامت بطرد سفراء نظام بشار من عواصمها, لكن هذا الإجراء يمثل رد فعل دبلوماسي وآثاره بسيطة على نظام الأسد, ولكن التأثير الأكبر هو قطع العلاقات معه وفرض عزلة عليه.
موقف الولايات المتحدة المائع بدأ يتطور إلى الأفضل, وأعلنت إدارة أوباما أن بشار الأسد أصبح فاقدًا للشرعية، وأن شعبه سيكون في حال أفضل من دونه.
وندَّد عدد من دول المنطقة أهمها تركيا والسعوديَّة وقطر والبحرين والكويت والأردن بمواصلة القمع في سوريا, وسحبت بعض هذه الدول سفراءها, والموقف السعودي شديد الأهمية هنا وسيكون له آثاره الدبلوماسيَّة القويَّة.
واللافت هنا أن ترسل منظمة "هيومن رايتس ووتش" خطابًا إلى نبيل العربي, أمين عام جامعة الدول العربية, تدعو فيه الجامعة العربية لعقد اجتماع طارئ لمناقشة حملة القمع التي تشهدها سوريا, مطالبة نبيل العربي بالضغط على سوريا من أجل إتاحة دخول بعثة تقصي الحقائق المفوَّضة من قِبل الأمم المتحدة, والمراقبين المستقلين والصحفيين إلى الأراضي السورية دون إعاقة.
واللافت أيضًا أن تقول المنظمة في خطابها: "إن المنطقة تتغير ويجب على الجامعة العربية أن تتغير بدورها لتبقى الجامعة العربيَّة ذات أهمية, مطالبة جامعة الدول العربية بالسعي وراء مصالح مواطني الدول الأعضاء خاصة الشعب السوري الذي يعاني القمع الشديد", وكأن المنظمة تذكِّر الجامعة بدورها العربي, وكأنها أيضًا تقوم مقام الحكومات العربيَّة الصامتة إن لم تكن المتواطئة.
الموقف التركي هو الآخر يتدرج في التشدد من العمليات العسكريَّة لنظام بشار, الذي يواجه عزلة أكبر إقليميًّا ودوليًّا لحمله على إنهاء حملات القمع التي أوقعت منذ منتصف مارس الماضي ما لا يقل عن 2200 قتيل معظمهم مدنيون, موقف أنقرة بدا في نظر المعارضين السوريين بالغ اللين تجاه دمشق, لكنه تطوَّر إلى الحد الذي يدعو فيه وزير الخارجية أحمد داود أوغلو نظام بشار لوقف العمليات العسكرية فورًا وبلا شروط, ويفترض "الإنذار الأخير" الذي وجهه وزير الخارجية التركي أن تركيا ربما ستمضي في خيار المواجهة الدوليَّة مع نظام الأسد بعدما استنفدت محاولات إقناعه بوقف العنف, وتنفيذ إصلاحات حقيقية قبل فوات الأوان.
ويحتمل أن تدعم تركيا من الآن التحركات الرامية إلى تشديد الطوق سياسيًّا على النظام السوري بالتنسيق مع الدول العربيَّة, وكذلك مع الدول الأوربيَّة والولايات المتحدة التي فرضت عقوبات دبلوماسيَّة واقتصاديَّة على النظام.
وتحذير الرئيس الروسي "ديمتري مدفيدف" نظيره السوري من "مصير محزن" في حال استمرت حملات القمع, يوحي بأن آخر حلفاء النظام السوري قد ينفضون عنه في حال لم يقبل بالنصائح التي تسدى إليه لوقف نزيف الدم.
وما يؤكد أن نظام بشار يعيش أيامه الأخيرة ويخوض معركته الأخيرة, تشبثه بالسلطة لآخر رمق لعلَّ الحل العسكري ينجيه, فقد أفادت صحيفة "الباييس" الإسبانية أن رئيس الوزراء الإسباني "خوسيه لويس ثاباتيرو" أرسل مؤخرًا مستشاره الخاص "بيرناردينو ليون" في مهمَّة سرية ليقترح على الرئيس السوري خطة للخروج من الأزمة وعرض عليه الإقامة في إسبانيا إذا قرَّر التنحي, لكن الأسد رفض بشدة, مما جعل المبعوث الإسباني يقول: "أشعر بأن الأسد لن يتنازل عن أي شيء أساسي, والأشخاص الذين حاورتهم كانوا بعيدين جدًّا عن الواقع".
هذا العمى السياسي يؤكِّد أن النهاية اقتربت، وأن النظام لا يدرك خطورة ما يدور حوله, لكي تتحقق سنة الله الكونية فيه ونرى نهايته كما رأينا نهاية زين العابدين ومبارك.
المصدر: موقع الإسلام اليوم.